بيان آخر في واقعة رحلة النبيّ وحضور عليّ عنده











بيان آخر في واقعة رحلة النبيّ وحضور عليّ عنده



ذکر الشيخ المفيد رحمه الله في فصل من کتابه (الإرشاد) ما أکّد لعليّ من الفضل وتخصّصه منه بجليل رتبته في حجّة الوداع وغير ذلک إلي أن قال: فأفاق رسول اللَّه صلي الله عليه و آله إفاقةً فافتقد عليّاً عليه السلام، فقال - وأزواجه حوله -: «ادعوا لي أخي وصاحبي»، وعاوده الضعف، فاُصمِتَ، فقالت عائشة: ادعوا له أبا بکر، فَدُعِيَ فدخل عليه فَقعد عند رأسه فلما فتح عينه نظر إليه و أعرض عنه بوجهه، فقام أبو بکر، وقال: لو کان له إليَّ حاجةً لأفضي بها إليَّ. فلمّا خرج أعاد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله القول ثانية وقال: «ادعوا لي أخي وصاحبي». فقالت حفصة: ادعوا له عمر. فدعي، فلمّا حضر رآه النبيّ صلي الله عليه و آله فأعرض عنه، فانصرف.

ثمّ قال: «ادعوا لي أخي وصاحبي»، فقالت اُمّ سلمة (رضي اللَّه عنها): ادعوا له عليّاً عليه السلام، فإنّه لا يريد غيره، فَدُعِيَ أمير المؤمنين عليه السلام، فلمّا دنا منه أومأ إليه، فأکبّ عليه، فناجاه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله طويلاً، ثمّ قام فجلس ناحيةً حتّي أَغفي رسولُ اللَّه صلي الله عليه و آله. فقال له النّاس: ما الّذي أوعز إليک، يا أبا الحسن؟ فقال: «علّمني ألف باب، فتح لي کلّ باب ألف باب، ووصّاني بما أنا قائم به إن شاء اللَّه».

ثمّ ثَقُل صلي الله عليه و آله وحضره الموت وأمير المؤمنين عليه السلام حاضر عنده، فلمّا قَرُبَ خروج نفسه، قال له: «ضع رأسي - يا عليّ - في حجرک، فقد جاء أمر اللَّه عزّ وجلّ، فإذا فاضت نفسي فَتَناوَلها بيدک، وامسح بها وَجهَک، ثمّ وجّهني إلي القبلة، وتولّ أمري، وصلِّ علَيّ أوّل النّاس، ولا تُفارقني حتّي تُوارِيَني في رمسي، واستعن باللَّه تعالي».

فأخذ عليّ عليه السلام رأسَهُ فَوَضَعه في حِجره، فَاُغمِيَ عليه، فأکبَّتْ فاطمة عليهاالسلام تنظر في وجهه وتَندُبه وتَبکي، وتقول:


«وأبيض يُستَسْقَي الغَمامُ بوجهه
ثِمالُ اليَتامي عِصمةٌ للأراملِ»


ففتح رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عينيه وقال بصوت ضئيل: «يا بُنيّة، هذا قول عمّکِ أبي طالب لا تقوليه، ولکن قولي: «وَمَا مُحمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِکُمْ». فبکت طويلاً، فأوما إليها بالدنوّ منه، فدنت منه، فأسرّ إليها شيئاً تهلّل له وجهها.

ثمّ قضي صلي الله عليه و آله ويدُ أمير المؤمنين عليه السلام اليمني تحت حنکه، ففاضت نفسه صلي الله عليه و آله فيها، فرفعها إلي وجهة فَمَسَحَهُ بها، ثمّ وجّهه، وغمّضه، ومَدَّ عليه إزارَه، واشتغلَ بالنظر في أمره.

فجاءت الرواية أنّه قيل لفاطمة عليهاالسلام: ما الّذي أسرّ إليک رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فسرّي عنک به ما کنت عليه من الحزن والقلق بوفاته؟ قالت: «إنّه أخبرني أنّني أوّل أهل بيته لحوقاً به، وأنّه لن تطول المدّة بي بعده حتّي اُدرکه، فسُرِّيَ ذلک عنّي.

ولمّا أراد أمير المؤمنين عليه السلام غسله صلي الله عليه و آله استدعي الفضل بن العبّاس، فأمره أن يُناوله الماء لغَسله بعد أن عَصَبَ عينيه، ثمّ شَقَّ قميصَه من قِبَلِ جَيبه حتّي بلغ به إلي سُرَّتِه، وتولَّي غسله وتحنيطه وتکفينه، والفضل يعاطيه الماء ويُعينه عليه، فلمّا فَرَغَ مِن غَسله وتجهيزه تقدّم فَصَلّي عليه وحدَه، لم يَشرکه معه أحدٌ في الصلاة عليه.

وکان المسلمون في المسجد يخوضون فيمن يُؤُمُّمهم في الصلاة عليه وأين يُدفَن؟ فخرج إليهم أمير المؤمنين عليه السلام وقال لهم: «إنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله إمامُنا حَيّاً وميتاً، فيدخل إليه فوجٌ فوجٌ منکم فيُصلُّون عليه بغير إمام وينصرفون، وإنّ اللَّه لم يَقبِض نبيّاً في مکان إلّا وقد ارتضاه لرمسه فيه، وإنّي دافنه في حجرته الّتي قُبِض فيها»، فسلّم القوم لذلک ورضوا به.

ولمّا صلّي المسلمون عليه، أنفذ العبّاسَ بن عبدالمطّلب برجل إلي أبي عبيدة بن الجرّاح، وکان يَحفِر لأهل مکّة ويُضَرَّح[1] وکان ذلک عادة أهل مکّة، وأنفذ إلي زيد بن سهل، وکان يَحفِر لأهل المدينة ويَلحَد، فاستدعاهما، وقال: اللّهمّ خِر لنبيّک، فوجد أبو طلحة زيد بن سهل، وقيل له: احتفر لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فحفر له لحداً، ودخل أميرُ المؤمنين عليه السلام والعبّاس بن عبدالمطّلب والفضلُ بن العبّاس واُسامةُ بن زيد ليتولّوا دفن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فنادت الأنصار من وراء البيت: يا عليّ، إنّا نُذکِّرک اللَّه وحقّنا اليوم من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أن يذهب، أدخل منّا رجلاً يکون لنا به حظّ من مُواراة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله. فقال عليه السلام: «ليدخل أوس بن خَوْليّ»، وکان بدريّاً فاضلاً من بني عوف من الخزرج.

فلمّا دخل قال له عليّ عليه السلام: «انزل القبر»، فنزل، ووضع أمير المؤمنين عليه السلام رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي يديه ودلّاه في حفرته، فلمّا حصل في الأرض قال له: «اخرج»، فخرج ونزل عليّ عليه السلام القبر، فکشف به عن وجه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ووضع خدّه علي الأرض موجّهاً إلي القبلة علي يمينه، ثمّ وضع عليه اللِّبن، وهال عليه التراب.

وکان ذلک في يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر، سنة إحدي عشرة من هجرته، وهو ابن ثلاث وستّين سنة.

ولم يحضر دفن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أکثرُ النّاس لما جري بين المهاجرين والأنصار من التشاجر في أمر الخلافة، وفات أکثرهم الصلاةُ عليه لذلک، إلي آخر الحديث.[2] .







  1. الضريح: الشنّ في وسط القبر واللحد في الجانب.
  2. إرشاد المفيد 189:1، ونحوه في الطبقات الکبري 291:2.