قتل مالك الاشتر و الثناء عليه











قتل مالک الاشتر و الثناء عليه



ومن الصلحاء الذين قتلهم معاوية بغير ذنب أتاه مالک بن الحارث الاشتر النخعي لله در مالک وما مالک؟ لو کان من جبل لکان فندا، ولو کان من حجر لکان صلدا، علي مثل مالک فليبک البواکي، وهل موجود کمالک؟ أشد عباد الله بأسا، وأکرمهم حسبا، کان أضر علي الفجار من حريق النار، وأبعد الناس من دنس أو عار، حسام صارم، لا نابي الضريبة، ولا کليل الحد، حکيم في السلم، رزين في الحرب ذو رأي أصيل، وصبر جميل.

[صفحه 62]

کان ممن لا يخاف وهنه ولا سقطته، ولا بطؤه عما الاسراع إليه أحزم، ولا إسراعه إلي ما البطء عنه أمثل، کان يجمع بين اللين والعنف، فيسطو في موضع السطوة، ويرفق في موضع الرفق، کان فارسا شديد البأس شجاعا رئيسا حليما جوادا فصيحا شاعرا[1] .

کتب علي عليه السلام إلي مالک وهو يومئذ بنصيبين: أما بعد: فإنک ممن استظهرته علي إقامة الدين، وأقمع به نخوة الاثيم، وأشد الثغر المخوف، وکنت وليت محمد بن أبي بکر مصر فخرجت عليه بها خوارج وهو غلام حدث ليس بذي تجربة للحرب ولا بمجرب للاشياء، فأقدم علي لننظر في ذلک فيما ينبغي، واستخلف علي عملک أهل الثقة والنصيحة من أصحابک. والسلام.

فأقبل مالک إلي علي حتي دخل عليه فحدثه حديث أهل مصر وخبره خبر أهلها وقال: ليس لها غيرک، اخرج رحمک الله، فإني لم اوصک، اکتفيت برأيک، واستعن بالله علي ما أهمک، فاخلط الشدة باللين، وارفق ما کان الرفق أبلغ، واعتزم بالشدة حين لا يغني عنک إلا الشدة. فخرج الاشتر من عند علي فأتي رحله فتهيأ للخروج إلي مصر وأتت معاوية عيونه فاخبروه بولاية علي الاشتر، فعظم ذلک عليه وقد کان طمع في مصر فعلم أن الاشتر إن قدمها کان أشد عليه من محمد بن أبي بکر، فبعث معاوية إلي المقدم علي أهل الخراج بالقلزم وقال له: إن الاشتر قد ولي مصر فإن کفيتنيه لم آخذ منک خراجا ما بقيت وبقيت فاحتل له بما قدرت عليه. فخرج الرجل حتي أتي القلزم وأقام به، وخرج الاشتر من العراق إلي مصر فلما انتهي إلي القلزم إستقبله ذلک الرجل فعرض عليه النزول فقال: هذا منزل وهذا طعام وعلف وأنا رجل من أهل الخراج. فتزل عنده فأتاه بطعام فلما أکل أتاه بشربة من عسل قد جعل فيها سما فسقاه إياها، فلما شربها مات، وأقبل معاوية يقول لاهل الشام: إن عليا وجه الاشتر إلي مصر فادعوا الله أن يکفيکموه فکانوا کل يوم يدعون الله علي الاشتر، وأقبل الذي سقاه إلي معاوية فأخبره بمهلک الاشتر فقام معاوية خطيبا فحمد الله وأثني عليه وقال: أما بعد: فإنه کانت لعلي يمينان قطعت إحداهما يوم صفين يعني عمار بن ياسر، وقطعت

[صفحه 63]

الاخري اليوم يعني الاشتر[2] .

وفي لفظ ابن قتيبة في العيون 201:1: فقال معاوية لما بلغه الخبر: يا بردها علي الکبد! إن لله جنودا منها العسل. وقال علي: لليدين وللفم.

وفي لفظ المسعودي في المروج 39:2: ولي علي الاشتر مصر وأنفذه إليها في جيش فلما بلغ ذلک معاوية دس إلي دهقان وکان بالعريش[3] فأرغبه وقال: أترک خراجک عشرين سنة فاحتل للاشتر بالسم في طعامه. فلما نزل الاشتر العريش سأل الدهقان: أي الطعام والشراب أحب إليه؟ قيل: ألعسل. فأهدي له عسلا وقال: إن من أمره وشأنه کذا وکذا، ووصفه للاشتر وکان الاشتر صائما فتناول منه شربة فما استقرت في جوفه حتي تلف، وأتي من کان معه علي الدهقان ومن کان معه. وقيل: کان ذلک بالقلزم والاول أثبت. فبلغ ذلک عليا فقال: لليدين وللفم. وبلغ ذلک معاوية فقال: إن لله جندا من العسل.

قال الاميني: هاهنا تجد معاوية کيف لا يتحوب من ذلک الحوب الکبير قتل العبد الصالح الممدوح بلسان رسول الله وخليفته مولانا اميرالمؤمنين عليه السلام.[4] .وإنه واهل الشام فرحوا فرحا شديدا، بموت ذلک البطل المجاهد[5] لمحض انه کان يناصر إمام وقته المنصوص عليه والمجمع علي خلافته، ولا غرو فإنه کان يسر ابن هند کل ما ساء ملة الحق وأئمة الهدي وأولياء الصلاح، وما کان يسعه أن يأتي بطامة أکبر من هذه لو لم يکن في الاسلام للنفوس القادسة أي حرمة، وللائمة عليهم السلام ومناصريهم أي مکانة، حتي لو کان معاوية مستمرا علي ما دؤب عليه إلي أخريات عهد النبوة من الکفر المخزي فلم يحده الفرق من بارقة الاسلام إلي الاستسلام، فما جاء زبانيته الکفرة يومئذ بأفظع من هذه وأمثالها يوم قتلوا خيار أصحاب محمد صلي الله عليه وآله لمناصرتهم إياه، وحبهم ذوي قرباه، ودفاعهم عن ناموس أهل بيته الاکرمين.

[صفحه 64]


صفحه 62، 63، 64.








  1. راجع في بيان هذه الجمل کلها إلي ما اسلفناه في الجزء التاسع ص 41 تا 37 ط 1.
  2. تاريخ الطبري 54:6، کامل ابن الاثير:152:3.
  3. هي مدينة کانت أول عمل مصر من ناحية الشام علي ساحل بحر الروم.
  4. راجع ما أسلفناه في الجزء التاسع ص 37 تا 41.
  5. تاريخ ابن کثير: 312:7.