واقعة الغدير











واقعة الغدير



أجمع رسول الله صلي الله عليه وآله الخروج إلي الحج في سنة عشر من مهاجره، وأذن في الناس بذلک، فقدم المدينة خلق کثير يأتمون به في حجته تلک التي يقال عليها حجة الوداع. وحجة الاسلام. وحجة البلاغ. وحجة الکمال. وحجة التمام[1] ولم يحج غيرها منذ هاجر إلي أن توفاه الله، فخرج صلي الله عليه وآله من المدينة مغتسلا متدهنا مترجلا متجردا في ثوبين صحاريين إزار ورداء، و ذلک يوم السبت لخمس ليال أو ست بقين من ذي القعدة، و أخرج معه نساءه کلهن في الهوادج، و سار معه أهل بيته، و عامة المهاجرين والانصار، و من شاء الله من قبائل العرب وأفناء الناس.[2] .

وعند خروجه صلي الله عليه وآله أصاب الناس بالمدينة جدري (بضم الجيم وفتح الدال وبفتحهما) أو حصبة منعت کثيرا من الناس من الحج معه صلي الله عليه وآله، ومع ذلک کان معه جموع لا يعلمها إلا الله تعالي، وقد يقال: خرج معه تسعون الف، ويقال: مائة الف و اربعة عشر الفا، وقيل: مائة الف وعشرون الفا، وقيل: مائة الف واربعة وعشرون الفا، و يقال اکثر من ذلک، وهذه عدة من خرج معه، وأما الذين حجوا معه فأکثر من ذلک کالمقيمين بمکة والذين أتوا من اليمن مع علي (أميرالمؤمنين) وابي موسي.[3] .

أصبح صلي الله عليه وآله يوم الاحد بيلملم، ثم ارح فتعشي بشرف السيالة، وصلي هناک المغرب والعشاء، ثم صلي الصبح بعرق الظبية، ثم نزل الروحاء، ثم سار من الروحاء فصلي العصر بالمنصرف، وصلي المغرب والعشاء بالمتعشي وتعشي به، وصلي الصبح بالاثابة، وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج واحتجم بلحي جمل «وهو عقبة الجحفة» ونزل السقياء يوم الاربعاء، وأصبح بالابواء، وصلي هناک ثم راح من الابواء ونزل يوم الجمعة الجحفة، ومنها إلي قديد وسبت فيه، وکان يوم الاحد بعسفان، ثم سار فلما کان بالغميم إعترض المشاة فصفوا

[صفحه 10]

صفوفا فشکوا إليه المشي، فقال: استعينوا باليسلان «مشي سريع دون العدو» ففعلوا فوجدوا لذلک راحة، وکان يوم الاثنين بمر الظهران فلم يبرح حتي أمسي وغربت له الشمس بسرف فلم يصل المغرب حتي دخل مکة، ولما انتهي إلي الثنيتين بات بينهما فدخل مکة نهار الثلاثاء[4] .

فلما قضي مناسکه وانصرف راجعا إلي المدينة ومعه من کان من الجموع المذکورات و وصل إلي غدير خم من الجحفة التي تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين، و ذلک يوم الخميس [5] الثامن عشر من ذي الحجة نزل اليه جبرئيل الامين عن الله بقوله: يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليک من ربک. الآية. وأمره أن يقيم عليا علما للناس ويبلغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة علي کل أحد، و کان أوائل القوم قريبا من الجحفة فأمر رسول الله أن يرد من تقدم منهم و يحبس من تأخر عنهم في ذلک المکان ونهي عن سمرات خمس متقاربات دوحات عظام أن لا ينزل تحتهن أحد حتي إذا أخذ القوم منازلهم فقم ما تحتهن حتي إذا نودي بالصلاة صلاة الظهر عمد إليهن فصلي بالناس تحتهن، وکان يوما هاجرا يضع الرجل بعض رداءه علي رأسه وبعضه تحت قدميه من شدة الرمضاء، وظلل لرسول الله بثوب علي شجرة سمرة من الشمس، فلما انصرف صلي الله عليه وآله من صلاته قام خطيبا وسط القوم[6] علي أقتاب الابل [7] وأسمع الجميع، رافعا عقيرته فقال:

ألحمد لله ونستعينه ونؤمن به، ونتوکل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا الذي لا هادي لمن ضل، ولا مضل لمن هدي، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله- أما بعد-: أيها الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي إلا مثل نصف عمر الذي قبله، واني أوشک أن ادعي فأجبت، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنک قد بلغت ونصحت وجهدت فجزاک الله خيرا، قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، و أن محمدا عبده ورسوله، وأن جنته حق وناره حق وأن الموت حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها

[صفحه 11]

وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلي نشهد بذلک، قال: أللهم اشهد، ثم قال: أيها الناس ألا تسمعون؟ قالوا: نعم. قال: فاني فرط علي الحوض، وأنتم واردون علي الحوض، وإن عرضه ما بين صنعاء وبصري[8] فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا کيف تخلفوني في الثقلين[9] فنادي مناد: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: الثقل الاکبر کتاب الله طرف بيد الله عزوجل و طرف بأيديکم فتمسکوا به لا تضلوا، والآخر الاصغر عترتي، وإن اللطيف الخبير نبأني انهما لن يتفرقا حتي يراد علي الحوض فسألت ذلک لهما ربي، فلا تقدموهما فتهلکوا، ولا تقصروا عنهما فتهلکوا، ثم أخذ بيد علي فرفعها حتي رؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون، فقال: أيها الناس من اولي الناس بالمؤمنين من انفسهم؟ قالوا: ألله ورسوله أعلم، قال: إن الله مولاي وأنا مولي المؤمنين وأنا أولي بهم من أنفسهم فمن کنت مولاه فعلي مولاه، يقولها ثلث مرات، وفي لفظ احمد إمام الحنابلة: أربع مرات ثم قال: أللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغايب، ثم لم يتفرقوا حتي نزل أمين وحي الله بقوله: أليوم أکملت لکم دينکم وأتممت عليکم نعمتي، الآية. فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: ألله اکبر علي إکمال الدين، وإتمام النعمة، ورضي الرب برسالتي، والولاية لعلي من بعدي، ثم طفق القوم يهنئون أميرالمؤمنين صلوات الله عليه وممن هنأه في مقدم الصحابة: الشيخان ابوبکر وعمر کل يقول: بخ بخ لک يا بن ابي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولي کل مؤمن ومؤمنة، وقال ابن عباس: وجبت والله في أعناق القوم، فقال حسان: إئذن لي يارسول الله أن اقول في علي أبياتا تسمعهن، فقال: قل علي برکة الله، فقام حسان فقال: يا معشر مشيخة قريش أتبعها قولي بشهادة من رسول الله في الولاية ماضية ثم قال:


يناد بهم يوم الغدير نبيهم
بخم فاسمع بالرسول مناديا[10] .


هذا مجمل القول في واقعة الغدير وسيوافيک تفصيل الفاظها، وقد أصفقت الامة علي هذا و ليست في العالم کله وعلي مستوي البسيط واقعة اسلامية غديرية غيره، ولو اطلق يومه فلا

[صفحه 12]

ينصرف إلا اليه، وإن قيل محله فهو هذا المحل المعروف علي أمم من الجحفة، ولم يعرف أحد من البحاثة والمنقبين سواه، نعم: شذ عنهم (الدکتور ملحم ابراهيم الاسود) في تعليقه علي ديوان ابي تمام فإنه قال: هي واقعة حرب معروفة. ولنا حول ذلک بحث ضاف تجده في ترجمة ابي تمام من الجزء الثاني انشاء الله.



صفحه 10، 11، 12.





  1. الذي نظنه «وظن الا لمعي يقين» ان الوجه في تسمية حجة الوداع بالبلاغ هو نزول قوله تعالي: يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليک من ربک، الاية کما ان الوجه في تسميتها بالتمام والکمال هو نزول قوله سبحانه: اليوم اکملت لکم دينکم واتممت عليکم نعمتي، الاية.
  2. الطبقات لابن سعد ج 3 ص 225، امتاع المقريزي ص 510، ارشاد الساري ج 6 ص 429.
  3. السيرة الحلبية ج 3 ص 283، سيرة احمد زيني دحلان ج 3 ص 3، تاريخ الخلفاء لابن الجوزي في الجزء الرابع، تذکرة خواص الامة ص 18، دائرة المعارف لفريد وجدي ج 3 ص 542.
  4. الامتاع للمقريزي ص 517 -513.
  5. هو المنصوص عليه في لفظ البراء بن عازب وبعض آخر من رواة حديث الغدير وسيوافيک کلامنا فيه ص 41.
  6. جاء في لفظ الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ج 9 ص 156 وغيره.
  7. ثمار القلوب ص 511 ومصادر اخر کما مرت ص 8.
  8. الصنعاء. عاصمة اليمن اليوم. وبصري: قصبة کورة حوران من اعمال دمشق.
  9. الثقل، بفتح المثلثة والمثناة: کل شيئي خطير نفيس.
  10. إلي آخر الابيات الاتية في ترجمة حسان في شعراء القرن الاول في الجزء الثاني.