الرحلة الاولي











الرحلة الاولي



قال ابن قتيبة: قالوا: إستخار الله معاوية وأعرض عن ذکر البيعة حتي قدم المدينة سنة خمسين فتلقاه الناس فلما استقر في منزله أرسل إلي عبدالله بن عباس، وعبدالله ابن جعفر بن أبي طالب، وإلي عبدالله بن عمر، وإلي عبدالله بن الزبير، وأمر حاجبه أن لا يأذن لاحد من الناس حتي يخرج هؤلاء النفر فلما جلسوا تکلم معاوية فقال: ألحمد لله الذي أمرنا بحمده، ووعدنا عليه ثوابه، نحمده کثيرا کما أنعم علينا کثيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريک له، وان محمدا عبده ورسوله. أما بعد: فإني قد کبر سني ووهن عظمي، وقرب أجلي، وأوشکت أن ادعي فاجيب، وقد رأيت أن استخلف عليکم بعدي يزيد ورأيته لکم رضا وأنتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها، ولم يمنعني أن احضر حسنا وحسينا إلا أنهما أولاد أبيهما، علي حسن رأيي فيهما وشديد محبتي لهما، فردوا علي أميرالمؤمنين خيرا يرحمکم الله.

فتکلم عبدالله بن العباس فقال:

ألحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده واستوجب علينا الشکر علي آلائه وحسن بلائه، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريک له، وان محمدا عبده ورسوله، وصلي الله عليه محمد وآل محمد.

أما بعد: فإنک قد تکلمت فأنصتنا، وقلت فسمعنا، وإن الله جل ثناؤه وتقدست

[صفحه 243]

أسماؤه اختار محمدا صلي الله عليه وسلم لرسالته، واختاره لوحيه، وشرفه علي خلقه، فأشرف الناس من تشرف به، وأولاهم بالامر أخصهم به، وإنما علي الامة التسليم لنبيها إذ إختاره الله لها فإنه إنما اختار محمدا بعلمه، وهو العليم الخبير، واستغفر الله لي ولکم.

فقام عبدالله بن جعفر فقال:

ألحمد لله أهل الحمد ومنتهاه، نحمده علي إلها منا حمده، ونرغب إليه في تأدية حقه، وأشهد أن لا إله إلا الله واحدا صمدا لم يتخذ صاحبه ولا ولدا، وان محمدا عبده ورسوله صلي الله عليه وسلم. أما بعد: فإن هذه الخلافة إن اخذ فيها بالقران؟ فأولوا الارحام بعضهم أولي ببعض في کتاب الله. وإن اخذ فيها بسنة رسول الله؟ فأولوا رسول الله، وإن اخذ بسنة الشيخين أبي بکر وعمر فأي الناس أفضل وأکمل وأحق بهذا الامر من آل الرسول؟ و أيم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الامر موضعه، لحقه وصدقه، ولاطيع الله، وعصي الشيطان، وما اختلف في الامة سيفان، فاتق الله يا معاوية فانک قد صرت راعيا ونحن الرعية، فانظر لرعيتک، فانک مسئول عنها غدا، وأما ما ذکرت من ابني عمي. وترکک أن تحضرهما، فوالله ما أصبت الحق، ولا يجوز لک ذلک إلا بهما، وإنک لتعلم أنهما معدن العلم والکرم، فقل أودع، وأستغفر الله لي ولکم.

فتکلم عبدالله بن الزبير فقال:

ألحمد لله الذي عرفنا دينه، وأکرمنا برسوله، أحمده علي ما أبلي وأولي، وأشهد أن لا إله إلا الله. وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد: فإن هذه الخلافة لقريش خاصة، تتناولها بمآثرها السنية، وأفعالها المرضية، مع شرف الآباء، وکرم الابناء، فاتق الله يا معاوية وأنصف من نفسک، فان هذا عبدالله بن عباس ابن عم رسول الله صلي الله عليه وسلم وهذا عبدالله بن جعفر ذي الجناحين، ابن عم رسول الله صلي الله عليه وسلم وأنا عبدالله بن الزبير ابن عمة رسول الله صلي الله عليه وسلم، وعلي خلف حسنا وحسينا، وأنت تعلم من هما، وما هما، فاتق الله يا معاوية وأنت الحاکم بيننا وبين نفسک. فتکلم عبدالله بن عمر فقال:

ألحمد لله الذي أکرمنا بدينه وشرفنا بنبيه صلي الله عليه وسلم: أما بعد: فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية، ولا قيصرية، ولا کسروية، يتوارثها الابناء عن الآباء، ولو کان کذلک

[صفحه 244]

کنت القائم بها بعد أبي، فوالله ما أدخلني مع الستة من أصحاب الشوري، إلا أن الخلافة ليست شرطا مشروطا، وإنما هي في قريش خاصة، لمن کان لها أهلا، ممن ارتضاه المسلمون لانفسهم، من کان أتقي وأرضي، فإن کنت تريد الفتيان من قريش، فلعمري إن يزيد من فتيانها، واعلم أنه لا يغني عنک من الله شيئا. فتکلم معاوية فقال:

قد قلت وقلتم، وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الابناء، فإبني أحب إلي من أبنائهم، مع أن ابني إن قاولتموه وجد مقالا، وإنما کان هذا الامر لبني عبد مناف، لانهم أهل رسول الله صلي الله عليه وسلم فلما مضي رسول الله صلي الله عليه وسلم ولي الناس أبا بکر وعمر، من غير معدن الملک والخلافة، غير أنهما سارا بسيرة جميلة، ثم رجع الملک إلي بني عبد مناف، فلا يزال فيهم إلي يوم القيامة، وقد أخرجک الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها، فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله.

ثم أمر بالرحلة وأعرض عن ذکر البيعة ليزيد، ولم يقطع عنهم شيئا من صلاتهم وأعطياتهم، ثم انصرف راجعا إلي الشام، وسکت عن البيعة، فلم يعرض لها إلي سنة إحدي وخمسين.

الامامة والسياسة 144 -142:1، جمهرة الخطب 236 -233:2.

قال الاميني: لم يذکر في هذا اللفظ ما تکلم به عبدالرحمن، ذکره ابن حجر في الاصابة 408:2 قال: خطب معاوية فدعا الناس إلي بيعة يزيد، فکلمه الحسين ابن علي، وابن الزبير، وعبدالرحمن بن أبي بکر، فقال له عبدالرحمن: أهرقلية؟ کلما مات قيصر کان قيصر مکانه، لا نفعل والله أبدا.

صورة اخري

من محاورة الرحلة الاولي

قدم معاوية المدينة حاجا[1] فلما أن دني من المدينة خرج إليه الناس يتلقونه ما بين راکب وماش، وخرج النساء والصبيان، فلقيه الناس علي حال طاقتهم وما تسارعوا به في القوت والقرب، فلان لمن کافحه، وفاوض العامة بمحادثته، وتألفهم جهده مقاربة

[صفحه 245]

ومصانعة ليستميلهم إلي ما دخل فيه الناس، حتي قال في بعض ما يجتلبهم به أهل المدينة: ما زلت أطوي الحزن من وعثاء السفر بالحب لمطالعتکم حتي انطوي البعيد، ولان الخشن، وحق لجار رسول الله أن يتاق إليه. فرد عليه القوم: بنفسک ودارک ومهاجرک أما ان لک منهم کأشفاق الحميم البر والحفي. حتي إذا کان بالجرف لقيه الحسين بن علي و عبدالله بن عباس فقال معاوية: مرحبا بابن بنت رسول الله، وابن صنو أبيه. ثم انحرف إلي الناس فقال: هذان شيخا بني عبد مناف. وأقبل عليهما بوجهه وحديثه فرحب وقرب وجعل يواجه هذا مرة، ويضاحک هذا اخري. حتي ورد المدينة، فلما خالطها لقيته المشاة والنساء والصبيان يسلمون عليه ويسايرونه إلي أن نزل، فانصرفا عنه، فمال الحسين إلي منزله، ومضي عبدالله بن عباس إلي المسجد، فدخله، وأقبل معاوية ومعه خلق کثير من أهل الشام حتي أتي عائشة ام المؤمنين فاستأذن عليها فأذنت له وحده لم يدخل عليها معه أحد وعندها مولاها ذکوان فقالت عائشة: يا معاوية أکنت تأمن أن اقعد لک رجلا فأقتلک کما قتلت أخي محمد بن أبي بکر؟ فقال معاوية: ما کنت لتفعلين ذلک. قالت: لم؟ قال: لاني في بيت أمن، بيت رسول الله. ثم أن عائشة حمدت الله وأثنت عليه وذکرت رسول الله صلي الله عليه وسلم وذکرت أبا بکر وعمر، وحضته علي الاقتداء بهما والاتباع لاثرهما، ثم صمتت، قال: فلم يخطب معاوية وخاف أن يبلغ ما بلغت فارتجل الحديث ارتجالا ثم قال:

أنت والله يا ام المؤمنين العالمة بالله وبرسوله دللتنا علي الحق، وحضضتنا علي حظ أنفسنا، وأنت أهل لان يطاع أمرک، ويسمع قولک، وإن أمر يزيد قضاء من القضاء، وليس للعباد الخيرة من أمرهم؟ وقد أکد الناس بيعتهم في أعناقهم، وأعطوا عهودهم علي ذلک ومواثيقهم، أفتري أن ينقضوا عهودهم ومواثيقهم؟! فلما سمعت ذلک عائشة علمت أنه سيمضي علي أمره فقالت: أما ما ذکرت من عهود ومواثيق فاتق الله في هؤلاء الرهط، ولا تعجل فيهم، فعلهم لا يصنعون إلا ما أحببت.

ثم قام معاوية فلما قام قالت عائشة: يا معاوية قتلت حجرا وأصحابه العابدين المجتهدين. فقال معاوية: دعي هذا، کيف أنا في الذي بيني وبينک وفي حوائجک؟ قالت: صالح. قال: فدعينا وإياهم حتي نلقي ربنا.

[صفحه 246]

ثم خرج ومعه ذکوان فاتکأ علي يد ذکوان وهو يمشي ويقول: تالله إن رأيت کاليوم قط خطيبا أبلغ من عائشة بعد رسول الله، ثم مضي حتي أتي منزله، فأرسل إلي الحسين بن علي فخلا به فقال له: يا بن أخي قد استوثق الناس لهذا الامر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، يا بن أخي فما أربک إلي الخلاف، قال الحسين: أرسل إليهم فإن بايعوک کنت رجلا منهم، وألا تکن عجلت علي بأمر. قال: نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحدا، فخرج وقد أقعد له ابن الزبير رجلا بالطريق فقال: يقول لک أخوک ابن الزبير: ما کان؟ فلم يزل به حتي استخرج منه شيئا.

ثم أرسل معاوية إلي ابن الزبير فخلا به فقال له: قد استوثق الناس لهذا الامر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم يا بن أخي فما أربک إلي الخلاف، قال: فارسل إليهم فإن بايعوک کنت رجلا منهم، وأن لا تکن عجلت علي بأمر. قال: وتفعل؟ قال: نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحدا.

فأرسل بعده إلي ابن عمر فأتاه وخلا به فکلمه بکلام هو ألين من صاحبيه، وقال: إني کرهت أن أدع امة محمد بعدي کالضان لا راعي لها[2] وقد استوثق الناس لهذا الامر غير خمسة نفر أنت تقودهم فما أربک إلي الخلاف، قال ابن عمر: هل لک في أمر تحقن به الدماء، وتدرک به حاجتک؟ فقال معاوية: وددت ذلک. فقال ابن عمر: تبرز سريرک ثم أجئ فابايعک علي أني أدخل فيما اجتمعت عليه الامة، فوالله لو أن الامة اجتمعت علي عبد حبشي لدخلت فيما تدخل فيه الامة. قال: وتفعل؟ قال: نعم ثم خرج.

وأرسل إلي عبدالرحمن بن أبي بکر فخلا به قال: بأي يد أو رجل تقدم علي معصيتي؟ فقال عبدالرحمن: أرجو أن يکون ذلک خيرا لي. فقال معاوية: والله لقد هممت أن أقتلک. فقال: لو فعلت لاتبعک الله في الدنيا، ولادخلک في الآخرة النار. ثم خرج.

بقي معاوية يومه ذلک يعطي الخواص. ويدني بذمة الناس، فلما کان صبيحة اليوم

[صفحه 247]

الثاني أمر بفراش فوضع له وسويت مقاعد الخاصة حوله وتلقاءه من أهله، ثم خرج وعليه حلة يمانية وعمامة دکناء وقد أسبل طرفها بين کتفيه وقد تغلف وتعطر فقعد علي سريره وأجلس کتابه منه بحيث يسمعون ما يأمر به، وأمر حاجبه أن لا يأذن لاحد من الناس وإن قرب، ثم أرسل إلي الحسين بن علي و عبدالله بن عباس فسبق ابن عباس فلما دخل وسلم عليه أقعده في الفراش علي يساره فحادثه مليا ثم قال: يابن عباس لقد وفر الله حظکم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرسول عليه السلام. فقال ابن عباس: نعم أصلح الله أمير المؤمنين، وحظنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الکل أوفر. فجعل معاوية يحدثه ويحيد به عن طريق المجاوبة، ويعدل إلي ذکر الاعمار علي اختلاف الغرائز والطبائع، حتي أقبل الحسين بن علي فلما رآه معاوية جمع له وسادة کانت عن يمينه فدخل الحسين وسلم فأشار إليه فأجلسه عن يمينه مکان الوسادة، فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم فأخبره ثم سکت، ثم ابتدأ معاوية فقال:

أما بعد: فالحمد لله ولي النعم، ومنزل النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله المتعالي عما يقول الملحدون علوا کبيرا، وان محمدا عبده المختص المبعوث إلي الجن والانس کافة لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حکيم حميد، فأدي عن الله وصدع بأمره، وصبر عن الاذي في جنبه، حتي أوضح دين الله، وأعز أولياءه، و قمع المشرکين، وظهر أمر الله وهم کارهون، فمضي صلوات الله عليه وقد ترک من الدنيا ما بذل له، واختار منها الترک لما سخر له زهادة واختيارا لله، وأنفة واقتدارا علي الصبر، بغيا لما يدوم ويبقي، فهذه صفة الرسول صلي الله عليه وسلم ثم خلفه رجلان محفوظان وثالث مشکوک، وبين ذلک خوض طول ما عالجناه مشاهدة ومکافحة ومعاينة وسماعا، وما أعلم منه فوق ما تعلمان، وقد کان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلي تجويزه، وقد علم الله ما احاول به من أمر الرعية من سد الخلل، ولم الصدع بولاية يزيد، بما أيقظ العين، وأحمد الفعل، هذا معناي في يزيد وفيکما فضل القرابة، وحظوة العلم، وکمال المروءة، وقد أصبت من ذلک عند يزيد علي المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندکما وعند غيرکما، مع علمه بالسنة وقراءة القرآن، والحلم الذي يرجح بالصم الصلاب، وقد علمتما ان الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة قدم علي الصديق والفاروق ودونهما من أکابر الصحابة وأوائل المهاجرين

[صفحه 248]

يوم غزوة السلاسل من لم يقارب القوم ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة ولا سنة مذکورة، فقادهم الرجل بإمرة، وجمع بهم صلاتهم، وحفظ عليهم فيئهم، وقال ولم يقل معه، وفي رسول الله صلي الله عليه وسلم أسوة حسنة، فمهلا بني عبدالمطلب فأنا وأنتم شعبا نفع وجد، وما زلت أرجو الانصاف في اجتماعکما، فما يقول القائل إلا بفضل قولکما، فردا علي ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابکما، واستغفر الله لي ولکما.

کلمة الامام السبط:

فتيسر ابن عباس للکلام ونصب يده للمخاطبة فأشار إليه الحسين وقال: علي رسلک، فأنا المراد: ونصيبي في التهمة أوفر. فأمسک ابن عباس فقام الحسين فحمد الله و صلي علي الرسول ثم قال:

أما بعد: يا معاوية فلن يؤدي القائل وإن أطنب في صفة الرسول صلي الله عليه وسلم من جميع جزءا، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله من ايجاز الصفة والتنکب عن استبلاغ البيعة، وهيهات هيهات يا معاوية فضح الصبح فحمة الدجي، وظهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضلت حتي أفرطت، وأستأثرت حتي أجحفت، ومنعت حتي بخلت، وجرت حتي جاوزت، ما بذلت لذي حق من أتم حقه بنصيب حتي أخذ الشيطان حظه الاوفر، ونصيبه الاکمل، وفهمت ما ذکرته عن يزيد من اکتماله وسياسته لامة محمد، تريد أن توهم الناس في يزيد، کأنک تصف محجوبا، أو تنعت غائبا، أو تخبر عما کان مما احتويته بعلم خاص، وقد دل يزيد من نفسه علي مواقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الکلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبق لاترابهن، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصرا، ودع عنک ما تحاول، فما أغناک أن تلقي الله بوزر هذا الخلق بأکثر مما أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدر باطلا في جور، وحنقا في ظلم، حتي ملات الاسقية، وما بينک وبين الموت إلا غمضة، فتقدم علي عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص، ورأيتک عرضت بنا بعد هذا الامر، ومنعتنا عن آبائنا، و لقد لعمر الله أورثنا الرسول عليه السلام ولادة، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول فأذعن للحجة بذلک، ورده الايمان إلي النصف، فرکبتم الاعاليل، وفعلتم الافاعيل، وقلتم: کان ويکون، حتي أتاک الامر يا معاوية من طريق کان قصدها

[صفحه 249]

لغيرک، فهناک فاعتبروا يا اولي الابصار، وذکرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلي الله عليه وسلم وتأميره له، وقد کان ذلک ولعمر وبن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول، وبيعته له، وما صار لعمرو يومئذ حتي أنف القوم إمرته، وکرهوا تقديمه، وعدوا عليه أفعاله فقال صلي الله عليه وسلم: لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليکم بعد اليوم غيري، فکيف يحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوکد الاحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم کيف صاحبت بصاحب تابع وحولک من لا يؤمن في صحبته، ولا يعتمد في دينه وقرابته، و تتخطاهم إلي مسرف مفتون، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه، و تشقي بها في آخرتک، إن هذا لهو الخسران المبين، وأستغفر الله لي ولکم.

فنظر معاوية إلي ابن عباس فقال: ما هذا يا بن عباس؟ ولما عندک أدهي وأمر. فقال ابن عباس: لعمر الله انها لذرية الرسول، وأحد أصحاب الکساء، ومن البيت المطهر، فاله عما تريد، فان لک في الناس مقنعا حتي يحکم الله بأمره وهو خير الحاکمين.

فقال معاوية: أعود الحلم التحلم، وخيره التحلم عن الاهل، انصرفا في حفظ الله. ثم أرسل معاوية إلي عبدالرحمن بن أبي بکر، وإلي عبدالله بن عمر، وإلي عبدالله بن الزبير فجلسوا، فحمد الله وأثني عليه معاوية ثم قال:

يا عبدالله بن عمر قد کنت تحدثتا انک لا تحب أن تبيت ليلة وليس في عنقک بيعة جماعة، وإن لک الدنيا وما فيها، وإني احذرک أن تشق عصا المسلمين، وتسعي في تفريق ملاهم، وأن تسفک دماءهم، وإن أمر يزيد قد کان قضاء من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم، وقد وکد الناس بيعتهم في أعناقهم، وأعطوا علي ذلک عهودهم ومواثيقهم.

ثم سکت.

فتکلم عبدالله بن عمر فحمد الله وأثني عليه. ثم قال:

أما بعد: يا معاوية قد کان قبلک خلفاء، وکان لهم بنون، ليس ابنک بخير من أبنائهم فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنک، فلم يحابوا في هذا الامر أحدا، ولکن اختاروا لهذه الامة حيث علموهم، وإن تحذرني أن أشق عصا المسلمين، وافزق ملاهم، واسفک دماءهم، ولم أکن لافعل ذلک إن شاء الله، ولکن إن استقام الناس فسأدخل في صالح ما تدخل فيه امة محمد.

[صفحه 250]

فقال معاوية: يرحمک الله، ليس عندک خلاف، ثم قال معاوية لعبد الرحمن بن أبي بکر نحو ما قاله لعبد الله بن عمر فقال له عبدالرحمن:

إنک والله لوددنا أن نکلک إلي الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد، والذي نفسي بيده لتجعلنها شوري أو لاعيدها جذعة، ثم قام ليخرج فتعلق معاوية بطرف ردائه ثم قال: علي رسلک، أللهم اکفنيه بما شئت، لا تظهرن لاهل الشام. فإني أخشي عليک منهم. ثم قال لابن الزبير نحو ما قاله لابن عمر، ثم قال له: أنت ثعلب رواغ کلما خرجت من جحر انجحرت في آخر، أنت ألبت هذين الرجلين، وأخرجتهما إلي ما خرجا إليه. فقال ابن الزبير: أتريد أن تبايع ليزيد؟ أرأيت إن بايعناه أيکما نطيع؟ أنطيعک؟ أم نطعيه؟ إن کنت مللت الخلافة فاخرج منها، وبايع ليزيد، فنحن نبايعه. فکثر کلامه وکلام ابن الزبير حتي قال له معاوية في بعض کلامه: والله ما أراک إلا قاتلا نفسک، ولکأني بک قد تخبطت في الحبالة. ثم أمرهم بالانصراف واحتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يخرج ثم خرج فأمر المنادي أن ينادي في الناس: أن يجتمعوا لامر جامع فاجتمع الناس في المسجد وقعد هؤلاء[3] حول المنبر فحمد الله وأثني عليه ثم ذکر يزيد فضله وقراءته القرآن ثم قال: يا أهل المدينة لقد هممت بيعة يزيد وما ترکت قرية ولا مدرة إلا بعثت إليها بيعته فبايع الناس جميعا وسلموا وأخرت المدينة بيعته وقلت بيضته وأصله ومن لا أخافهم عليه، وکان الذين أبوا البيعة منهم من کان أجدر أن يصله، والله لو علمت مکان أحد هو خير للمسلمين من يزيد لبايعت له.

فقام الحسين فقال: والله لقد ترکت من هو خير منه أبا واما ونفسا فقال معاوية کأنک تريد نفسک ؟ فقال الحسين: نعم أصلحک الله. فقال معاوية: إذا اخبرک، أما قولک خير منه اما فلعمري امک خير من امه، ولو لم يکن إلا انها امرأة من قريش لکان لنساء قريش أفضلهن، فکيف وهي ابنة رسول الله صلي الله عليه وسلم، ثم فاطمة في دينها و سابقتها، فامک لعمر الله خير من امه. وأما أبوک فقد حاکم أباه إلي الله فقضي لابيه علي أبيک. فقال الحسين: حسبک جهلک آثرت العاجل علي الآجل. فقال معاوية: و أما ما ذکرت من انک خير من يزيد نفسا فيزيد والله خير لامة محمد منک. فقال الحسين:

[صفحه 251]

هذا هو الافک والزور، يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو خير مني؟ فقال معاوية: مهلا عن شتم ابن عمک فانک لو ذکرت عنده بسوء لم يشتمک.

ثم التفت معاوية إلي الناس وقال: أيها الناس قد علمتم أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قبض ولم يستخلف أحدا، فرأي المسلمون أن يستخلفوا أبا بکر، وکانت بيعته بيعة هدي فعمل بکتاب الله وسنة نبيه، فلما حضرته الوفاة رأي أن يجعلها شوري بين ستة نفر اختارهم من المسلمين، فصنع أبوبکر ما لم يصنعه رسول الله، وصنع عمر ما لم يصنعه أبوبکر، کل ذلک يصنعون نظرا للمسلمين، فلذلک رأيت أن ابايع ليزيد لما وقع الناس فيه من الاختلاف ونظرا لهم بعين الانصاف[4] .


صفحه 243، 244، 245، 246، 247، 248، 249، 250، 251.








  1. من المتسالم عليه ان معاوية حج في سنة خمسين.
  2. أتصدق ان محمدا صلي الله عليه وآله ترک امته کالضان لا راعي لها ولم يرض بذلک معاوية؟ حاشا نبي الرحمة عن أن يدع الامة کما يحسبون، غير أنهم نبذوا وصيته وراء ظهورهم، وجروا الويلات علي الامة حتي اليوم.
  3. يعني المتخلفين عن بيعة يزيد.
  4. الامامة والسياسة 149:1 تا 155، تاريخ الطبري 170:6 واللفظ لابن قتيبة.