تحقيق و تحليل











تحقيق و تحليل



قال العلّامة الطباطبائي: قد عرفت أنّ الذي وقع في الروايات علي کثرتها في قصّة بعث عليّ وعزل أبي بکر- من کلمة الوحي الذي نزل به جبرئيل علي النبيّ صلي الله عليه و آله- هو قوله: «لا يؤدّي عنک إلّا أنت أو رجل منک». وکذا ما ذکره النبيّ صلي الله عليه و آله حين أجاب أبا بکر- لمّا سأله عن سبب عزله- إنّما هو متن ما أوحي إليه اللَّه سبحانه، أو قوله- وهو في معناه: «لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو رجل منّي». وکيفما کان فهو کلام مطلق؛ يشمل تأدية براءة وکلّ حکم إلهي احتاج النبيّ صلي الله عليه و آله إلي أن يؤدّيه عنه مؤدٍّ غيره، ولا دليل- لا من متون الروايات ولا غيرها- يدلّ علي اختصاص ذلک ببراءة.

وقد اتّضح أنّ المنع عن طواف البيت عرياناً، والمنع عن حجّ المشرکين بعد ذلک العام [الفتح]، وکذا تأجيل مَن له عهد إلي مدّة أو من غير مدّة، کلّ ذلک أحکام إلهيّة نزل بها القرآن، فما معني إرجاع أمرها إلي أبي بکر، أو نداء أبي هريرة بها وحده، أو نداؤه ببراءة وسائر الأحکام المذکورة في الجمع إذا بحّ عليّ عليه السلام حتي يصحل صوته من کثرة النداء؟! ولو جاز لأبي هريرة أن يقوم بها والحال هذه فلِم لم يجُز لأبي بکر ذلک؟!

[صفحه 274]

نعم أبدع بعض المفسّرين- کابن کثير وأترابه- هنا وجهاً؛ وجّهوا به ما تتضمّنه هذه الروايات انتصاراً لها، وهو أنّ قوله: «لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو رجل منّي» مخصوص بتأدية براءة فقط، من غير أن يشمل سائر الأحکام التي کان ينادي بها عليّ عليه السلام، وأنّ تعيينه صلي الله عليه و آله عليّاً بتبليغ آيات براءة أهلَ الجمع إنّما هو لما کان من عادة العرب أن لا ينقض العهد إلّا عاقده أو رجل من أهل بيته، ومراعاة هذه العادة الجارية هي التي دعت النبيّ صلي الله عليه و آله أن يأخذ براءة- وفيها نقض ما للمشرکين من عهد- من أبي بکر ويسلّمها إلي عليّ؛ ليستحفظ بذلک السنّة العربيّة فيؤدّيها عنه بعض أهل بيته. قالوا: وهذا معني قوله صلي الله عليه و آله لمّا سأله أبوبکر قائلاً: يا رسول اللَّه هل نزل فيَّ شي ء؟! قال: «لا ولکن لا يؤدّي عني إلّا أنا أو رجل منّي»، ومعناه أنّي إنّما عزلتک ونصبت عليّاً لذلک لئلّا أنقض هذه السنّة العربيّة الجارية....

فليت شعري من أين تسلّموا أنّ هذه الجملة التي نزل بها جبرئيل؛ «إنّه لا يؤدّي عنک إلّا أنت أو رجل منک»- مقيّدة بنقض العهد لا يدلّ علي أزيد من ذلک، ولا دليل عليه من نقل أو عقل!! فالجملة ظاهرة أتمّ ظهور في أنّ ما کان علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أن يؤدّيه لا يجوز أن يؤدّيه إلّا هو أو رجل منه، سواء[1] کان نقض عهد من جانب اللَّه- کما في مورد براءة- أو حکماً آخر إلهيّاً علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أن يؤدّيه ويبلّغه.

وهذا غير ما کان من أقسام الرسالة منه صلي الله عليه و آله ممّا ليس عليه أن يؤدّيه بنفسه الشريفة کالکتب التي أرسل بها إلي الملوک والاُمم والأقوام في الدعوة إلي الإسلام، وکذا سائر الرسالات التي کان يبعث بها رجالاً من المؤمنين إلي الناس

[صفحه 275]

في اُمور ترجع إلي دينهم والإمارات والولايات ونحو ذلک.

ففرقٌ جليّ بين هذه الاُمور وبين براءة ونظائرها؛ فإنّ ما تتضمّنه آيات براءة وأمثال النهي عن الطواف عرياناً والنهي عن حجّ المشرکين بعد العام أحکامٌ إلهيّة ابتدائيّة لم تبلّغ بعدُ ولم تؤدَّ إلي مَن يجب أن تبلغه؛ وهم المشرکون بمکّة والحجّاج منهم، ولا رسالة من اللَّه في ذلک إلّا لرسوله. وأمّا سائر الموارد التي کان يکتفي النبيّ صلي الله عليه و آله ببعث الرسل للتبليغ فقد کانت ممّا فرغ صلي الله عليه و آله فيها من أصل التبليغ، والتأدية بتبليغه من وسعه تبليغُه ممّن حضر؛ کالدعوة إلي الإسلام وسائر شرائع الدين، وکان يقول: «ليبلّغ الشاهد منکم الغائب».

ثمّ إذا مسّت الحاجة إلي تبليغه بعضَ من لا وثوق عادة ببلوغ الحکم إليه أو لا أثر لمجرّد البلوغ إلّا أن يعتني لشأنه بکتاب أو رسول[2] توسّل عند ذلک إلي رسالة أو کتاب؛ کما في دعوة الملوک.

وليتأمّل الباحث المنصف قوله: «لا يؤدّي عنک إلّا أنت أو رجل منک»، فقد قيل: «لا يؤدّي عنک إلّا أنت» ولم يُقَل: «لا يؤدّي إلّا أنت أو رجل منک» حتي يفيد اشتراک الرسالة، ولم يُقَل: «لا يؤدّي منک إلّا رجل منک» حتي يشمل سائر الرسالات التي کان صلي الله عليه و آله يقلّدها کلّ من کان من صالحي المؤمنين. فإنّما مفاد قوله: «لا يؤدّي عنک إلّا أنت أو رجل منک» أنّ الاُمور الرساليّة التي يجب عليک نفسک أن تقوم بها لا يقوم بها غيرک عوضاً منک، إلّا رجل منک؛ أي لا يخلفک فيما عليک کالتأدية الابتدائيّة إلّا رجل منک.

ثمّ ليت شعري ما الذي دعاهم إلي أن أهملوا کلمة الوحي التي هي قول اللَّه

[صفحه 276]

نزل به جبرئيل علي النبيّ صلي الله عليه و آله: «لا يؤدّي عنک إلّا أنت أو رجل منک»، وذکروا مکانها أنّه «کانت السنّة الجارية عند العرب أن لا ينقض العهد إلّا عاقده أو رجل من أهل بيته»!! تلک السنّة العربيّة التي لا خبر عنها- في أيّامهم ومغازيهم- ولا أثر، إلّا ما ذکره ابن کثير ونسبه إلي العلماء عند البحث عن آيات براءة.

ثمّ لو کانت سنّة عربيّة جاهليّة علي هذا النعت فما وزنها في الإسلام!! وما هي قيمتها عند النبيّ صلي الله عليه و آله وقد کان ينسخ کلّ يوم سنّة جاهليّة، وينقض کلّ حين عادة قوميّة، ولم تکن من جملة الأخلاق الکريمة أو السنن والعادات النافعة، بل سليقة قبائليّة تشبه سلائق الأشراف!! وقد قال صلي الله عليه و آله يوم فتح مکّة عند الکعبة- علي ما رواه أصحاب السير: «ألا کلّ مأثرة أو دم أو مال يدّعي فهو تحت قدميّ هاتين، إلّا سدانة البيت، وسقاية الحاج».

ثمّ لو کانت سنّة عربيّة غير مذمومة، فهل کان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ذهل عنها ونسيها حين أسلم الآيات إلي أبي بکر وأرسله، وخرج هو إلي مکّة حتي إذا کان في بعض الطريق ذکر صلي الله عليه و آله ما نسيه أو ذکّره بعض من عنده بما أهمله وذهل عنه من أمرٍ کان من الواجب مراعاته، وهو صلي الله عليه و آله المثل الأعلي في مکارم الأخلاق واعتبار ما يجب أن يعتبر من الحزم وحسن التدبير؟! وکيف جاز لهؤلاء المذکّرين أن يغفلوا عن ذلک وليس من الاُمور التي يُغفل عنها وتخفي عادة، فإنّما الذهول عنه کغفلة المقاتل عن سلاحه.

وهل کان ذلک بوحي من اللَّه إليه؛ أنّه يجب له أن لا يلغي هذه السنّة العربيّة الکريمة، وأنّ ذلک أحد الأحکام الشرعيّة في الباب، وأنّه يحرم علي وليّ أمر المسلمين أن ينقض عهداً إلّا بنفسه أو بيد أحد من أهل بيته؟ وما معني هذا الحکم؟ أو أنّه حکم أخلاقي أضطرّ إلي اعتباره؛ لما أنّ المشرکين ما کانوا يقبلون

[صفحه 277]

هذا النقض إلّا بأن يسمعوه من النبيّ صلي الله عليه و آله نفسه، أو من أحد من أهل بيته؟! وقد کانت السيطرة يومئذٍ له صلي الله عليه و آله عليهم، والزمام بيده دونه، والإبلاغ إبلاغ.

أو أنّ المؤمنين المخاطبين بقوله: «عَهَدتُّم»،[3] وقوله: «وَأَذَ نٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ي إِلَي النَّاسِ»،[4] وقوله: «فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِکِينَ»[5] ما کانوا يعتبرون هذا النقض نقضاً دون أن يسمعوه منه صلي الله عليه و آله، أو من واحد من أهل بيته، وإن علموا بالنقض إذا سمعوا الآيات من أبي بکر؟....

ليس التوغّل في مسألة الإمارة ممّا يهمّنا في تفهّم معني قوله: «لا يؤدّي عنک إلّا أنت أو رجل منک»؛ فإمارة الحاجّ سواء صحّت لأبي بکر أو لعليّ، دلّت علي فضلٍ أو لم تدلّ، إنّما هي من شعب الولاية الإسلاميّة العامّة التي شأنها التصرّف في اُمور المجتمع الإسلامي الحيويّة، وإجراء الأحکام والشرائع الدينيّة، ولا حکومة لها علي المعارف الإلهيّة، ومواد الوحي النازلة من السماء في أمر الدين.

إنّما هي ولاية رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؛ ينصب يوماً أبا بکر أو عليّاً لإمارة الحاجّ، ويؤمّر يوماً اُسامة علي أبي بکر وعامّة الصحابة في جيشه، ويولّي يوماً ابن اُمّ مکتوم علي المدينة وفيها من هو أفضل منه، ويولّي هذا مکّة بعد فتحها، وذاک اليمن، وذلک أمر الصدقات. وقد استعمل صلي الله عليه و آله أبا دجانة الساعدي أو سباع بن عرفطة الغفاري- علي ما في سيرة ابن هشام- علي المدينة عام حجّة الوداع، وفيها أبوبکر لم يخرج إلي الحجّ علي ما رواه البخاري ومسلم وأبوداود والنسائي

[صفحه 278]

وغيرهم وإنّما تدلّ علي إذعانه صلي الله عليه و آله بصلاحيّة من نصبه لأمرٍ لتصدّيه وإدارة رحاه.

وأمّا الوحي السماوي بما يشتمل عليه من المعارف والشرائع فليس للنبي صلي الله عليه و آله ولا لمن دونه صنعٌ فيه، ولا تأثير فيه ممّا له من الولاية العامّة علي اُمور المجتمع الإسلامي بإطلاق أو تقييد أو إمضاء أو نسخ أو غير ذلک، ولا تحکم عليه سنّة قوميّة أو عادة جارية حتي توجب تطبيقه علي ما يوافقها، أو قيام العصبة مقام الإنسان فيما يهمّه من أمر.

والخلط بين البابين يوجب نزول المعارف الإلهيّة من أوج علوّها وکرامتها إلي حضيض الأفکار الاجتماعيّة التي لا حکومة فيها إلّا للرسوم والعادات والاصطلاحات، فيعود الإنسان يفسّر حقائق المعارف بما يسعه الأفکار العامّيّة، ويستعظم ما استعظمه المجتمع دون ما عظّمه اللَّه، ويستصغر ما استصغره الناس، حتي يقول القائل في معني کلمة الوحي: إنّه عادة عربيّة محترمة![6] .



صفحه 274، 275، 276، 277، 278.





  1. في المصدر «سواه» وهو تصحيف.
  2. في المصدر «أو توسّل» وهو تصحيف.
  3. التوبة: 1.
  4. التوبة: 3.
  5. التوبة: 5.
  6. الميزان في تفسير القرآن: 168:9 تا 174.