خلفيات المطالبة بدم عثمان
و الإجابة علي هذا السؤال الذي يفرض نفسه علي الکاتب و القارئ معا في هذه المسألة، لا بد من الرجوع إلي مواقف تلک الأطراف جميعا أيام الثورة التي تمخض عنها مقتل عثمان.و لا بد لنا من أن نطلع علي الظروف و الأسباب التي أججت نار الفتنة و صعدت المواقف حتي أدت إلي مقتل عثمان. کان من أهم الأسباب التي دفعت بالمسلمين في الولايات المختلفة إلي الاعتراض و التحرک ضد السياسة القائمة أيام خلافة عثمان، هو واقع الولاة و الامراء الذين عينهم عثمان علي الولايات و الأمصار. فالمعروف تاريخيا أن مجموعة من أبناء عمومة الخليفة عثمان أو أبناء خالاته أو أقربائه من بني امية قد التفت حوله منذ توليه الخلافة، و حققت المکاسب و الإمتيازات و امتلکت الثروات و اکتنزت الکنوز، و ارتکبت من المظالم و الموبقات و الجرائم ما جعل المسلمين يضيقون ذرعا بهم و يثورون عليهم مطالبين الخليفة بعزل اولئک الولاة الظالمين، و إبعاد طبقة الأثرياء القريشية التي أحاطت به، و اتخذت منه ستارا لتحقيق مآربها الدنيوية، و لما لم يقم بعزلهم و إبعادهمـبضغط من نفس تلک البطانةـانتهت الامور إلي حالة مأساوية قتلوا فيها الخليفة عثمان نفسه، فلننظر إلي قائمة بأسماء هؤلاء الولاة و نتعرف إلي سوابقهم التاريخية و سلوکياتهم و نلاحظ و شائج القرابة الأموية أو القريشية التي بتربط بينهم و تأثيرها علي السياسة القائمة و التصرف بأموال المسلمين و حقوقهم. کان الخليفة هو: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن امية بن عبد شمس.و کان الولاة و أمراء الأجناد و المتنفذون في خلافته هم: 1ـالحکم بن أبي العاص بن امية بن عبد شمس: هو عم الخليفة عثمان، و کان أشد الناس أذي لرسول الله في الاسلام، «اطلع علي رسول الله ذات يوم و هو في بعض حجر نسائه، فعرفه (ص) و خرج إليه و قال: من عذيري من هذا الوزغ اللعين، ثم قال: و الله لا يساکنني و لا ولده. فغربهم جميعاـأي نفاهم هو و ولدهـإلي الطائف، فلما توفي رسول الله، کلم عثمان أبا بکر فيهمـأي ليعيدهم إلي المدينةـفأبي و قال: ما کنت لآوي طرداءرسول الله، ثم لما استخلف عمر، کلمه عثمان فيهم، فقال مثل قول أبي بکر، فلما استخلف عثمان أدخلهم المدينة»[1] . و قد کان الحکم فقيرا مملقا حتي انه عند ما دخل المدينة بعد سني النفي و الطرد، کان عليه ثوب خلق بال و هو يسوق تيسا و الناس ينظرون إليه و إلي سوء حاله و حال من معه، حتي دخل دار الخليفة عثمان، ثم خرج بعد أن کساه جبة خز و طيلسان[2] . فلما حل المساء جاء عامل صدقات المسلمين علي السوق إلي الخليفة عثمان و بيده الصدقات ليضعها في بيت المال، فقال له عثمان: إدفعها إلي الحکم هذا[3] ، ثم ولاهـأي الحکمـعلي صدقات قبيلة قضاعة، فبلغت ثلاثمائة ألف درهم فوهبها له[4] . و کان الخليفة عثمان يحبه حبا شديدا، حتي انه عند ما توفي أقام الخليفة علي قبره فسطاطا[5] ـ علي عادة القوم آنذاک في إظهار الحزن الشديدـ. 2ـمروان بن الحکم بن أبي العاص بن امية بن عبد شمس: و هو ابن عم الخليفة عثمان، أرسله عثمان مع الغزو المتجه إلي أفريقيا، فلما عاد الجيش و معه الغنائم، أعطي عثمان ابن عمه مروان خمس تلک الغنائم[6] ، و قد استنکر المسلمون ذلک حتي قال الشاعر أسلم الساعدي و هو يعاتب عثمان: اقسم بالله رب العبا*دما ترک الله خلقا سدي دعوت اللعين فأدنيته*خلافا لسنة من قد مضي و يعني بذلک دعوة عثمان للحکم لسکني المدينة بعد طرد رسول الله (ص) له و لولده، و يضيف: و أعطيت مروان خمس العباد*ظلما لهم و حميت الحمي[7] . کما وهبه عثمان منطقة«فدک»قال المؤرخون: «و أقطع مروان فدک، و هي صدقة النبي التي طلبتها فاطمة من أبي بکر»[8] . قال ابن حجر العسقلاني: «إن مروان کان من أسباب قتل عثمان»[9] . 3ـالحارث بن الحکم بن أبي العاص بن امية بن عبد شمس: و هو ابن عم الخليفة و أخو مروان، قال ابن عبد ربه الأندلسي و ابن أبي الحديد: «تصدق رسول الله (ص) بمهزور علي المسلمين، فأقطعها عثمان للحارث بن الحکم»[10] ، ثم زوجه«ابنته عائشة، فأعطاه مائة ألف من بيت المال»[11] . 4ـالوليد بن عقبة بن أبي معيط بن ذکوان بن امية بن عبد شمس: و هو أخو عثمان لامه، و کان أبوه عقبة«أشد الناس أذي لرسول الله (ص) و عداوة له و للمسلمين، عمد إلي مکتل فجعل فيه عذرة (غائط) و جعله علي باب رسول الله، اسر ببدر فقتل صبرا»[12] أما هو فقد اشتهر انه (کان زانيا شريب خمر)[13] ، و کان له نديم نصراني[14] و أعطاه دارا قريبة من المسجد، فکان يدخل المسجد إذا أراد الوصول إلي الوليد[15] . ولاه عثمان علي الکوفة بعد أن عزل عنها الصحابي سعد بن أبي وقاص، و«کان يشرب مع ندمائه و مغنياته من أول الليل إلي الصباح، فخرج منفصلا في غلائله، فصلي بهمـأي صلاة الصبحـأربعا، و قال: ازيدکم؟! و نقل عن المسعودي أنه قال في سجوده: إشرب و اسقني»[16] . و قد شهد مجموعة من الشهود عليه لدي عثمان بشربه الخمر و کان اسم أحدهم جندب، فأخبروا عثمان خبره و کان عبد الرحمان بن عوف حاضرا فقال: «ما له؟أجن؟قالوا: لا، و لکنه سکر، قال فأوعدهم عثمان و تهددهم، و قال لجندب: أنت رأيت أخي يشرب الخمر؟قال: معاذ الله، و لکني أشهد أني رأيته سکران يقيئها من جوفه، و أني أخذت خاتمه من يده و هو سکران لا يعقل. فأتي الشهود عائشة فأخبروها بما جري بينهم و بين عثمان، و أن عثمان زبرهمـأي انتهرهمـفنادت عائشة: «إن عثمان أبطل الحدود، و توعد الشهود»[17] . «و قد اضطر الخليفة عثمان، و تحت الضغط الجماهيري، و تحذيرات عائشة و نصيحة الإمام علي (ع) الذي استشاره عثمان في الموضع، فقال لهـأي الإمام عليـإن شهد عليه الشهود بمحضر منه أقم عليه الحد، فاحضر و شهد الشهود، فجلد بحضور الخليفة عثمان و الإمام علي و مجموعة من المسلمين»[18] ـعبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري القرشي: و هو ابن خالة عثمان و أخوه من الرضاعة[19] ، و کان کاتبا لرسول الله (ص) فظهرت خيانته في الکتابة فطرده رسول الله (ص) فارتد عن الاسلام و لحق بأهل مکة و أخبرهم: إني کنت أصرف محمدا حيث أريد، کان يملي علي (عزيز حکيم) فأقول أو (عليم حکيم)، فأنزل الله فيه (و من أظلم ممن افتري علي الله کذبا أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شي ء، و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله)، فأهدر الرسول دمه، و بعد فتح مکة استأمن له عثمان من النبي (ص)[20] . و قد أعطاه عثمان أثناء خلافته«جميع ما أفاء الله عليه من فتح أفريقية بالمغربـو هي من طرابلس الغرب إلي طنجةـمن غير أن يشرکه فيه أحد من المسلمين»[21] . و لما أصبح عثمان خليفة، کان عمرو بن العاص واليا علي مصر، فعزله عن الخراج، و أقره علي الصلاة و الجند، و سلم الخراج إلي عبد الله بن سعد هذا، فتخاصما، فبلغ الخبر عثمان، فعزل ابن العاص و أضاف الصلاة إلي عبد الله[22] . 6ـعبد الله بن عامر بن کريز الأموي: و هو ابن خالة عثمان[23] و قد ولاه البصرة و عمره خمس و عشرون سنة[24] ، کماعينه أميرا علي فتوحات المشرق. و علي أية حال فقد کان الخليفة عثمان محبا لأقاربه من بني امية و کان يسمي اعطياته لهم من بيت مال المسلمين بأنها«صلة رحم»کما اثر عنه قوله: «و الله، لو أن مفتاح الجنة بيدي، لأدخلت بني امية إليها»[25] ، کما إنه«حمي المراعي حول المدينة کلها من مواشي المسلمين کلهم إلا عن بني امية»[26] . و يقول ابن أبي الحديد إنه: «و أعطي سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحکم بمائة ألف من بيت المال، و قد کان زوجه ابنته ام أبان. فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح، فوضعها بين يدي عثمان و بکي، فقال عثمان: أتبکي أن وصلت رحمي؟! قال: لا، و لکن أبکي لأني أظنک أنک أخذت هذا المال عوضا عما کنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله (ص)، و الله، لو أعطيت مروان مائة درهم لکان کثيرا، فقال (عثمان): ألق المفاتيح يا ابن أرقم، فإنا سنجد غيرک!! و أتاه أبو موسي (الأشعري) بأموال من العراق جليلة، فقسمها کلها في بني امية»[27] . و يبدو أن حبه لأقربائه من آل امية کان مشهورا حتي قبل أن يلي الخلافة، حتي أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب لما حضرته الوفاة و سمي أهل الشوري، و ذکر أوصافهم قال عن عثمان: «و الله، لئن کان الأمر إليه ليحملن بني أبي معيطـأي بني اميةـعلي رقاب الناس»[28] أما معاوية بن أبي سفيان: فقد کان الشام بأسره في يده و کان يعيش متفرفا منعما هناک. «أخرج إمام الحنابلة أحمد في مسنده (5: 347) من طريق عبد الله بن بريدة قال: دخلت أنا و أبي علي معاوية، فأجلسنا علي الفرش، ثم اتينا بالطعام فأکلنا، ثم اتينا بالشراب، فشرب معاوية ثم ناول أبي ثم قالـأي والد بريدةـ: ما شربته منذ حرمه رسول الله (ص)»[29] . و يبدو أن معاوية لم يکن يتحرج من شربها، بل کانت تحمل له علي الإبل و تخترق الطرقات و الأسواق، حتي مرت مجموعة من الإبل المحملة بالقرب علي الصحابي عبادة بن الصامت و کان آنذاک في الشام فسأل: ما هذه؟أزيت؟قيل: لا، بل خمر تباع لفلان[30] ، فأخذ شفرة من السوق و مزق بها تلک القرب، و کان أبو هريرة إذ ذاک بالشام، فأرسل فلانـأي معاويةـإلي أبي هريرة يقول له: أما تمسک عنا أخاک عبادة؟أما بالغدوات فيغدو إلي السوق فيفسد علي أهل الذمة متاجرهم، و أما بالعشي فيقعد في المسجد ليس له عمل إلا شتم أعراضنا أو عيبنا، فأقبل أبو هريرة حتي دخل علي عبادة فقال له: يا عبادة! ما لک و لمعاوية؟ذره و ما حمل، فإن الله يقول: تلک امة قد خلت لها ما کسبت و لکم ما کسبتم. قال: «يا أبا هريرة! ألم تکن معنا إذ بايعنا رسول الله (ص)، بايعناه علي السمع و الطاعة في النشاط و الکسل، و علي النفقة في العسر و اليسر، و علي الأمر بالمعروف و النهي عن المنکر، و علي أن نقول في الله، لا تأخذنا في الله لومة لائم»[31] . «أخرج ابن عساکر في تاريخه، و ابن سفيان في مسنده، و ابن قانع و ابن مندة، عن طريق محمد بن کعب القرظي قال: غزا عبد الرحمان بن سهل الأنصاري في زمن عثمان، و معاوية أمير علي الشام، فمرت به رواياـجمع رواية و هي القربة التي يوضع فيها الماء أو الخمر و غيرهماـلمعاوية، فقام إليها برمحه، فبقرـمزقـکل رواية منها، فناوشه الغلمان حتي بلغ شأنه معاوية، فقال: (دعوه فإنه شيخ قد ذهب عقله، فقال عبد الرحمان: کلا و الله، ما ذهب عقلي، و لکن رسول الله (ص) نهانا أن ندخل بطوننا و أسقيتنا خمرا، و أحلف بالله، لئن بقيت حتي أري في معاوية ما سمعت من رسول الله (ص) لأبقرن بطنه أو لأموتن دونه)»[32] . و کان معاوية يکره عليا (ع) کرها عنيفا بلغ حدا أنه کان يشتم عليا علانية في مجالسه و مجالس غيره و أمر ولاته و موظفيه بشتمه علي المنابر کما هو معلوم في کتب التاريخ[33] . و يلخص ابن أبي الحديد المعتزلي ما بين علي (ع) و معاويةـو هو نموذج لما بين علي و سائر القومـبقوله: «و کان معاوية علي أس الدهر مبغضا لعلي (ع)، شديد الانحراف عنه، و کيف لا يبغضه و قد قتل أخاه حنظلة يوم بدر، و خاله الوليد بن عتبة، و شرک عمه في جده و هو عتبةـأو في عمه و هو شيبة، علي اختلاف الروايةـو قتل من بني عمه عبد شمس نفرا کثيرا من أعيانهم و أمثالهم»[34] . کل ذلک مما سيظهر جليا علي مواقف القوم في صراعهم مع علي کما سنري، حيث إنهم لم يکونوا يبالون بما سيؤول إليه أمر عثمان. و قد حلل سيد قطبـفي کتابه العدالة الاجتماعية في الاسلامـسياسة الحکم و المال أيام عثمان و ما آلت إليه من نتائج و آثار سلبية، قائلا: «لقد أدرکت الخلافة عثمان و هو شيخ کبير و من ورائه مروان بن الحکم يصرف الأمر بکثير من الانحراف عن الاسلام، کما أن طبيعة عثمان الرخية و حدبه الشديد علي أهله قد ساهم کلاهما في صدور تصرفات أنکرها الکثيرون من الصحابة من حوله، و کانت له معقبات کثيرة و آثار في الفتنة التي عاني الاسلام منها کثيرا... و لقد کان الصحابة يرون هذه التصرفات الخطيرة العواقب فيتداعون إلي المدينة لإنقاذ تقاليد الاسلام و إنقاذ الخليفة من المحنة، و الخليفة في کبرته لا يملک أمره من مروان...»[35] .
و لنا أن نتساءل قبل أن نمضي في حديثنا قدما، هل کانت الأطراف في کل من الشام و البصرة صادقة في ادعاء المطالبة بدم الخليفة الثالث؟