قبائل قريش











قبائل قريش



کانت قريش أکثر من عشرين قبيلة منها:

بنو هاشم بن عبدمناف بنو أمية بن عبدشمس

بنو عبدالدار بن قصي

بنو مخزوم بن يقظة بن مرة

بنو زهرة بن کلاب بنو أسد بن عبدالعزي

بنو الحارث بن فهر بن مالک

بنو عامر بن لؤي

بنو سهم بن عمرو

بنو جمح بن عمرو

بنو أنمار بن بغيض

بنو تيم بن مرة بن کعب

بنو عدي بن کعب... إلخ.

ولکن الفعل والتأثير کان محصوراً بالقبائل المهمة، والزعماء المهمين، وهم بضع قبائل، وبضعة عشر زعيماً، والباقون تبعٌ لهم إلي حد کبير.. فقد وصف ابن هشام اجتماع دار الندوة الذي بحث فيه قادة القبائل (مشکلة نبوة محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم). فقال في: ج: 331:2 (وقد اجتمع فيها أشراف قريش: من بني عبدشمس: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبوسفيان بن حرب.

ومن بني نوفل بن عبدمناف: طعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل.

ومن بني عبدالدار بن قصي: النضر بن الحارث بن کلدة.

ومن بني أسد بن عبدالعزي: أبوالبختري بن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحکيم بن حزام.

ومن بني مخزوم: أبوجهل ابن هشام.

ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج.

ومن بني جمح: أمية بن خلف.

ومن کان معهم غيرهم ممن لايعد من قريش، فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد کان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه علي الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأياً. قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: إحبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه باباً، ثم تربصوا به... إلخ). وذکر في ج:488:2 أسماء الذين أنفقوا علي جيش المشرکين في بدر فقال: (وکان المطعمون من قريش ثم من بني هاشم بن عبدمناف: العباس بن عبدالمطلب بن هاشم. ومن بني عبدشمس بن عبدمناف: عتبة بن ربيعة بن عبدشمس. ومن بني نوفل بن عبدمناف: الحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، يعتقبان ذلک. ومن بني أسد بن عبدالعزي: أباالبختري بن هشام بن الحارث بن أسد، وحکيم بن حزام بن خويلد بن أسد، يعتقبان ذلک. ومن بني عبدالدار بن قصي: النضر بن الحارث بن کلدة بن علقمة بن عبدمناف بن عبدالدار.). انتهي.

وإليک هذا الترتيب الذي رتبه الخليفة عمر لقبائل قريش، في سجل الدولة لتوزيع العطاءات، فإنه يدل علي ترکيبة قبائلها، وتميز بني هاشم عليهم: قال البيهقي في سننه:364:3:

(عن الشافعي وغيره، أن عمر رضي الله عنه لما دون الدواوين قال: إبدأ ببني هاشم، ثم قال: حضرت رسول الله صلي الله عليه وسلم يعطيهم وبني المطلب... فوضع الديوان علي ذلک، وأعطاهم عطاء القبيلة الواحدة. ثم استوت له عبدشمس ونوفل في جذم النسب، فقال: عبدشمس إخوة النبي صلي الله عليه وسلم لأبيه وأمه دون نوفل، فقدمهم، ثم دعا بني نوفل يتلونهم. ثم استوت له عبدالعزي وعبدالدار، فقال في بني أسد بن عبدالعزي أصهار النبي صلي الله عليه وسلم، وفيهم أنهم من المطيبين... فقدمهم علي بني عبدالدار، ثم دعا بني عبدالدار يتلونهم. ثم انفردت له زهرة فدعاها تلو عبدالدار. ثم استوت له تيمٌ ومخزوم، فقال في بني تيم إنهم من حلف الفضول والمطيبين وفيهما کان رسول الله صلي الله عليه وسلم، وقيل ذکر سابقةً، وقيل ذکر صهراً فقدمهم علي مخزوم، ثم دعا مخزوم يتلونهم. ثم استوت له سهمٌ وجمحٌ وعديُّ بن کعب، فقيل له: إبدأ بعدي.

(قبيلة عمر)، فقال: بل أقر نفسي حيث کنت، فإن الإسلام دخل وأمرنا وأمر بني سهم واحد، ولکن انظروا بني جمح وسهم، فقيل قدم بني جمح. ثم دعا بني سهم، وکان ديوان عدي وسهم مختلطاً کالدعوة الواحدة، فلما خلصت إليه دعوته کبر تکبيرة عالية، ثم قال: الحمد لله الذي أوصل إلي حظي من رسوله. ثم دعا بني عامر بن لؤي، قال الشافعي: فقال بعضهم إن أباعبيدة بن عبدالله بن الجراح الفهري لما رأي من تقدم عليه قال: أکل هؤلاء تدعو أمامي؟! فقال: يا أباعبيدة، إصبر کما صبرتُ، أو کلم قومک فمن قدمک منهم علي نفسه لم أمنعه، فأما أنا وبنو عدي فنقدمک إن أحببت علي أنفسنا. قال فقدم معاوية بعد بني الحارث بن فهر، فَصَلَ بهم بين بني عبدمناف وأسد بن عبدالعزي.

وشجر بين بني سهم وعدي شي ء في زمان المهدي فافترقوا، فأمر المهدي ببني عدي فقدموا علي سهم وجمح، للسابقة فيهم). انتهي.

وقد اعترف الجميع بأن فرع هاشم کانوا مميزين علي بقية الفروع في فکرهم وسلوکهم، متفوقين في فعاليتهم وقيمهم.. وأن جماهير القبائل والملوک کانوا يحترمونهم احتراماًً خاصاًً.. حتي حسدهم زعماء قريش، وتحالفوا ضدهم من أيام هاشم وعبدالمطلب.

فقد رتب هاشم (رحلة الصيف) إلي الشام وفلسطين ومصر لقبائل قريش کلها، فسافر في الصحاري والدول، وفاوض رؤساء القبائل، والملوک، الذين تمر قوافل قريش التجارية في مناطقهم، وعقد معهم جميعاً معاهداتٍ بعدم الغارة عليها وضمان سلامتها.

وقد فرحت قبائل قريش بهذا الإنجاز، وبادرت إلي الاستفادة منه، ولکنها حسدت هاشماً، وتمني زعماؤها لو أن ذلک تم علي يدهم، وکان فخره لهم.

وقد توفي هاشم مبکراً في إحدي سفراته في أرض غزة، في ظروف يحق للباحث أن يشک فيها! ولکن بيت هاشم لم ينطفئ بعده، فسرعان ما ظهر ولده عبدالمطلب، وساد في قومه، وواصل مآثر أبيه، فرتب لقريش رحلة الشتاء إلي اليمن، وعقد معاهدات لحماية قوافلها مع القبائل التي تمر عليها، ومع ملک اليمن، وفاز بفخرها کما فاز أبوه بفخر رحلة الصيف.

وعلي الصعيد المعنوي.. کانت قبائل قريش تري أن بني هاشم وعبدالمطلب يباهون دائماً بانتمائهم إلي إسماعيل واتباعهم لملة إبراهيم، کأنهم وحدهم أبناء إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام، بل کان بنو هاشم يطعنون في نسب غيرهم! کما فعل أبوطالب وبعده النبي صلي الله عليه وآله!

وتفاقم الأمر علي قريش.. عندما أخذ عبدالمطلب يدعي الإلهام عن طريق الرؤيا الصادقة، فأخبرهم بأن الله تعالي أمره بحفر زمزم التي جفت وانقرضت من قديم، فحفرها ونبع ماؤها بإذن الله تعالي، ووجد فيها غزالين من ذهب فزين بذهبهما باب الکعبة.. وبذلک فاز بمأثرةٍ جديدة فقد کان مطعم الحجيج، وصار بسبب شحة الماء في مکة ساقي الحرم والحجيج!

ثم طمأن الناس عند غزو الحبشة للکعبة، بأن الجيش لن يصل إليها، وأن الله تعالي سيتولي دفعهم.. فصدقت نبوءته، وأرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم کعصف مأکول.

ثم وضع عبدالمطلب للناس مراسم وسنناً، کأنه نبي أو ممهد لنبي، فجعل الطواف سبعاً! وکان بعض العرب يطوفون بالبيت عريانين لأن ثيابهم ليست حلالاً، فحرم عبدالمطلب ذلک! ونهي عن قتل الموؤودة. وأوجب الوفاء بالنذر، وتعظيم الأشهر الحرم. وحرم الخمر. وحرم الزنا ووضع الحد عليه، ونفي البغايا ذوات الرايات إلي خارج مکة. وحرم نکاح المحارم. وأوجب قطع يد السارق. وشدد علي القتل، وجعل ديته مئة من الإبل.. والملاحظ أن کل ذلک قد أقره الإسلام!

کانت مکانة عبدالمطلب تتعاظم في قريش وفي قبائل العرب، وزعماء قريش يأکلهم الحسد منه! حتي جرُّوه مرتين إلي المنافرة والاحتکام الي الکهان، فنصره الله عليهم بکرامة جديدة، وتعاظمت مکانته أکثر!

ولعل أکثر ما أثار زعماء قريش في آخر أيام عبدالمطلب، أنه ادعي أنه مثل جده إبراهيم عليه السلام، ونذر أن يذبح أحد أولاده قرباناً لرب الکعبة... إلي آخر قصة نذر عبدالله والد النبي وفدائه!

وما أن استراح زعماء قريش من عبدالمطلب، حتي ظهر ولده أبوطالب وساد في قومه وفي قريش والعرب رغم قلة ماله، وأخذ مکانة أبيه وجده، وواصل سيرة أبيه عبدالمطلب ومقولاته.

وفي أيام أبي طالب وقعت المصيبة علي زعماء قريش عندما ادعي ابن أخيه محمد صلي الله عليه وآله النبوة، وطلب منهم الإيمان به وإطاعته!

وزاد من خوفهم أن عدداً من بني هاشم وبني المطلب آمنوا بنبوته، وأعلن عمه أبوطالب حمايته لابن أخيه النبي صلي الله عليه وآله ليبلغ رسالة ربه بکامل حريته، وهدد قريشاً بالحرب إن هي مست منه شعرة! ووقف في وجه مؤامراتها ضده، وأطلق قصائده في فضح زعمائها، حتي طعن في أنسابهم إلي إسماعيل.. فسارت بشعره الرکبان يمدح فيه محمداً صلي الله عليه وآله، ويهجو زعماء قريش ويسمي زعيم مخزوم أباالحکم (أحيمق مخزوم) کما سماه ابن أخيه محمد (أباجهل)!!

ونشط الزعماء القرشيون في مقاومة النبوة بأنواع الإغراءات والتهديدات لأبي طالب وابن أخيه محمد صلي الله عليه وآله.. ففشلوا!

ثم اتخذوا قرارا باضطهاد المسلمين الذين تطالهم أيديهم من غير بني هاشم، فهرب أکثرهم إلي الحبشة.. وفشل زعماء قريش!

ثم اتخذوا قراراً بالإجماع وضموا إليهم بني کنانة، بعزل کل بني هاشم ومقاطعتهم مقاطعة تامة شاملة، وحصروهم في شعبهم ثلاث سنوات أو أربع فأفشل الله محاصرتهم بمعجزة!

وما أن فقد بنو هاشم رئيسهم أباطالب، حتي اتخذ زعماء قريش قراراً بالإجماع بقتل محمد صلي الله عليه وآله، الذي بقي بزعمهم بلاحامٍ ولا ناصر.. فأفشل الله کيدهم ونقل رسوله إلي المدينة التي أسلم أکثر أهلها، وهي تقع علي طريق شريانهم التجاري، وتهددهم بقطع تجارتهم مع الشام ومنطقتها!

وحاول القرشيون أن يضغطوا علي أهل المدينة بالإغراء، والوعيد، ومکائد اليهود.. ولکنهم فشلوا، لأن المدينة صارت في يد النبي صلي الله عليه وآله.. فقرروا دخول الحرب مع ابن بني هاشم، وحاربوه في بدر، وأحد، والخندق.. ففشلوا!

وحاربوه باليهود، واستنصروا عليه بالفرس والروم.. ففشلوا!

وما هو إلا أن فاجأهم محمد صلي الله عليه وآله في السنة الثامنة من هجرته فدخل عليهم عاصمتهم مکة، بجيش من جنود الله لاقبل لهم به! فاضطروا أن يعلنوا إلقاء سلاحهم، والتسليم للنبي صلي الله عليه وآله!

وقام أهل مکة سماطين ينظرون إلي دخول رسول الله صلي الله عليه وآله وجيشه.. وتقدم براية الفتح بين يديه شاب أنصاري من قبيلة الخزرج اليمانية هو عبدالله بن رواحة، وهو ينشد للفراعنة:


خلوا بني الکفار عن سبيله
فاليوم نضربکم علي تنزيله


ضرباً يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله


يا رب إني مؤمن بقيله

فقال له عمر بن الخطاب: يا بن رواحة، أفي حرم الله وبين يدي رسول الله، تقول الشعر!! فقال له رسول الله صلي الله عليه وآله: مه يا عمر، فو الذي نفسي بيده لکلامه هذا أشد عليهم من وقع النبل! (البيهقي في سننه:228:10 ونحوه الترمذي:217:4 والذهبي في سير أعلام النبلاء:235:1)

فعمر يريد أن يخفف علي زعماء قريش وقع هزيمتهم، ولا يتحداهم في عاصمتهم.. ولا ننس أن عمر من قبيلة عدي الصغيرة، وأنه نشأ علي احترام زعماء قريش وإکبارهم، ويصعب عليه أن يتحداهم أنصاري في عاصمتهم!

ولکن الرؤية النبوية أن هؤلاء الفراعنة لايفهمون إلا لغة السيوف والسهام، وأن عمل عبدالله بن رواحة عملٌ صحيحٌ، وقيمته عند الله تعالي عالية، لأنه أشد علي أعداء الله من وقع النبل!!

فقه فتح مکة دوخ الفقهاء السنيين.. ولم يصحوا من دوختهم!

أعلن الرسول صلي الله عليه وآله الأمان لقريش لمن ألقي سلاحه، وجمع زعماءهم في المسجد الحرام وسيوف جنود الله فوق رؤوسهم.. وذکرهم بتکبرهم وتجبرهم وتکذيبهم لآيات الله ومعجزاته، وعدائهم لله ورسوله، واضطهادهم لبني هاشم والمسلمين، وحروبهم ومکائدهم ضد الإسلام ورسوله.. قال الطبري في تاريخه:337:2:

(عن قتادة السدوسي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قام قائماً حين وقف علي باب الکعبة ثم قال: لاإله إلا الله وحده لاشريک له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

ألا کل مأثرةٍ أو دم أو مال يدعي، فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج...

يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنکم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم وآدم خلق من تراب. يا أيها الناس إنا خلقناکم من ذکر وأنثي وجعلناکم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أکرمکم عند الله أتقاکم.. الآية.

يا معشر قريش ويا أهل مکة: ما ترون أني فاعلٌ بکم؟!

قالوا: خيراً، أخ کريم، وابن أخ کريم.ثم قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء! فأعتقهم رسول الله صلي الله عليه وسلم، وقد کان الله أمکنه من رقابهم عنوةً، وکانوا له فَيْئاً، فبذلک يسمي أهل مکة الطلقاء). انتهي.

وهنا تحير فقهاء الخلافة القرشية وکل علماء بلاطها..!!

فإن إطلاق الأسير لايتحقق إلا بعد الأسر والإسترقاق. فهو يعني أن النبي صلي الله عليه وآله قد استرقهم، ثم أعتقهم، فصار له ولآله ولاؤهم.

ويعني أن إسلامهم قد رفع عنهم القتل فقط، ولم يرفع عنهم جواز الإسترقاق! فهذه أحکام شرعية لايمکن إنکارها، لکنها خاصة بقريش، ولا يوجد لها مثيل في أحکام الجهاد والفتح الإسلامي!!

فالحکم الشرعي لقريش حيث خافت ولم تجرؤ علي مقاومة النبي صلي الله عليه وآله، لو کانت من أهل الکتاب، أن يخيرها النبي بين ثلاث خصال: الإسلام، أو القتال، أو دفع الجزية والبقاء علي دينهم.. ولکنهم مشرکون فهم مخيرون بين الإسلام والقتال فقط، وقد اختاروا الإسلام ولو تحت السيف. فکان اللازم أن تثبت لهم أحکام المسلمين، ولکن النبي صلي الله عليه وآله رتب عليهم حکم المشرکين الأسري فأطلقهم (إطلاقاً) ولم يعتقهم کما قال الطبري! وهذا الإطلاق لايعرفه الفقهاء في أحکام الأسري! لأن الأسير إما أن يقتل أو يمن عليه ويعتق، أو يفادي. أما الإطلاق بدون عتق ولا مفاداة، فهو خاص بقبائل قريش في فتح مکة!

يضاف إلي مصيبة فقهاء البلاط القرشي.. مسألة فقهية ثانية لاحل لها عندهم أيضاً، وهي: إعلان النبي الأمان لقريش لکل من دخل داره وأغلق بابه، وکل من ألقي سلاحه، وکل من دخل دار أبي سفيان. وهو أمان لمشرکين في حالة حرب مع المسلمين ليس فيه شرط أن يدخلوا في الإسلام!

ومسألة ثالثة هي حکم أراضي مکة، وهل أنها بالأصل، عتيقة من الملکية تبعاً للبيت العتيق؟

أم أنها مفتوحة عنوة، فتکون ملکاً لکل المسلمين إلي يوم القيامة؟

أم أن النبي صلي الله عليه وآله أقر ملکية القرشيين فيها بسبب إعلانهم إسلامهم، فصارت ملکيتهم صحيحة ثم اشتري الناس من القرشيين ومن تبعهم إلي يومنا هذا؟! لکن کيف يصح أن يقر النبي ملکية القرشيين، ثم يعتبرهم أسري ويطلقهم إطلاقاً لاعتاقاً.. فهل معني ذلک إلا أن ملکية أراضيهم تابعة لملکية رقابهم؟! وأنها للنبي.. ثم لآله من بعده.. صلي الله عليه وآله.

وحل لهذه المسائل من وجهة نظرنا: أن أرض مکة لاتملک، والولاية عليها لرسول الله صلي الله عليه وآله ثم للأئمة من أهل بيته عليهم السلام.

وإن الأمان الذي أعطاه رسول الله صلي الله عليه وآله لهم هو أمر برفع القتل فعلاً عن مشرکين محاربين، إلا من استثني منهم. وأما إطلاقهم فهو يعني أن النبي صلي الله عليه وآله قد أسرهم وتملکهم شرعاً، ولم يعتقهم بل أطلقهم إطلاقاً، کالذي يقول لعبيده: إذهبوا وافعلوا ما شئتم، فيکون ملکه عليهم وعلي ذراريهم باقياً، وتعود ملکيتهم وممتلکاتهم بعده إلي ذريته. وهذا يعني أن النبي لم يخيرهم بين الإسلام والقتال، بل اعتبر أنهم اختاروا القتال وغلبهم وأخذهم أسري، کما هو الواقع! أما إعلان إسلامهم فقد رتب عليه النبي صلي الله عليه وآله أحياناً أحکام المسلمين وألزمهم بالجهاد معه في حنين وأخذ من نسائهم البيعة. کما رتب عليهم أحيانا أخري أحکام المشرکين ولم يرجع إليهم أولادهم ولا عبيدهم الذين هاجروا إليه بعد فتح مکة، کما سيأتي! وهذا يعني أنه مخير بين أن يرتب عليهم أحکام الاسلام عندما يراه مصلحة، أو أحکام الکفر عندما يراه مصلحة.. وهي أحکام تنسجم في فقهنا مع مقام النبي والامام، صلي الله علي نبينا وآله. ولا يتسع المجال للإفاضة في هذا البحث، فنکتفي بإيراد نصوص عن الأئمة صلوات الله عليهم تؤکد ما ذکرناه، منها: ما في نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده:30:3 في جواب علي عليه السلام لمعاوية: (وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان، فذکرت أمراً إن تم اعتزلک کله، وإن نقص لم تلحقک ثلمته. وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس؟! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم؟!! هيهات، لقد حن قدح ليس منها، وطفق يحکم فيها من عليه الحکم لها! ألا تربع أيها الإنسان علي ظلعک، وتعرف قصور ذرعک، وتتأخر حيث أخرک القدر، فما عليک غلبة المغلوب، ولا لک ظفر الظافر.. وإنک لذهَّابٌ في التيه، رواغٌ عن القصد). انتهي.

وفي الکافي:512:3 (من أسلم طوعاً ترکت أرضه في يده.. وما أخذ بالسيف فذلک إلي الإمام يقبله بالذي يري کما صنع رسول الله صلي الله عليه وآله بخيبر.. وقال: إن أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر، وإن أهل مکة دخلها رسول الله صلي الله عليه وآله عنوة فکانوا أسراء في يده، فأعتقهم وقال: إذهبوا فأنتم الطلقاء). انتهي.

أما فقهاء المذاهب السنية فقد اعتبروا أن قريشاً دخلوا في الإسلام وترتبت عليهم أحکامه وانتهي الأمر. وإذا سألتهم عن اسم (الطلقاء) وعن تطبيق أحکام القتال علي أهل مکة وأرضها، سارعوا الي التخلص من ذم قريش وذکر أسرها.. وقالوا إنها أحکام خاصة بالنبي صلي الله عليه وآله.

قال الشافعي في کتاب الأم:382:7 (قال الأوزاعي: فتح رسول الله صلي الله عليه وسلم مکة عنوةًً، فخلي بين المهاجرين وأرضهم ودورهم بمکة، ولم يجعلها فيئاً. قال أبويوسف رحمه الله: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم عفا عن مکة وأهلها وقال: من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ونهي عن القتل إلا نفراً قد سماهم، إلا أن يقاتل أحد فيقتل، وقال لهم حين اجتمعوا في المسجد: ما ترون أني صانع بکم؟ قالوا: خيراً، أخ کريم، وابن أخ کريم. قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء. ولم يجعل شيئاً قليلاً ولا کثيراً من متاعهم فيئاً. وقد أخبرتک أن رسول الله صلي الله عليه وسلم ليس في هذا کغيره، فهذا من ذلک، وتفهم فيما أتاک عن النبي صلي الله عليه وسلم، فإن لذلک وجوهاً ومعاني). انتهي.

وغرض فقهاء الخلافة القرشية من ذلک أن النبي صلي الله عليه وآله لم يجعل أرض مکة فيئاً للمسلمين، ولا جعل أهلها عبيداً وموالي لهم، کما هي أحکام الإسلام، بل عفا عنهم وقبل إسلامهم، وهذا لايجوز لأحد أن يفعله ذلک مع مشرکين محاربين! لکنه حکم خاص بالنبي صلي الله عليه وآله.. فهم بذلک يزعمون تکريم الله ورسوله لقريش، بأحکام خاصة وامتيازات عن بقية المشرکين!! لکن العقبة الکأداء تبقي أمامهم صفة (الطلقاء) التي ختم بها النبي صلي الله عليه وآله أعناق جميع قريش الي يوم القيامة.. وهي صفة لاتصح إلا للعبيد المملوکين!

وقد تنبه بعض النواصب إلي أنه لاحل لمشکلة قريش مع أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله ما دام اسم (الطلقاء) وصمة نبوية علي جبينهم. فهي تعني أن قريشاً صارواً عبيداً شرعيين للنبي صلي الله عليه وآله، وأنه أطلقهم إطلاقاً فعلياً مع بقاء ملکيتهم له ثم لأهل بيته عليهم السلام، وحتي لو زعم أحدٌ أن النبي أعتقهم فولاؤهم له ولأهل بيته أيضاً!

ومن هنا حاولوا إنکار اسم (الطلقاء) من أساسه ليخلصوا أسيادهم القرشيين من صفة الرق الشرعي للنبي وآله صلي الله عليه وآله!!

ومما صادفته في تصفحي، ما ارتکبه الشيخ ناصر الدين الألباني من تعصبٍ مفضوح للقرشيين، حيث ضعف هذا الحديث! فقال في سلسلة أحاديثه الضعيفة307:3 برقم: 1163 (ضعيف. رواه ابن إسحاق في السيرة:31:4 ج 32 وعنه الطبري في التاريخ 120:3 ونقله الحافظ ابن کثير في البداية والنهاية 4: 301-300 ساکتاً عليه. وهذا سند ضعيف مرسل، لأن شيخ ابن إسحاق فيه لم يسم، فهو مجهول. ثم هو ليس صحابياً، لأن ابن إسحاق لم يدرک أحداً من الصحابة، بل هو يروي عن التابعين وأقرانه، فهو مرسل، أو معضل. انتهي.

ولابدأن الألباني المحدث يعرف وجود هذا الحديث ومؤيداته في المصادر الأخري، ولم ير المحدثين والفقهاء وهم يرسلونه إرسال المسلمات! فمرضه ليس الجهل بالتاريخ والحديث.. بل مرضه حب القرشيين فهو يحاول تخليصهم من صفة الرق الشرعية للنبي وآله الطاهرين صلي الله عليه وآله؟!

إن مسألة الطلقاء ثابتة مشهورة عند جميع الفرق، واسم (الطلقاء) اسم کالعلم لأکثر قريش، وهو کثير في مصادر الحديث، وقد دخلت أحکامه في فقه المذاهب. فقد روي البخاري في صحيحه:106-5:105 قال: (لما کان يوم حنين التقي هوازن ومع النبي صلي الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء، فأدبروا...) وفي مسلم:106:3 (ومعه الطلقاء فأدبروا عنه حتي بقي وحده) أي مع بني هاشم!! ونحوه في:196:5 وفي مسند أحمد:190:3 و279.

وفي مسند أحمد:363:4 (قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض، إلي يوم القيامة)!! وهو حديث عجيب!! وقد صححه الحاکم في المستدرک: 80:4 وقال عنه في مجمع الزوائد:15:10 رواه أحمد والطبراني بأسانيد، وأحد أسانيد الطبراني رجاله رجال الصحيح، وقد جوده رضي الله عنه وعنا، فإنه رواه عن الأعمش عن موسي بن عبدالله بن يزيد بن عبدالرحمن بن هلال العبسي، عن جرير وموسي بن عبدالله بن هلال العبسي. (وراجع أيضاً مغني ابن قدامة:321:7 ومبسوط السرخسي:39:10 ومسند أحمد:279:3 وسنن البيهقي:306:6 و266:8 و:118:9 وکنز العمال:86:12).

وفي کنز العمال:735:5 (قال لهم عمر: إن هذا الأمر لايصلح للطلقاء ولا لأبناء الطلقاء، فإن اختلفتم فلا تظنوا عبدالله بن أبي ربيعة عنکم غافلاً. ابن سعد). انتهي. فقضية الطلقاء وحديثهم صحيحة في مصادرهم.. وتعازينا لعلماء بلاطهم من الألبانيين والعرب!