فلسفة الحكم











فلسفة الحکم



تتلخص فلسفة الحکم ـ عند الامام ـ في عهده للأشتر الذي ولاه مصر فدس له السم ـ في الطريق ـ احد الاشخاص بتحريض من معاوية وعمرو بن العاص کما يحدثنا الرواة. والي القاريء ملخص العهد[1] :

«هذا ما امر به عبدالله أمير المؤمنين مالک بن الحارث الاشتر في عهده اليه حين ولاه مصر.. أمره بتقوي الله وايثار طاعته واتباع ما امر به في کتابه..

ثم اعلم يا مالک اني قد وجهتک الي بلاد قد جرت عليها دول قبلک من عدل وجور، وان الناس ينظرون من امورک في مثل ما کنت تنظر فيه الي امور الولاة قبلک.

ويقولون فيک ما کنت تقوله فيهم..

فليکن أحب الذخائر اليک خيرة: العمل الصالح.

أشعر قلبک الرحمة للرعية.. فإنک فوقهم..

أنصف الله وأنصف الناس من نفسک ومن خاصة أهلک ومن لک فيه هوي من رعيتک.. وليکن أحب الامور إليک أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضي الرعية. فإن سخط العامة، يجحف برضاء الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضي العامة..

وليکن أبعد رعيتک منک.. أطلبهم لمعايب الناس.. إن شر وزرائک من کان قبلک للأشرار وزيراً، ومن شرکهم في الآثام فلا يکونن لک بطانة..

ثم ليکن آثرهم عندک أقولهم بالحق لک.. ألصق بأهل الورع والصدق، ثم حثهم علي أن لا يطروک ولا يبجحوک بباطل لم تفعله..

[صفحه 186]

ولايکونن المحسن والمسيء عندک سواء: فإن في ذلک تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة علي الإسائة.

والزم کلا منهم ماالزم نفسه، واعلم أنه ليس شيء أدعي الي حسن ظن وال برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤنات عليهم..

لا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الامة..

وصلحت عليها الرعية.

ولاتحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلک السنن..

وأکثر مدارسة العلماء ومناقشة الحکماء..

واعلم: أن الرعية طبقات لايصلح بعضها الا ببعض ولا غني لبعضها عن بعض؛ فمنها الجنود، ومنها کتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل وعمال الإنصاف وأهل الجزية والخراج من أهل الذمة، ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات ومنها الطبقة السفلي من ذوي الحاجات والمسکنة.

وکل قد سمي الله له سهمه، ووضع علي حده وفرضه في کتابه أو سنة نبيه..

إن فضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية..

اختر للحکم بين الناس: أفضل رعيتک في نفسک ممن لاتضيق به الامور ولا تمحکه الخصوم.. ثم انظر أمور عمالک فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة وإثرة..

أسبغ عليهم الارزاق، فإن ذلک قوة لهم علي استصلاح أنفسهم، وغني لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم ان خالفوک أمرک..

ثم تفقد اعمالهم وابعت العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم.. وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في اصلاحهم صلاحا لمن سواهم.. لأن الناس کلهم عيال علي الخراج..

ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً.. واعلم مع ذلک ان في کثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتکاراً للمنافع وتحکماً في البياعات، وذلک باب مضر للعامة وعيب علي الولاة.

[صفحه 187]

فامتنع من الاحتکار، فمن قارف حکرة بعد نهيک اياه فنکل به وعاقبه من غير اسراف.

ثم الله الله في الطبقة السفلي من الذين لا حيلة لهم من المساکين والمحتاجين..

إجعل لهم قسما من بيت المال.. ولا تشخص همک عنهم، ولا تصعر خدک لهم.

وتفقد أمور من لايصل اليک منهم. ففرغ لأولئک ثقتک من أهل الخشية والتواضع لترفع إليک أمورهم..

واجعل لذوي الحاجات وقتاً تفرغ لهم فيه شخصک وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه..

وتعقد عنهم جندک وأعوانک من حراسک وشرطک حتي يکلمک مکلمهم غير متعتع.. ثم احتمل الخرق منهم والعيّ ونح عنهم الضيق..

ولا تطولن احتجاجک عن رعيتک.. فالاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه.. فيشاب الحق بالباطل. وانما الوالي بشر لايعرف ما تواري عنه الناس من الامور. وليست علي الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الکذب..

ثم ان للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة انصاف في المعاملة:

فاحسم مادة أولئک بقطع أسباب تلک الاحوال..

وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد..

وحط عهدک بالوفاء وارع ذمتک بالامانة.. فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس اشد عليه اجتماعاً ـ مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ـ من تعظيم الوفاء بالعهود..

ولا تغدرن بذمتک.. واياک والدماء وسفکها بغير حلها.. ولاعذر لک عند الله ولاعندي في قتل العمد..

وإياک والإعجاب بنفسک والثقة بما يعجبک منها وحب الإطراء..

[صفحه 188]

وإياک والمن علي رعيتک بإحسانک..

أو أن تعدهم فتتبع موعدک بخلفک.. وإياک والعجلة بالأمور قبل أوانها أو التساقط فيها عند إمکانها...

فضع کل أمر موضعه.. أملک حمية انفک وسورة حدک وسطوة يدک وغرب لسانک.

واحترس من کل ذلک بکف البادرة وتأخير السطوة حتي يسکن غضبک فتملک الاختيار».



صفحه 186، 187، 188.





  1. ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 4 / 119 و 152.