معاوية و حجر بن عدي و اصحابه











معاوية و حجر بن عدي و اصحابه



إن معاوية استعمل مغيرة بن شعبة علي الکوفة سنة إحدي وأربعين فلما أمره عليها دعاه وقال له: أما بعد: فإن لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا. وقد قال المتلمس:


لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا
وما علم الانسان إلا ليعلما


وقد يجزي عنک الحکيم بغير التعليم، وقد أردت ايصاءک بأشياء کثيرة فأنا تارکها إعتمادا علي بصرک بما يرضيني، ويسعد سلطاني، ويصلح رعيتي، ولست تارک ايصاءک بخصلة: لا تقهم عن شتم علي وذمه. والترحم علي عثمان والاستغفار له، و العيب علي أصحاب علي والاقصاء لهم، وترک الاستماع منهم، وبإطراء شيعة عثمان رضوان الله عليه والادناء لهم، والاستماع منهم. فقال المغيرة: قد جربت وجربت و عملت قبلک لغيرک، فلم يذمم بي رفع ولا وضع، فستبلو فتحمد أو تذم. ثم قال: بل نحمد إن شاء الله. فأقام المغيرة عاملا علي الکوفة سبع سنين وأشهرا وهو من أحسن شئ سيرة وأشده حبا للعافية، غير أنه لا يدع شتم علي والوقوع فيه والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم، والدعاء لعثمان بالرحمة والاستغفار له والتزکية لاصحابه، فکان حجر بن عدي إذا سمع ذلک قال: بل اياکم فذم الله ولعن ثم قام وقال: إن الله عزوجل يقول: کونوا قوامين بالقسط شهداء الله، وأنا أشهد أن من تذمون وتعيرون لاحق بالفضل، وأن من تزکون وتطرون أولي بالذم. فيقول له المغيرة: يا حجر! لقد رمي بسهمک إذ کنت أنا الوالي عليک، يا حجر! ويحک اتق السلطان، اتق غضبه وسطوته، فإن غضب السلطان أحيانا مما يهلک أمثالک کثيرا، ثم يکف عنه ويصفح، فلم يزل حتي کان في آخر إمارته قام المغيرة فقال في علي وعثمان کما کان يقول وکانت مقالته. اللهم ارحم عثمان بن عفان، وتجاوز عنه واجزه بأحسن عمله، فانه عمل بکتابک واتبع سنة نبيک صلي الله عليه وسلم، وجمع کلمتنا، وحقن دمائنا، وقتل مظلوما،[1] اللهم فارحم أنصاره وأوليائه ومحبيه والطالبين

[صفحه 38]

بدمه. ونال من علي بن أبي طالب عليه السلام ولعنه ولعن شيعته، فوثب حجر فنعر نعرة أسمعت کل من کان في المسجد وخارجه وقال: إنک لا تدري بمن تولع من هرمک أيها الانسان! مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فإنک قد حبستها عنا ولم يکن ذلک لک، ولم يکن يطمع في ذلک من کان قبلک، وقد أصبحت مولعا بذم أميرالمؤمنين، وتقريظ المجرمين. فقام معه أکثر من ثلثي الناس يقولون: صدق والله حجر وبر، مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فإنا لا ننتفع بقولک هذا ولا يجدي علينا شيئا. وأکثروا في مثل هذا القول، فنزل المغيرة فدخل القصر فاستأذن عليه قومه فأذن لهم فقالوا: علام تترک هذا الرجل يقول هذه المقالة و يجتري عليک في سلطانک هذه الجرأة؟ فيوهن سلطانک، ويسخط عليک أميرالمؤمنين معاوية، وکان أشدهم له قولا في أمر حجر والتعظيم عليه عبدالله بن أبي عقيل الثقفي، فقال لهم المغيرة: إني قد قتلته إنه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيها بما ترونه يصنع بي، فيأخذه عند أول وهلة فيقتله شر قتلة، انه قد اقترب أجلي، وضعف عملي، ولا احب أن ابتدئ أهل هذا المصر بقتل خيارهم وسفک دمائهم، فيسعدوا بذلک و أشقي، ويعز في الدنيا معاوية، ويذل يوم القيامة المغيرة.

ثم هلک المغيرة سنة 51 فجمعت الکوفة والبصرة لزياد (ابن سمية) فأقبل زياد حتي دخل القصر بالکوفة ووجه إلي حجر فجاءه، وکان له قبل ذلک صديقا فقال له: قد بلغني ما کنت تفعله بالمغيرة فيحتمله منک وإني والله لا أحتملک علي مثل ذلک أبدا، أرأيت ما کنت تعرفني به من حب علي ووده، فإن الله قد سلخه من صدري فصيره بغضا وعداوة، وما کنت تعرفني به من بغض معاوية وعداوته فان الله قد سلخه من صدري وحوله حبا ومؤدة، واني أخوک الذي تعهد، إذا أتيتني وأنا جالس للناس فاجلس معي علي مجلسي، وإذا أتيت ولم اجلس للناس فاجلس حتي أخرج إليک، ولک عندي في کل يوم حاجتان: حاجة غدوة، وحاجة عشية، انک إن تستقم تسلم لک دنياک ودينک، وإن تأخذ يمينا وشمالا تهلک نفسک، وتشط عندي دمک، اني لا احب التنکيل قبل التقدمة، ولا آخذ بغير حجة، اللهم اشهد. فقال حجر: لن يري الامير مني إلا ما يحب وقد نصح وأنا قابل نصيحته. ثم خرج من عنده.

[صفحه 39]

ولما ولي زياد جمع أهل الکوفة فملا منهم المسجد والرحبة والقصر ليعرضهم علي البراءة من علي[2] فقام في الناس وخطبهم ثم ترحم علي عثمان وأثني علي أصحابه ولعن قاتليه، فقام حجر ففعل مثل الذي کان يفعل بالمغيرة، وکان زياد يقيم ستة أشهر في الکوفة وستة أشهر في البصرة فرجع إلي البصرة واستخلف علي الکوفة عمرو بن حريث فبلغه ان حجرا يجتمع إليه شيعة علي ويظهرون لعن معاوية والبرائة منه، وانهم حصبوا عمرو بن حريث فشخص إلي الکوفة حتي دخلها فأتي القصر فدخله ثم خرج فصعد المنبر وعليه قباء سندس ومطرف خز أخضر قد فرق شعره وحجر جالس في المسجد حوله أصحابه أکثر ما کانوا فصعد المنبر وخطب وحذر الناس وقال: أما بعد: فإن غب البغي والغي وخيم، إن هؤلاء جموا فأشروا، وامنوني فاجترؤا علي الله لئن لم تستقيموا لاداوينکم بدوائکم، ولست بشئ إن لم أمنع باحة الکوفة من حجر، وأدعه نکالا لمن بعده، ويل امک يا حجر! سقط العشاء بک علي سرحان.

ثم قال لشداد بن الهيثم الهلالي أمير الشرط: اذهب فأتني بحجر فذهب إليه فدعاه فقال أصحابه: لا يأتيه ولا کرامة فسبوا الشرط فرجعوا إلي زياد فأخبروه، فقال: يا أشراف أهل الکوفة أتشجون بيد وتأسون باخري؟ أبدانکم عندي وأهواءکم مع هذا الهجاجة المذبوب.[3] وفي الکامل: أبدانکم معي وقلوبکم مع حجر الاحمق. و الله ليظهرن لي براءتکم أو لاتينکم بقوم اقيم بهم أودکم وصعرکم. فقالوا: معاذ الله أن يکون لنا رأي إلا طاعتک وما فيه رضاک. قال: فليقم کل رجل منکم فليدع من عند حجر من عشيرته وأهله ففعلوا وأقاموا أکثر أصحابه عنه، وقال زياد لصاحب شرطته: انطلق إلي حجر فإن تبعک فأتني به وإلا فشدوا عليهم بالسيوف حتي تأتوني به. فأتاه صاحب الشرطة يدعوه فمنعه أصحابه من إجابته فحمل عليهم فقال أبوالعمرطة الکندي لحجر: انه ليس معک رجل معه سيف غيري فما يغني سيفي؟ قم فألحق بأهلک يمنعک قومک. فقام وزياد ينظر إليهم وهو علي المنبر وغشيهم أصحاب زياد فضرب رجل من

[صفحه 40]

الحمراء يقال له: بکر بن عبيد رأس عمرو بن الحمق بعمود فوقع وحمله رجلان من الازد وأتيا به دار رجل يقال له: عبيدالله بن موعد الازدي، وضرب بعض الشرطة يدعا ئذ بن حملة التميمي وکسر نابه، وأخذ عمودا من بعض الشرط فقاتل به وحمي حجرا وأصحابه حتي خرجوا من أبواب کندة.

مضي حجر وأبوالعمرطة إلي دار حجر واجتمع إليهما ناس کثير ولم يأته من کندة کثير أحد فأرسل زياد وهو علي المنبر مذحج وهمدان إلي جبانة کندة وأمرهم أن يأتوه بحجر، وأرسل سائر أهل اليمن إلي جبانة الصائدين وأمرهم أن يمضوا إلي صاحبهم حجر فيأتوه به، ففعلوا فدخل مذحج وهمدان إلي جبانة کندة فأخذوا کل من وجدوا، فأثني عليهم زياد فلما رأي حجر قلة من معه أمرهم بالانصراف وقال لهم؟ لا طاقة لکم بمن قد اجتمع عليکم وما احب أن تهلکوا، فخرجوا فأدرکهم مذحج و همدان فقاتلوهم وأسروا قيس بن يزيد ونجا الباقون فأخذ حجر طريقا إلي بني حوت فدخل دار رجل منهم يقال: له سليم بن يزيد، وأدرکه الطلب فأخذ سليم سيفه ليقاتل فبکي بناته فقال حجر: بئسما أدخلت علي بناتک إذا قال: والله لا تؤخذ من داري أسيرا ولا قتيلا وأنا حي، فخرج حجر من خوخة في داره فأتي النخع فنزل دار عبدالله بن الحرث أخي الاشتر فأحسن لقاءه فبينما هو عنده إذ قيل له: إن الشرط تسأل عنک في النخع. وسبب ذلک ان أمة سوداء لقيتهم فقالت: من تطلبون؟ فقالوا: حجر بن عدي. فقالت: هو في النخع. فخرج حجر من عنده فأتي الازد فاختفي عند ربيعة بن ناجد فلما أعياهم طلبه دعا زياد محمد بن الاشعث وقال له: والله لتأتيني به أو لاقطعن کل نخلة لک وأهدم دورک، ثم لا تسلم مني حتي اقطعک إربا إربا. فاستمهله فأمهله ثلاثا واحضر قيس بن يزيد أسيرا فقال له زياد: لا بأس عليک قد عرفت رأيک في عثمان وبلاءک مع معاوية بصفين وإنک إنما قاتلت مع حجر حمية وقد غفرتها لک ولکني ائتني بأخيک عمير. فاستأمن له منه علي ماله ودمه فأمنه فأتاه به وهو جريح فأثقله حديدا وأمر الرجال أن يرفعوه ويلقوه ففعلوا به ذلک مرارا فقال قيس بن يزيد لزياد: ألم تؤمنه؟ قال: بلي قد أمنته علي دمه ولست اهريق له دما، ثم ضمنه وخلي سبيله.

[صفحه 41]

مکث حجر بن عدي في بيت ربيعة يوما وليلة فأرسل إلي محمد بن الاشعث يقول له ليأخذ له من زياد أمانا حتي يبعث به إلي معاوية فجمع محمد جماعة منهم جرير بن عبدالله، وحجر بن يزيد، وعبدالله بن الحارث أخو الاشتر، فدخلوا علي زياد فاستأمنوا له علي أن يرسله إلي معاوية فأجابهم فأرسلوا إلي حجر بن عدي فحضر عند زياد فلما رآه قال: مرحبا بک أبا عبدالرحمن! حرب في ايام الحرب، وحرب وقد سالم الناس. علي أهلها تجني براقش. فقال حجر: ما خلعت طاعة ولا فارقت جماعة واني لعلي بيعتي. فقال: هيهات هيهات يا حجر! أتشج بيد وتأسو باخري؟ وتريد إذا أمکننا الله منک أن نرضي؟ کلا والله لاحرصن علي قطع خيط رقبتک. فقال: ألم تؤمني حتي أتي معاوية فيري في رأيه؟ قال: بلي، إنطلقوا به إلي السجن، فلما مضي به قال: أما والله لولا أمانه ما برح حتي يلقط عصبه. فاخرج وعليه برنس في غداة باردة فحبس عشر ليال، وزياد ماله غير الطلب لرؤس أصحاب حجر.


صفحه 38، 39، 40، 41.








  1. هذه کلها تخالف ما هو الثابت المعلوم من سيرة عثمان کما فصلنا القول فيها في الجزء الثامن والتاسع.
  2. تاريخ ابن عساکره: 421.
  3. في لفظ الطبري: الهجهاجة الاحمق المذبوب.