صور من معارك صفّين











صور من معارک صفّين



وبدأت المعارک وکانت في صورة مناوشات علي الأطراف، وکانت القوي متکافئة في الأغلب. بيد أن دوافع الحرب کانت مختلفة، فبينما نجد العصبية الجاهلية توقد نار الحرب عند جيش الشام، نجد الروح الإيمانية في أصحاب علي (ع) تحثهم علي الجهاد والشهادة. فهذا قائد أموي کان يعدُّه معاويةُ وَلَدَهُ، واسمه عبدالرحمن بن خالد، يبارز قيادة جيش الإمام المتمثلة في تلک المعرکة بعدي بن حاتم ويرتجز قائلاً:


قل لعدي ذهب الوعيدُ
أنا ابن سيف الله لا مزيدُ


وخالد يزينه الوليدُ
فما لنا ولا لهم مَحيدُ


عن يومنا ويومکم فعودوا

إنک تراه کيف يفتخر بنسبه حتي تعود إلي أذهاننا ذکريات الجاهلية حيث کان الشخص يفتخر بآبائه وعشيرته. و لکن عدي بن حاتم- بالرغم من مفاخره العظيمة- يذکر في رجزه الحربي دافعه الإيماني ويقول:


أرجو إلهي وأخاف ذنبي
وليس شي ءٌ مثل عفوِ ربِّي


وقد أفصح عبيد الله بن عمر، وکان في صف معاوية عن خلفيات الحرب، وذلک حينما الْتَقي بالإمام الحسن المجتبي في أرض المعرکة فقال: إن أباک قد وتر قريشاً أولاً وآخراً، وقد شنأوه. فهل لک أن تخلعه ونوليک هذا الأمر؟ وهکذا کشف عن الأحقاد الجاهلية التي طفحت بها قلوب قريش وهم قيادات ذلک الجيش. ولکن الإمام الحسن (ع) رده بقوة وقال: کلا، وأضاف: «لکأني أنظر إليک مقتولاً في يومک أو غدک. اما إن الشيطان قد زين لک وخدعک حتي أخرجک خلقاً بالخلوق، تري نساء أهل الشام موقفک، وسيصرعک الله، ويبطحک لوجهک قتيلاً». هکذا قاتل عمار بن ياسر: قام عمار بن ياسر فخطب في القوم يحرضهم علي معاوية ويکشف حقيقة المعرکة، وخلفياتها فقال: امضوا عباد الله، إلي قوم يطلبون- فيما يزعمون- بدم عثمان، والله ما أظنهم يطلبون دمه، ولکن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبُّوها واستمرأوها، وعلموا لو أن الحق لزمهم لحَالَ بينهم وبين ما يرغبون فيه منها. ولم يکن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون لها الطاعة والولاية، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا: قُتل إمامنا مظلوماً، ليکونوا بذلک جبابرة وملوکاً، وتلک مکيدة قد بلغوا بها ما ترون. ولولا هي، ما بايعهم من الناس رجلان. ثم التقي بعمرو بن العاص فقال له: يا عمرو بعت دينک بمصر؟. تبّاً لک، وطالما بغيت الإسلام عوجاً. ثم حمل علي القوم، وهو يرتجز بأبيات تفيض إيماناً ويقيناً، وتعکس شخصية عمار الجهادية وهو يومئذ يناهز التسعين من عمره:


صدق الله وهو للصدق اهلٌ
وتعالي ربِّي وکان جليلا


ربِّ عجِّلْ شهادة لي بقتل
في الذي قد أحُب قتلاً جميلا


مقبلاً غير مدبرٍ، إن للقت
لِ علي کل ميتة تفضيلا


إنهم عند ربهم في جنان
يشربون الرحيق والسلسبيلا


من شراب الأبرار، خالطه المس
ک وکأساً مزاجها زنجبيلا


ثم قال: اللهم إنک تعلم أني لو أعلم أن رضاک أن أقذف بنفسي في هذا البحر لَفعلت. اللهم إنک تعلم أني لو أعلم أن أضع ظُبة سيفي في بطني ثم أنحني عليها حتي يخرج من ظهري لَفعلت، ولو أعلم اليوم عملاً هو أرْضَي لک من جهاد هؤلاء الفاسقين لَفعلته.[1] .

وبهذه الروح الإيمانية المتسامية، حارب الصفوة من أصحاب الرسول (ص) معاوية والمنافقين معه. لقد کانت الشهادة غاية مناهم، وکانوا علي يقين أنهم علي حق. وأن عدوهم طالب ملک وباغي دنيا.. وهکذا تقدم عمار بين الصفين ونادي: أيها الناس، الرواحَ إلي الجنة، فلما بصر راية عمرو بن العاص، قال: والله إن هذه الراية قد قاتلتها ثلاث مرات، وما هذه بأرشدهم. ثم قال:


نحن ضربناکم علي تنزيله
فاليوم نضربکم علي تأويله


ثم استسقي- وقد اشتد ظمأه- فأتته امرأة بضياح من اللبن، فقال حين شرب الأجنة تحت الأسنة:


اليوم ألقي الأحبّة محمداً وحزبه

والله لو ضربونا حتي يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا انا علي الحق وهم علي باطل.[2] .

هکذا تقدم الشيخ العظيم الذي التحق بمسيرة الرسالة منذ شبابه، ولم يتخلف عن أية مهمة أوکلت إليه، ودفعه النبي (ص) إلي مستوي الصديقين، ولم تأخذه في الله لومة لائم. تقدم إلي الشهادة ببصيرة نافذة، وخطي ثابتة، وهو يحمل معه صحيفته المضيئة، ذات التسعين صفحة مشرقة، فلما توسط المعرکة حمل عليه اثنان من المجرمين (أبوالعادية الفزاري، وابن جون) فقتلاه، فألزم الله بقتله الحجة علي أهل الشام، إذ قال الرسول الأکرم (ص) يوماً: «آخر شرابک من الدنيا ضياح من لبن، وتقتلک الفئة الباغية». فلما انتشر خبر مقتله في معسکر أهل الشام، وکاد يؤثِّر علي معنوياتهم، قال معاوية إن عليّاً هو الذي قتله، لأنه هو الذي أخرجه لقتالنا. ولقد کان معاوية قد استخف قومه فأطاعوه،وهکذا کان يتعامل مع سائر النصوص الدينية.









  1. المصدر: (ص 153).
  2. المصدر: (ص 157).