تخبط الشراح السنيين في تفسير الأئمه الإثني عشر











تخبط الشراح السنيين في تفسير الأئمه الإثني عشر



إذا أردنا أن نکون أمناء مع النص النبوي، يلزم أن نقول:

إن کلمة (من بعدي) في الحديث الشريف تدل علي أن إمامة هؤلاء الإثني عشر تبدأ بعد وفاته صلي الله عليه وآله مباشرة، ولا تدل علي أنهم سيحکمون من بعده، لأنها إخبار عن وجودهم فقط، سواء کانوا حکاماً أو محکومين. بل تدل صيغ الحديث المتقدمة عن ابن سمرة وابن مسعود، علي أن الأمة تخذل هؤلاء الأئمة الإثني عشر وتعاديهم، وذلک يشمل إبعادهم عن الحکم، ولکن ذلک لايضرهم شيئاً.

وقد تقدم في تفسير الطبري (يکون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً،

لا يضرهم من خذلهم، إثنا عشر قيما من قريش لايضرهم عداوة من عاداهم)!

وبذلک لاتجد مانعاً من انطباق الحديث علي الأئمة الإثني عشر من عترة النبي صلي الله عليه وآله حتي لو لم يحکموا، أو لم يحکم منهم إلا علي والحسن عليهماالسلام، وسيحکم منهم المهدي الموعود علي لسان جده الرسول صلي الله عليه وآله.

کما أن الأحاديث التي ذکرت ما يکون بعدهم تدل علي أن مدتهم طويلة فبعضها ذکر أنه يکون بعدهم الهرج والفوضي والنفاق فأشار إلي انهيار الأمة. وبعضها ذکر أن زمنهم يمتد ما دامت الأرض، وأن مدتهم إذا تمت ساخت الأرض بأهلها.. وهذا يؤيد نظرية امتداد عصر هؤلاء الأئمة عليهم السلام إلي آخر الدنيا، کما نصت عليه أحاديثنا.

قال أبوالصلاح الحلبي المتوفي سنة437 في کتابه تقريب المعارف173:

ورووا عن عبدالله بن أبي أمية مولي مجاشع، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالک قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: لايزال هذا الدين قائماً إلي اثني عشر من قريش، فإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها. انتهي. ونحوه في إعلام الوري364: وهو موافق لما في مصادرنا عن أهمية وجود الحجة لله تعالي في أرضه في کل عصر..

ففي الکافي:179:1 و534:

عن أبي حمزة قال: (قلت لأبي عبدالله عليه السلام: أتبقي الأرض بغير إمام؟ قال: لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت)! انتهي.

وعلي هذا التفسير لنص الحديث، يکون هدف النبي صلي الله عليه وآله من طرح الأئمة الإثني عشر في أهم تجمع للمسلمين في حجة الوداع، هو: توجيه الأمة إليهم.. لو أنها أخذت بحظها وأطاعته فيهم! بل يمکن القول: إنه يتعين تفسير الحديث بالأئمة الإثني عشر من أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله، لأن کل تفسير له بغيرهم لايصح بسبب کثرة الإشکالات التي ترد عليه. قال الکنجي الشافعي في ينابيع المودة:446:

(قال بعض المحققين: إن الأحاديث الدالة علي کون الخلفاء بعده صلي الله عليه وآله اثنا عشر قد اشتهرت من طرق کثيرة... فبشرح الزمان وتعريف الکون والمکان، علم أن مراد رسول الله صلي الله عليه وآله من حديثه هذا الأئمة الإثنا عشر من أهل بيته وعترته، إذ لايمکن أن يحمل هذا الحديث علي الخلفاء بعده من أصحابه لقلتهم عن اثني عشر، ولا يمکن أن يحمله علي الملوک الأموية لزيادتهم علي اثني عشر، ولظلمهم الفاحش إلا عمر بن عبدالعزيز، ولکونهم من غير بني هاشم، لأن النبي صلي الله عليه وآله قال: کلهم من بني هاشم في رواية عبدالملک، عن جابر، وإخفاء صوته صلي الله عليه وآله في هذا القول يرجح هذه الرواية، لأنهم لايحسنون خلافة بني هاشم.

ولا يمکن أن يحمله علي الملوک العباسية، لزيادتهم علي العدد المذکور، ولقلة رعايتهم الآية: قل لاأسألکم عليه أجراً إلا المودة في القربي، وحديث الکساء. فلا بد من أن يحمل هذا الحديث علي الأئمة الإثني عشر من أهل بيته وعترته صلي الله عليه وآله، لأنهم کانوا أعلم أهل زمانهم وأجلهم وأورعهم وأتقاهم، وأعلاهم نسباً، وأفضلهم حسباً، وأکرمهم عند الله... ويؤيد هذا المعني، أي أن مراد النبي صلي الله عليه وآله الأئمة الإثني عشر من أهل بيته، ويشهد له ويرجحه: حديث الثقلين، والأحاديث المتکثرة المذکورة في هذا الکتاب، وغيرها... وفي نهج البلاغة من خطبة علي کرم الله وجهه: أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، کذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم.. بنا يستعطي الهدي، وبنا يستجلي العمي. وإنه سيأتي عليکم من بعدي زمان ليس فيه شي ء أخفي من الحق، ولا أظهر من الباطل، ولاأکثر من الکذب علي الله ورسوله صلي الله عليه وآله، وليس عند أهل ذلک الزمان سلعة أبور من الکتاب إذا تلي حق تلاوته، ولا أنفق منه إذا حرف عن مواضعه، ولا في البلاد شي ء أنکر من المعروف، ولا أعرف من المنکر. واعلموا أنکم لن تعرفوا الرشد حتي تعرفوا الذي ترکه، ولن تأخذوا بميثاق الکتاب حتي تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسکوا به حتي تعرفوا الذي نبذه، فالتمسوا ذلک من عند أهله، فإنهم عيش العلم وموت الجهل، هم الذين يخبرکم حکمهم عن عملهم، وصمتهم عن منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم، لايخالفون الدين، ولايختلفون فيه، وهو بينهم شاهد صادق، وصامت ناطق). انتهي.

ولکن عامة الشراح السنيين لايقبلون هذا التفسير، ويحذرون أتباعهم من أن يقنعهم الشيعة بأن النبي صلي الله عليه وآله قد نص علي الأئمة الإثني عشر من عترته!! ويقولون لأتباعهم: إن حديث الأئمة الإثني عشر صحيح مئة بالمئة، لکن لاتقبلوا تفسير الشيعة، ونحن إن شاء الله نفسره لکم تفسيراً صحيحاً.. ولکنهم إلي يومنا هذا لم يستطيعوا أن يقدموا لهم تفسيراً مقنعاً للحديث، ولن يستطيعوا.. لأنهم يريدون تطبيق هؤلاء الإثني عشر علي الخلفاء الذين حکموا بعد النبي صلي الله عليه وآله من الخلفاء الأربعة، وعبدالله بن الزبير، وسلسلة خلفاء بني سفيان وبني مروان، ثم بني العباس.. وربما غيرهم من أموي الأندلس، والسلاجقة، والمماليک، والأتراک!!

وعندما يجدونهم أضعاف العدد المطلوب، يلجؤون إلي الفرضيات، فيختارون أحسن الخلفاء الأمويين والعباسيين، ويخلعون عليهم صفة الأئمة الربانيين، فيثبتون هذا ويحذفون ذاک! اختياراً وحذفاً (کيفياً) لمجرد تکميل العدد! وبعضهم لايکمل معه العدد ممن اختارهم فيقول: إن الباقين سوف يأتون!

ومن الواضح أنها تطبيقات لاتقف عند حد، ولا تستند إلي أساس، وأن الذي يسلکها يکلف نفسه شططاً، کمن يکلف نفسه بأن يختار اثني عشر شخصاً من رؤساء المسلمين وملوکهم المعاصرين، ويقول عنهم إنهم قادة ربانيون اختارهم الله تعالي، ووعد الأمة بهم علي لسان رسوله صلي الله عليه وآله! ولو أن العلماء السنيين فکروا أکثر، لما جشموا أنفسهم هذه العقبة الکؤود، وتخلصوا من إشکالات لافکاک لهم منها:

أولاً: لأن هؤلاء الأئمة الربانيين الموعودين مختارون من الله تعالي، فلا بد أن يکونوا متفقين، لأنهم جميعاً علي خط واحد وهدي من ربهم ونبيهم.. بينما خلفاء السنيين وأئمتهم مختلفون متقاتلون..

فهل سمعتم بالحرب والقتال بين الأنبياء عليهم السلام حتي تقنعونا بإمکانها بين الأئمة الربانيين عليهم السلام.. وأن بعضهم کان يکيد للآخر ويفسقه ويکفره، ويذبحه ذبح الخروف، أو يسمل عينيه ويقطع لسانه ويديه ورجليه!! إقرؤوا إن شئتم تاريخ الصراع علي الحکم بين الخلفاء الأمويين أنفسهم، والعباسيين أنفسهم!

وثانياً: لأنهم بإعطاء صفة الإمام من الله تعالي للخليفة الذي يحبونه، ابتداءً من الخليفة عمر بن الخطاب.. إلي السلطان سليم العثماني، يصيرون ملکيين أکثر من الملک، وخليفيين أکثر من الخليفة، ويثبتون لهم ما لم يدعه أحد منهم لنفسه! فلو کان أحدهم إماماً ربانياً مختاراً من الله تعالي مبشراً به من رسوله.. لعرف نفسه وادعي هو ذلک! حيث لايمکن أن يکون شخص إماماً وحجة لله علي عباده وحاکماً باسمه.. ثم لايعرف هو مقامه الإلهي العظيم!!

ولا نجد أحداً من هؤلاء الخلفاء ادعي أنه إمام من الله تعالي غير الأئمة من أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله.

وثالثاً: ذکرنا أن النبي صلي الله عليه وآله قال: إنهم يکونون من بعده. ولم يقل إنهم يحکمون.. فلماذا يلزمون أنفسهم بالعثور علي الأئمة الإثني عشر الموعودين في الحکام فقط؟! وإذا ألزم الباحث نفسه في مسألة بما لايلزم فيها، فقد تورط فيها وأقام في ورطته!

ورابعاً: إن الذين يعدونهم أئمة ربانيين، مبشراً بهم من رب العالمين، قد ثبت أن أکثرهم قد لعنهم الله تعالي علي لسان نبيه صلي الله عليه وآله!! فهل رأيتم أمة يحکمها بأمر الله تعالي الملعونون علي لسان نبيها؟!!

وکيف يلعن الله تعالي أشخاصاً ويحکم عليهم بالطرد من رحمته لخبثهم، ثم يختارهم أو يختار من أولادهم أئمةً ربانيين، هداةً لعباده، وحکاماً لبلاده!!

فقد ثبت في مصادر السنيين أن النبي صلي الله عليه وآله قد لعن الحکم وابنه مروان، ونفاهما من المدينة حتي أعادهما عثمان، وأنه رأي أباسفيان راکباً علي جمل يجره معاوية ويقوده ولده الآخر، فلعن الراکب والقائد والسائق (راجع مجمع الزوائد:113:1) إلي آخر هذا البحث الذي لايتسع له موضوعنا، ولا تتسع له صدور أتباع الأمويين!

ولهذه الأسباب کثرت أقوالهم واحتمالاتهم في تفسير الأئمة المبشر بهم، ولعلها زادت عن الثلاثين قولاً! وکلها معلولة ينقضها الحديث الشريف، وينقض بعضها بعضاً.. ولعل أقدمها قول ابن حبان الذي نقله عنه في عون المعبود في شرح سنن أبي داود:361:11 قال: (وأما: الخلفاء اثنا عشر، فقد قال جماعة منهم أبوحاتم بن حبان وغيره: إن آخرهم عمر بن عبدالعزيز، فذکروا الخلفاء الأربعة، ثم معاوية، ثم يزيد ابنه، ثم معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحکم، ثم عبدالملک ابنه، ثم الوليد بن عبدالملک، ثم سليمان بن عبدالملک، ثم عمر بن العزيز. وکانت وفاته علي رأس المائة). انتهي.

ولکن هذا التفسير الأموي لابن حبان وجماعته، قد نسخه العلماء الذين جاؤوا من بعدهم وأحبوا العباسيين، فأدخلوا بعضهم في بشارة النبي صلي الله عليه وآله، وحذفوا بني أمية، کلاً أو بعضاً!

ويلاحظ أن هذا التفسير حذف اسم الإمام المهدي عليه السلام مع أنه مبشر به بأحاديث صحيحة عندهم، ويشمله قول جده صلي الله عليه وآله

(من بعدي اثنا عشر إماماً). کما حذفوا اسم الإمام الحسن عليه السلام مع أنه بايعه المسلمون ما عدا أهل الشام وحکم ستة أشهر، وقد أثبته السنييون المتأخرون عنهم.

بل کان يجب أن يثبتوا اسمه واسم أخيه الحسين عليهماالسلام لأن النبي صلي الله عليه وآله شهد بأنهما إمامان قاما أم قعدا، وشهد بأنهما سيدا شباب أهل الجنة.

بينما أثبت هذا التفسير الحباني اسم يزيد بن معاوية، وجعله من الأئمة الربانيين الذين بشر بهم النبي صلي الله عليه وآله! وهي درجةٌ لايطمع فيها يزيد ولا محبوه العقلاء، لأنهم إلي اليوم يکافحون لإثبات إسلام يزيد، وعدم ارتداده بسبب تصريحاته، وعدم فسقه بسبب جرائمه التي ارتکبها في کربلاء وفي استباحة المدينة، وهدم الکعبة!

کما عدُّوا منهم علي هذا التفسير معاوية بن يزيد (معاوية الثاني) الذي ولوه الخلافة بعد أبيه يزيد، فخطب خطبته الأولي والأخيرة، وتبرأ فيها من ظلم أبيه يزيد وجده معاوية! وشهد بأن الخلافة حق شرعي لعلي عليه السلام، وأن معاوية ظلمه وغصبها منه، ثم عزل نفسه عنها، فقتله بنو أمية!

فلو کان هذا الشخص من الأئمة الإثني عشر الربانيين لعرف هو ذلک، وما خلع نفسه وعرضها لغضب أسرته الحاکمة الباطشة!

کما أن هذا التفسير تجاهل حديث (سفينة) الثابت عندهم القائل: إن الخلافة ثلاثون سنة، وبعدها الملک العضوض، وقد صححه المحدثون، وأخذ به المفسرون الآخرون.. إلي آخر الإشکالات عليه!

ويطول الکلام لو أردنا أن نستقصي محاولات کبار علمائهم تفسير الحديث الشريف. ولکن الذي يسهل الأمر أن کلامهم في ذلک متشابه، وأنه ما زال إلي اليوم يدور في محور التفسير الأموي! وفيما يلي نماذج من تفاسيرهم وما يرد عليها:

قال السيوطي في تاريخ الخلفاء:10:

(قال القاضي عياض: لعل المراد بالإثني عشر في هذه الأحاديث وما شابهها أنهم يکونون في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والإجتماع علي من يقوم بالخلافة، وقد وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس إلي أن اضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة، زمن الوليد بن يزيد، فاتصلت بينهم، إلي أن قامت الدولة العباسية، فاستأصلوا أمرهم. قال شيخ الإسلام ابن حجر في شرح البخاري: کلام القاضي عياض أحسن ما قيل في الحديث وأرجحه، لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة: کلهم يجتمع عليه الناس.

قلت: وعلي هذا فقد وجد من الإثنا عشر خليفة: الخلفاء الأربعة، والحسن، ومعاوية، وابن الزبير، وعمر بن عبدالعزيز، هؤلاء ثمانية. ويحتمل أن يضم إليهم المهتدي من العباسيين، لأنه فيهم کعمر بن عبدالعزيز في بني أمية، وکذلک الظاهر، لما أوتيه من العدل، وبقي الإثنان المنتظران: أحدهم المهدي، لأنه من آل بيت محمد صلي الله عليه وسلم). انتهي.

ولکن السيوطي وابن حجر أخذا بزيادة (وکلهم تجتمع عليهم الأمة) التي تقدم أنها لم تثبت. والألباني الوهابي وغيره قالوا: إنها منکرة.

کما أنهما تجاوزا حديث سفينة الذي صح عندهم، والذي يحدد المدة الزمنية للخلافة الراشدة بثلاثين سنة! وبذلک يصير المطلوب لهم أحد عشر حاکماً في ثلاثين سنة، ويبطل انتقاء أحد من الحکام الأمويين والعباسيين!

مضافاً إلي أن نقل السيوطي لکلام عياض وابن حجر لم يکن دقيقاً مع الأسف! فقد تجاهل أن ابن حجر عدهم إلي الثاني عشر من بني أمية، فقال (والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبدالملک) بينما أوصلهم السيوطي في بني أمية إلي ثمانية، ووضع فيهم اثنين من خلفاء بني العباس!!

وإليک فقرات من کلام ابن حجر في فتح الباري لتعرف الخلل في نقل السيوطي عنه! قال: (قال ابن بطال عن المهلب: لم ألق أحداً يقطع في هذا الحديث، يعني بشئ معين! فقوم قالوا: يکونون بتوالي إمارتهم. وقوم قالوا: يکونون في زمن واحد کلهم يدعي الإمارة! قال: والذي يغلب علي الظن أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأعاجيب تکون بعده من الفتن، حتي يفترق الناس في وقت واحد علي اثني عشر أميراً! قال: ولو أراد غير هذا لقال: يکون اثنا عشر أميراً يفعلون کذا، فلما أعراهم من الخبر، عرفنا أنه أراد أنهم يکونون في زمن واحد. انتهي.

(أي کلام ابن بطال). ثم قال واصل ابن حجر کلامه قائلاً: وهو کلام من لم يقف علي شي ء من طرق الحديث غير الرواية التي وقعت في البخاري هکذا مختصرة، وقد عرفت من الروايات التي ذکرتها من عند مسلم وغيره أنه ذکر الصفة التي تختص بولايتهم، وهو کون الإسلام عزيزاً منيعاً.

وفي الرواية الأخري صفة أخري وهو: أن کلهم يجتمع عليه الناس، کما وقع عند أبي داود، فإنه أخرج هذا الحديث من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن أبيه، عن جابر بن سمرة بلفظ: لايزال هذا الدين قائماً حتي يکون عليکم اثنا عشر خليفة کلهم تجتمع عليه الأمة. وأخرجه الطبراني من وجه آخر، عن الأسود بن سعيد، عن جابر بن سمرة بلفظ: لاتضرهم عداوة من عاداهم. وقد لخص القاضي عياض ذلک فقال: توجه علي هذا العدد سؤالان: أحدهما: أنه يعارضه ظاهر قوله في حديث سفينة، يعني الذي أخرجه أصحاب السنن وصححه بن حبان وغيره: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تکون ملکاً. الثلاثون سنة لم يکن فيها إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن بن علي. والثاني: أنه ولي الخلافة أکثر من هذا العدد.

قال: والجواب عن الأول: أنه أراد في حديث سفينة: خلافة النبوة، ولم يقيده في حديث جابر بن سمرة بذلک.

وعن الثاني: أنه لم يقل: لايلي إلا اثنا عشر، وإنما قال: يکون اثنا عشر، وقد ولي هذا العدد، ولا يمنع ذلک الزيادة عليهم.

قال: وهذا إن جعل اللفظ واقعاً علي کل من ولي، وإلا فيحتمل أن يکون المراد من يستحق الخلافة من أئمة العدل، وقد مضي منهم الخلفاء الأربعة، ولا بد من تمام العدة قبل قيام الساعة.

وقد قيل: إنهم يکونون في زمن واحد يفترق الناس عليهم، وقد وقع في المائة الخامسة في الأندلس وحدها ستة أنفس کلهم يتسمي بالخلافة، ومعهم صاحب مصر، والعباسية ببغداد، إلي من کان يدعي الخلافة في أقطار الأرض من العلوية والخوارج.

قال: ويعضد هذا التأويل قوله في حديث آخر في مسلم: ستکون خلفاء فيکثرون.

قال: ويحتمل أن يکون المراد أن يکون الإثنا عشر في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والإجتماع علي من يقوم بالخلافة، ويؤيده قوله في بعض الطرق: کلهم تجتمع عليه الأمة. وهذا قد وجد فيما اجتمع عليه الناس إلي أن اضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد، فاتصلت بينهم إلي أن قامت الدولة العباسية فاستأصلوا أمرهم. وهذا العدد موجود صحيح إذا اعتبر.

قال: وقد يحتمل وجوهاً أخر.. والله أعلم بمراد نبيه. انتهي. (أي کلام عياض). ثم واصل ابن حجر قائلاً: والإحتمال الذي قبل هذا، وهو اجتماع اثني عشر في عصر واحد کلهم يطلب الخلافة، هو الذي اختاره المهلب کما تقدم. وقد ذکرت وجه الرد عليه، ولو لم يرد إلا قوله کلهم يجتمع عليه الناس، فإن في وجودهم في عصر واحد يوجد عين الإفتراق، فلا يصح أن يکون المراد. ويؤيد ما وقع عند أبي داود: ما أخرجه أحمد والبزار من حديث بن مسعود بسند حسن: أنه سئل: کم يملک هذه الأمة من خليفة؟ فقال: سألنا عنها رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: اثنا عشر کعدة نقباء بني إسرائيل.

وقال ابن الجوزي في کشف المشکل: قد أطلت البحث عن معني هذا الحديث، وتطلبت مظانه، وسألت عنه فلم أقع علي المقصود به، لأن ألفاظه مختلفة، ولا أشک أن التخليط فيها من الرواة، ثم وقع لي فيه شي ء وجدت الخطابي بعد ذلک قد أشار إليه، ثم وجدت کلاماً لأبي الحسين بن المنادي وکلاماً لغيره.

فأما الوجه الأول: فإنه أشار إلي ما يکون بعده وبعد أصحابه، وأن حکم أصحابه مرتبط بحکمه، فأخبر عن الولايات الواقعة بعدهم، فکأنه أشار بذلک إلي عدد الخلفاء من بني أمية، وکأن قوله: لايزال الدين: أي الولاية، إلي أن يلي اثنا عشر خليفة. ثم ينتقل إلي صفة أخري أشد من الأولي. وأول بني أمية يزيد بن معاوية، وآخرهم مروان الحمار، وعدتهم ثلاثة عشر، ولا يعد عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير، لکونهم صحابة! فإذا أسقطنا منهم مروان بن الحکم للإختلاف في صحبته، أو لأنه کان متغلباً بعد أن اجتمع الناس علي عبدالله بن الزبير، صحت العدة. وعند خروج الخلافة من بني أمية وقعت الفتن العظيمة والملاحم الکثيرة، حتي استقرت دولة بني العباس، فتغيرت الأحوال عما کانت عليه تغيراً بيناً.

قال: ويؤيد هذا ما أخرجه أبوداود من حديث بن مسعود، رفعه: تدور رحي الإسلام لخمس وثلاثين أو ست ومثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن هلکوا فسبيل من هلک، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً. (قال المؤلف: لاأعرف من صحح هذا الحديث غير الألباني). ثم قال ابن حجر: قلت: لکن يعکر عليه أنّ مِن استقرار الملک لبني أمية عند اجتماع الناس علي معاوية سنة إحدي وأربعين، إلي أن زالت دولة بني أمية فقتل مروان بن محمد في أوائل سنة: اثنتين وثلاثين ومائة، أزيد من تسعين سنة...

قال (أي ابن الجوزي): وأما الوجه الثاني: فقال أبوالحسين بن المنادي في الجزء الذي جمعه في المهدي: يحتمل في معني حديث: يکون اثنا عشر خليفة، أن يکون هذا بعد المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، فقد وجدت في کتاب دانيال: إذا مات المهدي ملک بعده خمسة رجال من ولد السبط الأکبر، ثم خمسة من ولد السبط الأصغر، ثم يوصي آخرهم بالخلافة لرجل من ولد السبط الأکبر، ثم يملک بعده ولده، فيتم بذلک اثنا عشر ملکاً، کل واحد منهم إمام مهدي.

قال ابن المنادي: وفي رواية أبي صالح عن بن عباس: المهدي اسمه محمد بن عبدالله، وهو رجل ربعة مشرب بحمرة، يفرج الله به عن هذه الأمة کل کرب ويصرف بعدله کل جور، ثم يلي الأمر بعده اثنا عشر رجلاً، ستة من ولد الحسن وخمسة من ولد الحسين، وآخر من غيرهم، ثم يموت فيفسد الزمان. وعن کعب الأحبار: يکون اثنا عشر مهدياً، ثم ينزل روح الله فيقتل الدجال.

قال: والوجه الثالث: أن المراد: وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الإسلام إلي يوم القيامة، يعملون بالحق وإن لم تتوال أيامهم.

ويؤيده ما أخرجه مسدد في مسنده الکبير، من طريق أبي بحر أن أباالجلد، حدثه أنه لاتهلک هذه الأمة حتي يکون منها اثنا عشر خليفة کلهم يعمل بالهدي ودين الحق، منهم رجلان من أهل بيت محمد، يعيش أحدهما أربعين سنة والآخر ثلاثين سنة. وعلي هذا فالمراد بقوله: ثم يکون الهرج، أي الفتن المؤذنة بقيام الساعة، من خروج الدجال ثم يأجوج ومأجوج إلي أن تنقضي الدنيا. انتهي کلام بن الجوزي ملخصاً بزيادات يسيرة.

وتابع ابن حجر قائلاً: والوجهان الأول والآخر قد اشتمل عليهما کلام القاضي عياض، فکأنه ما وقف عليه، بدليل أن في کلامه زيادة لم يشتمل عليها کلامه. وينتظم من مجموع ما ذکراه أوجه، أرجحها الثالث من أوجه القاضي لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة: کلهم يجتمع عليه الناس.

وإيضاح ذلک أن المراد بالإجتماع انقيادهم لبيعته. والذي وقع أن الناس اجتمعوا علي أبي بکر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، إلي أن وقع أمر الحکمين في صفين فسمي معاوية يومئذ بالخلافة، ثم اجتمع الناس علي معاوية عند صلح الحسن، ثم اجتمعوا علي ولده يزيد، ولم ينتظم للحسين أمر بل قتل قبل ذلک، ثم لما مات يزيد وقع الإختلاف، إلي أن اجتمعوا علي عبدالملک بن مروان بعد قتل بن الزبير، ثم اجتمعوا علي أولاده الأربعة: الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام، وتخلل بين سليمان ويزيد عمر بن عبدالعزيز، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين. والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبدالملک، واجتمع الناس عليه لما مات عمه هشام فولي نحو أربع سنين، ثم قاموا عليه فقتلوه، وانتشرت الفتن وتغيرت الأحوال من يومئذ، ولم يتفق أن يجتمع الناس علي خليفة بعد ذلک، لأن يزيد بن الوليد الذي قام علي ابن عمه الوليد بن يزيد لم تطل مدته، بل ثار عليه قبل أن يموت ابن عم أبيه مروان بن محمد بن مروان، ولما مات يزيد ولي أخوه إبراهيم فغلبه مروان، ثم ثار علي مروان بنو العباس، إلي أن قتل.

ثم کان أول خلفاء بني العباس أبوالعباس السفاح، ولم تطل مدته، مع کثرة من ثار عليه، ثم ولي أخوه المنصور فطالت مدته، لکن خرج عنهم المغرب الأقصي باستيلاء المروانيين علي الأندلس، واستمرت في أيديهم متغلبين عليها إلي أن تسموا بالخلافة بعد ذلک، وانفرط الأمر في جميع أقطار الأرض، إلي أن لم يبق من الخلافة إلا الإسم في بعض البلاد، بعد أن کانوا في أيام بني عبدالملک بن مروان يخطب للخليفة في جميع أقطار الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً ويميناً مما غلب عليه المسلمون، ولا يتولي أحد في بلد من البلاد کلها الإمارة علي شي ء منها إلا بأمر الخليفة. ومن نظر في أخبارهم عرف صحة ذلک. فعلي هذا يکون المراد بقوله: ثم يکون الهرج، يعني القتل الناشي ء عن الفتن وقوعاً فاشياً يفشو ويستمر ويزداد علي مدي الأيام، وکذا کان. والله المستعان. والوجه الذي ذکره بن المنادي ليس بواضح، ويعکر عليه ما أخرجه الطبراني من طريق قيس بن جابر الصدفي، عن أبيه، عن جده رفعه: سيکون من بعدي خلفاء ثم من بعد الخلفاء أمراء، ومن بعد الأمراء ملوک، ومن بعد الملوک جبابرة، ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً کما ملئت جوراً، ثم يؤمر القحطاني فوالذي بعثني بالحق ما هو دونه. فهذا يرد علي ما نقله بن المنادي من کتاب دانيال.

وأما ما ذکره عن أبي صالح فواهٍ جداً، وکذا عن کعب.... فالأولي أن يحمل قوله: يکون بعدي اثنا عشر خليفة، علي حقيقة البعدية، فإن جميع من ولي الخلافة من الصديق إلي عمر بن عبدالعزيز أربعة عشر نفساً، منهم اثنان لم تصح ولايتهما، ولم تطل مدتهما، وهما معاوية بن يزيد ومروان بن الحکم، والباقون اثنا عشر نفساً علي الولاء، کما أخبر صلي الله عليه وسلم، وکانت وفاة عمر بن عبدالعزيز سنة إحدي ومائة، وتغيرت الأحوال بعده، وانقضي القرن الأول الذي هو خير القرون.

ولا يقدح في ذلک قوله: يجتمع عليهم الناس، لأنه يحمل علي الأکثر الأغلب، لأن هذه الصفة لم تفقد منهم إلا في الحسن بن علي وعبدالله بن الزبير، مع صحة ولايتهما، والحکم بأن من خالفهما لم يثبت استحقاقه إلا بعد تسليم الحسن، وبعد قتل بن الزبير. والله أعلم.

وکانت الأمور في غالب أزمنة هؤلاء الإثني عشر منتظمة، وإن وجد في بعض مدتهم خلاف ذلک، فهو بالنسبة إلي الإستقامة نادر. والله أعلم.

وقد تکلم ابن حبان علي معني حديث: تدور رحي الإسلام، فقال: المراد بقوله: تدور رحي الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين: انتقال أمر الخلافة إلي بني أمية، وذلک أن قيام معاوية عن علي بصفين حتي وقع التحکيم، هو مبدأ مشارکة بني أمية ثم استمر الأمر في بني أمية من يومئذ سبعين سنة، فکان أول ما ظهرت دعاة بني العباس بخراسان سنة ست ومائة، وساق ذلک بعبارة طويلة، عليه فيها مؤاخذات کثيرة، أولها دعواه أن قصة الحکمين کانت في أواخر سنة ست وثلاثين، وهو خلاف ما اتفق عليه أصحاب الأخبار، فإنها کانت بعد وقعة صفين بعدة أشهر، وکانت سنة سبع وثلاثين. والذي قدمته أولي بأن يحمل الحديث عليه. والله أعلم). انتهي کلام ابن حجر.

وقد رأيت أن ما اختاره ابن حجر غير ما نسبه إليه السيوطي، فلا بد من القول أن السيوطي لم يقرأ کل کلام ابن حجر کاملاً، أو أن نتهم السيوطي بالتدليس. لکن المهم أنک رأيت تحيرهم جميعاً وکثرة احتمالاتهم، وتضاربها! وأن أکثرهم أخذوا بزيادة (تجتمع عليه الأمة) محوراً لتفسيره، مع أنها لم تثبت عندهم، بل استنکرها عدد منهم!

ورأيت أن القاضي عياض لم يجزم بشي ء، بل ذکر وجوهاً عديدة بکلمة قيل ويحتمل.. وأن ابن حجر رجح الإحتمال الثالث منها، فقال (وينتظم من مجموع ما ذکراه أوجه أرجحها الثالث من أوجه القاضي).

والنتيجة التي يخرج منها القاري ء لتفاسيرهم: أنهم يضيعون عليه معني الحديث الذي أرادوا أن يفسروه، وهو حديث صحيح عندهم، صريح بالبشارة النبوية باثني عشر إماماً ربانيين، هداة مهديين، قيمين علي الأمة. فتراهم يصرون علي تلبيس الحديث لحکام بني أمية، وعلي خلطه بزيادة لم تثبت وبأحاديث ضعيفة، لايستقيم لها معني، ولا أثر عليها للبلاغة النبوية!!

وإذا أردت مزيداً من الأمثلة علي ضياعهم، فاقرأ عون المعبود 362:11-364 قال: (قال بعض المحققين: قد مضي منهم الخلفاء الأربعة، ولا بد من تمام هذا العدد قبل قيام الساعة. وقيل: إنهم يکونون في زمان واحد يفترق الناس عليهم.

وقال التوربشتي: السبيل في هذا الحديث وما يعتقبه في هذا المعني، أن يحمل علي المقسطين منهم، فإنهم المستحقون لإسم الخليفة علي الحقيقة، ولا يلزم أن يکونوا علي الولاء. وإن قدر أنهم علي الولاء، فإن المراد منه المسمون علي المجاز! کذا في المرقاة. وقال الشيخ الأجل ولي الله المحدث في قرة العينين في تفضيل الشيخين: وقد استشکل في حديث: لايزال هذا الدين ظاهراً إلي أن يبعث الله اثني عشر خليفة کلهم من قريش، ووجه الإستشکال: أن هذا الحديث ناظر إلي مذهب الإثني عشرية الذين أثبتوا اثني عشر إماماً.

والأصل أن کلامه صلي الله عليه وآله بمنزلة القرآن يفسر بعضه بعضاً، فقد ثبت من حديث عبدالله بن مسعود: تدور رحي الإسلام لخمس وثلاثين سنة، أو ست وثلاثين سنة، أو سبع وثلاثين سنة، فإن يهلکوا فسبيل من قد هلک، وإن يقم لهم دينهم، يقيم سبعين سنة مما مضي.

وقد وقعت أغلاط کثيرة في بيان معني هذا الحديث، ونحن نقول ما فهمناه علي وجه التحقيق: إن ابتداء هذه المدة من ابتداء الجهاد في السنة الثانية من الهجرة...!!

وقد وقع ما أخبر به النبي صلي الله عليه وسلم: ففي سنة خمس وثلاثين من ابتداء الجهاد وقعت حادثة قتل ذي النورين وتفرق المسلمين ولکن الله تعالي بعد ذلک جعل أمر الخلافة منتظماً، وأمضي الجهاد إلي ظهور بني العباس وتلاشي دولة بني أمية... فتارة أخبر النبي صلي الله عليه وسلم عن خلافة النبوة، وخصصه بثلاثين سنة، والتي بعدهم عبرها بملک عضوض، وتارة عن خلافة النبوة، والتي تتصل بها کليهما معاً، وعبرها باثني عشر خليفة...

فالتحقيق في هذه المسألة: أن يعتبروا بمعاوية وعبدالملک وبنيه الأربع

(کذا) وعمر بن عبدالعزيز، ووليد بن يزيد بن عبدالملک، بعد الخلفاء الأربعة الراشدين.

وقد نقل عن الإمام مالک أن عبدالله بن الزبير أحق بالخلافة من مخالفيه، ولنا فيه نظر، فإن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما قد ذکرا عن النبي صلي الله عليه وسلم ما يدل علي أن تسلط ابن الزبير واستحلال الحرم به مصيبة من مصائب الأمة، أخرج حديثهما أحمد عن قيس بن أبي حازم قال: جاء ابن الزبير إلي عمر بن الخطاب يستأذنه في الغزو، فقال عمر: أجلس في بيتک فقد غزوت مع رسول الله صلي الله عليه وسلم. قال: فرد ذلک عليه، فقال له عمر: في الثالثة أو التي تليها: أقعد في بيتک، والله إني لأجد بطرف المدينة منک وأصحابک أن تخرجوا فتفسدوا علي أصحاب محمد صلي الله عليه وسلم. وأخرجه الحاکم.

فمن لفظه: بطرف المدينة، يفهم أن واقعة الجمل غير مراد ها هنا، بل المراد خروجه للخلافة، وإلي هذا المعني قد أشار علي رضي الله عنه في قصة جواب الحسن رضي الله عنه، ولم ينتظم أمر الخلافة عليه.

ويزيد بن معاوية ساقط من هذا البين، لعدم استقراره مدة يعتد بها، وسوء سيرته. والله أعلم). انتهي کلام عون المعبود.

وأنت تري أن صاحب قرة العينين اعترف بأن ملک بني أمية ملک عضوض وأن خلافتهم ليست خلافة نبوة.. ومع ذلک فسر بهم الحديث، وطبق عليهم البشارة النبوية بالأئمة الإثني عشر، الربانيين، القيمين بأمر الله تعالي علي أمة نبيه صلي الله عليه وآله!

کما تري أنه حذف منهم الإمام الحسن والإمام المهدي عليهماالسلام، وحذف ابن الزبير الذي أثبته الإمام مالک وآخرون... إلخ!

وهو مع ذلک ينتقد الذين غلطوا في تفسيره فيقول (وقد وقعت أغلاطٌ کثيرةٌ في بيان معني هذا الحديث) ووعد الناس بأن يرفع المعضلة فزادها إعضالاً، وأن يحل المشکلة فزادها إشکالاً!!

ثم اقرأ ما قاله ابن کثير في البداية والنهاية:248:3:

ذکر الأخبار عن الأئمة الإثني عشر الذين کلهم من قريش. وليسوا بالإثني عشر الذين يدعون إمامتهم الرافضة، فإن هؤلاء الذين يزعمون، لم يلِ أمور الناس منهم إلا علي بن أبي طالب وابنه الحسن، وآخرهم في زعمهم المهدي المنتظر بسرداب سامرا، وليس له وجود ولا عين ولا أثر.

بل هؤلاء الأئمة الإثنا عشر المخبر عنهم في الحديث: الأئمة الأربعة أبوبکر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وعمر بن عبدالعزيز بلا خلاف بين الأئمة علي کلا القولين لأهل السنة في تفسير الإثني عشر. انتهي.

ولعله يقصد بالقولين: القول بتتابعهم زمنياً، وعدمه، ولکنهما وجهان في کل واحد منهما عددٌ من الأقوال.. وقد ذکر هو جملةً منها!

ثم أشار ابن کثير إلي الإحتمالات ورکز منها علي مناقشة البيهقي فقال: فهذا الذي سلکه البيهقي وقد وافقه عليه جماعة من أن المراد بالخلفاء الإثني عشر المذکورين في هذا الحديث، هم المتتابعون إلي زمن الوليد بن يزيد بن عبدالملک الفاسق، الذي قدمنا الحديث فيه بالذم والوعيد، فإنه مسلک فيه نظر، وبيان ذلک: أن الخلفاء إلي زمن الوليد بن يزيد هذا أکثر من اثني عشر علي کل تقدير، وبرهانه أن الخلفاء الأربعة أبوبکر وعمر وعثمان وعلي خلافتهم محققة بنص حديث سفينة: الخلافة بعدي ثلاثون سنة. ثم بعدهم الحسن بن علي کما وقع، لأن علياً أوصي إليه وبايعه أهل العراق، ورکب ورکبوا معه لقتال أهل الشام، حتي اصطلح هو ومعاوية کما دل عليه حديث أبي بکرة، في صحيح البخاري. ثم معاوية، ثم ابنه يزيد بن معاوية، ثم ابنه معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحکم، ثم ابنه عبدالملک بن مروان ثم ابنه الوليد بن عبدالملک، فهؤلاء خمسة عشر، ثم الوليد بن يزيد بن عبدالملک.

فإن اعتبرنا ولاية الزبير قبل عبدالملک صاروا ستة عشر، وعلي کل تقدير فهم اثنا عشر قبل عمر بن عبدالعزيز، فهذا الذي سلکه علي هذا التقدير يدخل في الإثني عشر يزيد بن معاوية، ويخرج منهم عمر بن عبدالعزيز، الذي أطبق الأئمة علي شکره وعلي مدحه، وعدُّوه من الخلفاء الراشدين، وأجمع الناس قاطبة علي عدله وأن أيامه کانت من أعدل الأيام، حتي الرافضة يعترفون بذلک.

فإن قال: أنا لاأعتبر إلا من اجتمعت الأمة عليه، لزمه علي هذا القول أن لايعدّ علي بن أبي طالب ولا ابنه، لأن الناس لم يجتمعوا عليهما، وذلک أن أهل الشام بکمالهم لم يبايعوهما، وعدّ معاوية وابنه يزيد وابن ابنه معاوية بن يزيد، ولم يقيد بأيام مروان ولا ابن الزبير، فإن الأمة لم تجتمع علي واحد منهما.

فعلي هذا نقول في مسلکه هذا عاداًّ للخلفاء أبي بکر وعمر وعثمان ثم معاوية ثم يزيد بن معاوية ثم عبدالملک ثم الوليد بن سليمان ثم عمر بن عبدالعزيز ثم يزيد ثم هشام، فهؤلاء عشرة، ثم من بعدهم الوليد بن يزيد بن عبدالملک الفاسق، ولکن هذا لايمکن أن يسلک، لأنه يلزم منه إخراج علي وابنه الحسن من هؤلاء الإثني عشر، وهو خلاف ما نص عليه أئمة السنة، بل والشيعة، ثم هو خلاف ما دل عليه نصا حديث سفينة عن رسول الله أنه قال: الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تکون ملکاً عضوضاً. وقد ذکر (سفينة) تفصيل هذه الثلاثين سنة فجمعها من خلافة الأربعة، وقد بيناّ دخول خلافة الحسن، وکانت نحواً من ستة أشهر فيها أيضاً، ثم صار الملک إلي معاوية لما سلم الأمر إليه الحسن بن علي.

وهذا الحديث فيه المنع من تسمية معاوية خليفة، وبيان أن الخلافة قط انقطعت بعد الثلاثين سنة لامطلقاً، بل انقطع تتابعها، ولا ينفي وجود خلفاء راشدين بعد ذلک، کما دل عليه حديث جابر بن سمرة.

وقال نعيم بن حماد: حدثنا راشد بن سعد، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حذيفة بن اليمان قال: يکون بعد عثمان اثنا عشر ملکا من بني أمية، قيل له: خلفاء؟ قال: لا، بل ملوک.

وقد روي البيهقي من حديث حاتم بن صفرة، عن أبي بحر قال: کان أبوالجلد جاراً لي، فسمعته يقول يحلف عليه: إن هذه الأمة لن تهلک حتي يکون فيها اثنا عشر خليفة کلهم يعمل بالهدي ودين الحق، منهم رجلان من أهل البيت، أحدهما يعيش أربعين سنة، والآخر ثلاثين سنة. ثم شرع البيهقي في رد ما قاله أبوالجلد بما لايحصل به الرد، وهذا عجيب منه!

وقد وافق أباالجلد طائفة من العلماء، ولعل قوله أرجح لما ذکرنا. وقد کان ينظر في شي ء من الکتب المتقدمة، وفي التوراة التي بأيدي أهل الکتاب ما معناه: إن الله تعالي بشر إبراهيم بإسماعيل، وأنه ينميه ويکثره ويجعل من ذريته اثني عشر عظيماً. انتهي کلام ابن کثير.

وهو يقصد ما هو موجود في التوراة الفعلية- العهد القديم والجديد25:1- طبعة مجمع الکنائس الشرقية في سفر التکوين، الإصحاح السابع عشر، قال:

18- وقال إبراهيم لله ليت إسماعيل يعيش أمامک.

19- فقال الله: بل سارة امرأتک تلد لک ابناً وتدعو اسمه إسحق، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً، لنسله من بعده.

20- وأما إسماعيل فقد سمعت لک فيه، ها أنا أبارکه وأثمره، وأکثره کثيراً جداً. اثني عشر رئيساً يلد، وأجعله أمة کبيرة.

21- ولکن عهدي أقيمه مع إسحق، الذي تلده لک سارة في هذا الوقت، في السنة الآتية. انتهي.

وقد وردت ترجمها کعب الأحبار (قيماً) وترجمها بعضهم (إماماً)..

فالنص موجود في التوراة، وفي مصادر السنة، والشيعة، وهو مؤيد لبشارة نبينا صلي الله عليه وآله، ولکنه يؤيد تفسير شيعة أهل البيت عليهم السلام، ولا يحل مشکلة المفسرين السنيين، بل يزيدها!

ومن أعقل هؤلاء الشراح وأکثرهم إنصافاً في هذا الموضوع: ابن العربي المالکي المتوفي سنة 543 فقد اعترف في عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي بأن تطبيق الحديث علي هؤلاء يصل إلي طريق مسدود، ورجح أن يکون الحديث ناقصاً، لأن الموجود منه لايفهم له معني.. قال: روي أبوعيسي، عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: يکون بعدي اثنا عشر أميراً کلهم من قريش. صحيح. فعددنا بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم اثني عشر أميراً فوجدنا: أبابکر، عمر، عثمان، علي، الحسن، معاوية، يزيد، معاوية بن يزيد، مروان، عبدالملک، مروان بن محمد بن مروان، السفاح، المنصور، المهدي، الهادي، الرشيد، الأمين، المأمون، المعتصم، الواثق، المتوکل، المنتصر، المستعين، المعتز، المهتدي، المعتضد، المکتفي، المقتدر، القاهر، الراضي، المتقي، المستکفي، المطيع، الطائع، القادر، القائم، المقتدي، أدرکته سنة أربع وثمانين وأربعمائة وعهد إلي المستظهر أحمد ابنه، وتوفي في المحرم سنة ست وثمانين، ثم بايع المستظهر لابنه أبي منصور الفضل، وخرجت عنهم سنة خمس وتسعين.

وإذا عددنا منهم اثني عشر انتهي العدد بالصورة إلي سليمان بن عبدالملک.

وإذا عددناهم بالمعني، کان معنا منهم خمسة: الخلفاء الأربعة وعمر بن عبدالعزيز!! ولم أعلم للحديث معني، ولعله بعض حديث!! انتهي.

فاتضح لک أن المفسرين السنيين بذلوا کل جهدهم لتفسير هؤلاء الأئمة الإثني عشر الموعودين في التوراة علي لسان إبراهيم، ثم علي لسان نبينا صلي الله عليه وآله، علي ملوک بني أمية، ولکنهم واجهوا ثلاثة مشاکل أساسية لاحل لها:

الأولي: زيادة عدد هؤلاء (الخلفاء) الذين يعترفون بأنهم ليسوا خلفاء النبي صلي الله عليه وآله بل خلفاء الهواء! علي الإثني عشر، الأمر الذي يدخلهم في بوابة الحذف والإثبات التي لاضابط لها، ولا آخر!

والثانية: أنهم يشعرون أن هذا الثوب الإلهي لايمکن إلباسه لجماعتهم.. وأنهم مهما دافعوا عن سيرة هؤلاء (الخلفاء غير الخلفاء) وتستروا علي تاريخهم، ففيهم مفضوحون، لابد من الإعتراف بسوئهم، ولا يمکن أن يکون أحدهم إماماً ربانياً، وقيماً عظيماً علي الأمة، موعوداً من الله تعالي علي لسان أعاظم الأنبياء عليهم السلام.

والثالثة: أنهم بهذا التفسير يدعون لهؤلاء الملوک منصباً ربانياً لم يدعوه هم لأنفسهم! فيصيرون بذلک کمن يدعي نبوة لنبي، والنبي المزعوم ينکرها!!

وأخيراً، فقد نصح المفسرون السنيون أتباعهم أن لايأخذوا بتفسير الشيعة ووعدوهم بأن يفسروا لهم الحديث الشريف بأصح من تفسير الشيعة، وقد رأينا أنهم داروا في تفسيره کثيراً، وراوحوا مکانهم.. فمن حق السني أن يعود علي بدء، ويسألهم عن تفسير حديث نبيه صلي الله عليه وآله الصحيح وبشارته القطعية باثني عشر إماماً، ربانياً، ملهماً، مميزاً بعلمه وشخصيته وسلوکه، قيماً من ربه علي الأمة.. يکونون جميعاً علي هدي واحد، وخط واحد..

ومن حقنا أن نقول لهم: إذا لم تفسروه، فاعذرونا أن نفسره بالأئمة من أهل بيت النبي وعترته الطاهرين صلي الله عليه وآله، وأولهم علي عليه السلام وآخرهم المهدي الموعود عليه السلام، وقد قال النبي صلي الله عليه وآله: بنا بدأ الله وبنا يختم. وصدق الله ورسوله.