طرق الاثبات عند الامام علي
وموضوع الاثبات يعد من ادق المسائل الفنيه في العمل القضائي وفقهه، وما طرقه سوي وسائله التي تحقق للقاضي علما مکتسبا بالحادث او القضيه موضوع الدعوي المکلف بالحکم فيها، کون الدعوي -کما اشرنا- لا يشترط لقبولها ثبوت الحق المدعي به فيها ابتداء، انما يتم التحري عن وجوده وعائديته وکشف مبهماته عبر وسائل الاثبات المتحصله في مجلس القضاء، فيکون القاضي -والحاله هذه- قد الم بحقيقه الحق المتنازع فيه، وانکشفت معالمه علي النحو الذي يقتضي اقراره بشکل ملزم عن طريق الحکم. وجدير بالتنويه ان للفقه الاسلامي اتجاهين بخصوص طرق الاثبات او ادلته، الاول ياخذ بالاثبات المقيد، وهو راي جمهور الفقهاء، اذ يذهبون الي القول بان وسائل الاثبات جاءت علي سبيل الحصر، وهي: الشهاده والاقرار واليمين والکتابه والقرينه، وهناک من اضاف اليها علم القاضي الشخصي.[1] . اما الاتجاه الثاني فلا ياخذ بذلک الراي، لتبنيه مبدا الاثبات المطلق، فيذهب الي القول: صحيح ان تلک الادله قطعيه الورود في الکتاب والسنه الا ان هذا لا يعني عدم جواز الرکون الي غيرها، فورودها لم يکن علي سبيل الحصر، وهو الاتجاه الادق والاصح والاعدل لانه يفتح المجال امام صاحب الحق في اثبات ما يدعيه بکافه الطرق المتاحه والمقبوله شرعا -بطريق النقل او العقل- وهو الاتجاه الذي تدلنا آثار الامام علي (ع) الادبيه وسوابقه القضائيه علي انتهاجه، له لا بل انه نهجه الذي سار علي هداه الکثير من الاعلام، نذکر منهم صاحب کتاب اعلام الموقعين[2] الذي يقول: (ان اللّه سبحانه ارسل رسله وانزل کتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الارض والسماوات، فاذا ظهرت امارات العدل واسفر وجهه باي طريق کان فثم شرع اللّه ودينه)، وابن فرحون الذي قال: (فمتي ظهر الحق واسفر طريق العدل فثم شرع اللّه ودينه).[3] . وبناء علي ما تقدم، فليس من العدل، ولا من المنطق، رفض اجراء المضاهاه لخطوط المحرر الکتابي -وليکن سند دين مثلا- او بصمه الابهام لوقوع الانکار عليها من قبل من اسندت اليه بالطرق العلميه المبتکره حديثا، بحجه عدم النص عليها او انها لم تکن معروفه في عهد الرسول والصحابه من بعده مثلا، لا بل قل ان الحوادث ومفردات الحياه اليوميه البسيطه لدي الناس آنذاک لم تکن تعهدها. والحقيقه ان القرآن الکريم فيه تبيان کل شي ء، ومن ذلک اختلاف بصمات اصابع الانسان کما يستدل من مفهوم قوله تعالي: (ايحسب الانسان الن نجمع عظامه، بلي قادرين علي ان نسوي بنانه)[4] فاصابع اليد لدي الانسان تختلف بنانها[5] من شخص لاخر حيث لا تتشابه خطوطها بين اثنين من البشر ولا تتقارب لحکمه اقتضتها المشيئه الربانيه، وهي وحدها معجزه من معاجز القرآن الربانيه، حيث تحدي الباري تعالي اعداء الايمان بقوله: (بلي قادرين علي ان نسوي بنانه)، وقد تجلت تلک الحکمه الربانيه من خلال کون اختلاف خطوط البنان تفيد في التعريف ومعرفه عائديه البصمه، وقد استعملت انکلترا لاول مره عام 1884 طريق الاستعراف والتعريف بوساطه بصمات الاصابع،[6] کما ان التقنيه الحديثه[7] اخذت تکشف لنا بعض جوانب تلک الحکمه، وکما يقول اللّه تعالي: (سنريهم آياتنا في الافاق وفي انفسهم حتي يتبين لهم انه الحق اولم يکف بربک انه علي کل شي ء شهيد).[8] . اما اختبار الخط الکتابي وتمييزه من قبل الخبير المختص لمن انکره، بعد اخذ عينه من خطوطه لمقارنتها بخطه الذي انکره، بغيه معرفه ما اذا کان يعود اليه ام لا، فانه وسيله اثبات لم تکن معروفه في بدايه العهد الاسلامي، ولم تعرف الا بعد عده قرون.[9] فالقاضي عليه ان يطلب من المدعي ايضاح دعواه وتقديم ما لديه من ادله او بينات ما دام عب ء الاثبات يقع عليه عاده،[10] وقد روي عن الرسول الامين قوله: (لو يعط ي الناس بدعواهم لادعي الرجال اموال قوم ودماءهم، ولکن البينه علي المدعي واليمين علي من انکر). وفي روايه اخري جاء قوله: (انما اقضي بينکم بالبينات والايمان وبعضکم الحن بحجته من بعض، فايما رجل قطعت له من مال اخيه شيئا فانما قطعت له به قطعه من نار)،[11] هذا من جهه، ومن جهه اخري فهناک قواعد علي القاضي مراعاتها بخصوص ادله الاثبات، کالتقيد بنوع الدليل وحدوده، فاثبات جريمه الزنا لا يصح الا باربعه شهود عدول کما ان الشاهد منهم لکي تعتبر شهادته لا بد من ان يشهد برويه الميل في المکحله، وذلک کنايه عن رويه الفرج في الفرج،[12] وقد جاءت الموسوعات الفقهيه لاعلام الامه زاخره بتفصيلات هذا الجانب الذي يخرجنا تقصيه عن موضوعنا. وحيث ان القاضي منقب عن الحقيقه والحق، فان متطلبات ولايته الشرعيه تلزمه القيام بتحليل الدليل وفحصه للوقوف علي مدي قوته ومصداقيته من دون الاخذ به علي علاته -کما سنري ذلک في منهج الامام علي (ع) من خلال مباحث هذا الفصل- وتتطلب منه ايضا ان لا يضيف عليها او يحرفها بما يخالف الحقيقه او يکرس الادله، من دون مسوغ، فيلتبس عليه الامر وتضيع عند ذلک الحقيقه. ومهما يکن من امر فان کثيرا من الناس حين يقدمون ادلتهم وحججهم او دفوعهم فانهم يتکلمون عن العدل والحق کانهم اصحابه فعلا، بينما هم يتکلمون من زاويه مصالحهم الخاصه -بغض النظر عن مدي مشروعيتها- فيعمد بعضهم الي شراء الذمم احيانا في جلب شهود الزور او تقديم الهدايا لهذا او ذاک، وما الي ذلک من الوسائل غير المشروعه التي سنري مدي العمق والدقه في معالجتها من لدن الامام علي (ع) من خلال تحليله للبينه وموازنتها مع ما تحصل لديه من ادله اخري. ولعل من المفيد هنا التذکير بما يروي عن الامام علي بن ابي طالب (ع) من ان نبيا من الانبياء شکا الي ربه القضاء قائلا: کيف اقضي بما لم تر عيني ولم تسمع اذني، فکان جواب الباري له ان اقضي عليهم بالبينات واضفهم الي اسمي يحلفون به. واخيرا، فان ما بقي من آثار الامام علي (ع)، من احکام وسوابق قضائيه، يجعلنا نميل الي استعراض ادله الاثبات التي اعتمدها في قضائه الرحب في عده مباحث، وعلي النحو التالي:
الاثبات، بمعناه القضائي، اقامه الدليل امام القضاء لاثبات تصرف معين کالعقود او لاثبات واقعه ما کالسرقه، فاقامه الدليل علي وجود الحق المدعي به يعني اثباته.