قريش بعد فتح مكه











قريش بعد فتح مکه



ماذا فعلت قريش بعد أن اضطر بقية فراعنتها وألوف الطلقاء من أتباعهم إلي الدخول في الإسلام؟؟

من الطبيعي أن مشاعر الغيظ والکبرياء القرشي بقيت محتدمة في قلوب أکثرهم إن لم نقل کلهم.. ولکن في المقابل ظهر فيهم منطق يقول: إن دولة محمد دولتنا.. فمحمد أخ کريم، وابن أخ کريم، ودولته دولة قريش، وعزه عزها وفخره فخرها، ومهما کان محمد.. فهو ابن قريش، ودولته أوسع من دولة قريش وأقوي، وقد عفا عنها وفتح المجال أمام زعمائها في أجهزة هذه الدولة، فلماذا نحاربها، ولماذا نترکها بأيدي الأنصار الغرباء من الأوس والخزرج اليمانيين!

أما مسألة من يرث دولة محمد بعده، فهي مسألة قابلة للعلاج، وهي علي کل حال مسألة قرشية داخلية!!

من البديهي أن يفهم الباحث أن قريشاً وجهت جهودها لمرحلة ما بعد محمد صلي الله عليه وآله، وأن الهدف الأهم عندها کان: منع محمد أن يرتب الأمر من بعده لبني هاشم، ويجمع لهم بين النبوة والخلافة علي حد تعبير قريش والناطق الجديد باسمها عمر! فالنبوة لبني هاشم، ولکن خلافة محمد يجب أن تکون لقبائل قريش غير بني هاشم!

لکن رغم وجود هذا المنطق، فإن النصوص واعترافات بعض زعمائهم تدل علي أنهم کانوا يعملون علي کل الجبهات الممکنة! وأن أکثريتهم کانوا يائسين من أن يشرکهم محمد في حکم دولته، لأنه يعمل بجد لترکيز حکم عترته من بعده.. لذلک اتجه تفکيرهم بعد فتح مکة إلي اغتيال النبي صلي الله عليه وآله.. وسرعان ما حاولوا تنفيذ ذلک في حنين بعد أيام من فتح مکة!!

إن فراعنة قريش يهود هذه الأمة، فهم لايعرفون الوفاء، بل کأنهم يصابون بالصداع إذا لم يغدروا بمن عفا عنهم وأحسن إليهم!!

لقد أعلنوا إسلامهم، وادعوا أنهم ذاهبون مع النبي صلي الله عليه وآله إلي حنين ليساعدوه في حربه ضد قبيلتي هوازن وغطفان، وکان عدد جيش القرشيين ألفين، وعدد جيش النبي صلي الله عليه وآله الذي فتح مکة عشرة آلاف، وعندما التقوا بهوازن في حنين انهزموا من أول رشقة سهام فسببوا الهزيمة في صفوف المسلمين فانهزموا جميعاً، کما حدث في أحد!

وثبت النبي صلي الله عليه وآله ومعه بنو هاشم فقط، کالعادة، وقاتلوا بشدةٍ مع مئة رجعوا إليهم من الفارين حتي ردوا الحملة، ثم رجع آخرون من المسلمين الفارين.. وکتب الله النصر.

وفي أثناء هزيمة المسلمين، قامت قريش بعدة محاولات لقتل النبي صلي الله عليه وآله!! وهو أمر يفتح باب الشک بأن الهزيمة کانت أمرا مدبراً مع قبيلة هوازن!! ونکتفي هنا بذکر ما نقله زعيم بني عبدالدار النضير بن الحارث، الذي سيأتي ذکره في تفسير الآية الثالثة! وقد نقل ذلک عنه محب له ولقريش ولبني أمية، هو ابن کثير الشامي، فقال في سيرته:691:3:

کان النضير بن الحارث بن کلدة من أجمل الناس، فکان يقول: الحمد لله الذي من علينا بالإسلام، ومن علينا بمحمد صلي الله عليه وسلم، ولم نمت علي ما مات عليه الآباء، وقتل عليه الأخوة وبنو العم.

ثم ذکر عداوته للنبي صلي الله عليه وسلم وأنه خرج مع قومه من قريش إلي حنين، وهم علي دينهم بعد، قال: ونحن نريد إن کانت دائرة علي محمد أن نغير عليه، فلم يمکنا ذلک.

فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلي ما أنا عليه، إن شعرت إلا برسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: أنضير؟

قلت: لبيک.

قال: هل لک إلي خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينک وبينه؟

قال: فأقبلت إليه سريعاً.

فقال: قد آن لک أن تبصر ما کنت فيه توضع!

قلت: قد أدري أن لو کان مع الله غيره لقد أغني شيئاً، وإني أشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريک له.

فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: اللهم زده ثباتاً.

قال النضير: فوالذي بعثه بالحق لکأن قلبي حجرٌ ثباتاً في الدين، وتبصرة بالحق.

فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداه. انتهي.

وأنت تلاحظ أن هذه الکلام يتضمن إقراراً

من هذا الزعيم القرشي علي نفسه، وإقرار الإنسان علي نفسه حجة! ويتضمن ادعاء منه بإيمانه بالله تعالي فقد ذکر أنه تشهد الشهادة الأولي! ولکن الدعوي لاتثبت بادعاء صاحبها بدون شهادة غيره!

ومهما يکن من أمر إسلامه يومئذ، فقد اعترف زعيم بني عبدالدار صاحب راية قريش وقائد قواتها الذي کان تحت إمرته ألفا مسلح في حنين، بأن إعلان إسلامهم في مکة کان کاذباً، وأن زعماء قريش کانوا متفقين علي قتل النبي صلي الله عليه وآله، وأنهم حاولوا محاولاتٍ في حنين ولم يتوفقوا.. فقد أحبط الله تعالي خططهم، وکشف لنبيه صلي الله عليه وآله نواياهم!!

بل تدل أحاديث السيرة عليأن زعماء قريش لم يملکوا أنفسهم عند انهزام المسلمين في حنين في أول الأمر، فأظهروا کفرهم الراسخ، وفضحوا أنفسهم!

ففي سيرة ابن هشام:46:4:


قال ابن إسحاق: فلما انهزم الناس، ورأي من کان مع رسول الله صلي الله عليه وسلم من جفاة أهل مکة الهزيمة، تکلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبوسفيان بن حرب: لاتنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لَمَعَهُ في کنانته!

وصرخ جبلة بن الحنبل- قال ابن هشام کلدة بن الحنبل- وهو مع أخيه صفوان بن أمية مشرکٌ في المدة التي جعل له رسول الله صلي الله عليه وسلم: ألا بطل السحر اليوم!

قال ابن إسحاق: وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبدالدار: قلت اليوم أدرک ثأري من محمد، وکان أبوه قتل يوم أحد، اليوم أقتل محمداً، قال: فأدرت برسول الله لأقتله، فأقبل شي ء حتي تغشي فؤادي فلم أطلق ذاک، وعلمت أنه ممنوعٌ مني!!. انتهي.

وشيبة هذا قائد آخر من قادة جيش قريش (المسلمة المؤمنة المجاهدة!) يعترف بأنه في حنين عند الهزيمة أو بعدها (دار) مرة أو مراتٍ حول النبي صلي الله عليه وآله ليقتله! فتأمل..!!

إن الناظر في مقومات شخصيات زعماء قريش، وتفکيرهم واهتماماتهم، يصل إلي قناعة بأنهم مردوا علي النفاق، واتخذوا قراراً بأن يکذبوا بکل الآيات والمعجزات التي يأتيهم بها محمد صلي الله عليه وآله، ويکفروا بکل القيم والأعراف الإنسانية التي يدعوهم إليها ويعاملهم بها! لقد قرروا أن لايدخلوا في دينه إلا في حالتين لاثالثة لهما:

إذا کان السيف فوق رؤوسهم!

أو صارت دولة محمد وسلطانه بأيديهم!

لقد حاربوا هذا الدين ونبيه صلي الله عليه وآله بکل الوسائل حتي عجزوا وانهزموا.. ثم واصلوا تآمرهم ومحاولاتهم لاغتيال النبي صلي الله عليه وآله فعجزوا.

ثم جاؤوا يشترطون الشروط مع النبي صلي الله عليه وآله ليأخذوا شطراً من دولته فعجزوا. ثم جاؤوا يدعون أنهم أصحاب الحق في دولة نبيهم صلي الله عليه وآله لأنه من قبائل قريش! فتأمل في طبيعة هذه الطينة التي استولت علي مقدرات الدولة الإسلامية، وأبعدت عن الحکم أهل بيت نبيها صلوات الله عليه وعليهم!!

قال في مناقب آل أبي طالب:239:2:

قال الشريف المرتضي في تنزيه الأنبياء: إن النبي صلي الله عليه وآله لما نص علي أميرالمؤمنين بالإمامة في ابتداء الأمر، جاءه قوم من قريش وقالوا له: يا رسول الله إن الناس قريبو عهد بالإسلام لايرضون أن تکون النبوة فيک والإمامة في ابن عمک علي بن أبي طالب.. فلو عدلت به إلي غيره، لکان أولي! فقال لهم النبي صلي الله عليه وآله: ما فعلت ذلک لرأيي فأتخير فيه، لکن الله تعالي أمرني به وفرضه عليَّ.

فقالوا له: فإذا لم تفعل ذلک مخافة الخلاف علي ربک، فأشرک معه في الخلافة رجلاً من قريش ترکن الناس إليه، ليتم لک أمرک، ولا تخالف الناس عليک. فنزلت الآية: لئن أشرکت ليحبطن عملک ولتکونن من الخاسرين!!

وروي في المصدر المذکور عن عبدالعظيم الحسني عن الصادق عليه السلام في خبر: قال رجل من بني عدي اجتمعت إليَّ قريش، فأتينا النبي فقالوا: يا رسول الله إنا ترکنا عبادة الأوثان واتبعناک، فأشرکنا في ولاية علي فنکون شرکاء، فهبط جبرئيل علي النبي فقال: يا محمد لئن أشرکت ليحبطن عملک.. الآية. انتهي. (أقول: والحديث الأول في تنزيه الأنبياء167).