هذا أبوذر











هذا أبوذر



وفضايله وفواضله وعلمه وتقواه وإسلامه وإيمانه ومکارمه وکرائمه ونفسياته وملکاته الفاضلة وسابقته ولاحقته وبدء أمره ومنتهاه، فأيا منها کان ينقمه الخليفة عليها فطفق يعاقبه ويطارده من معتقل إلي منفي، ويستجلبه علي قتب بغير وطاء، يطير مرکبه خمسة من الصقالبة الاشداء حتي أتوا به المدينة وقد تسلخت بواطن افخاذه وکاد أن يتلف، ولم يفتأ يسومه سوء العذاب حتي سالت نفسه في منفاه الاخير «الربذة» علي غير ماء ولا کلاء يلفحه حر الهجير، وليس له من ولي حميم يمرضه، ولا أحد من قومه يواري جثمانه الطاهر، مات رحمه الله وحده، وسيحشر وحده کما أخبره رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم الذي خوله بتلکم الفضائل، والله سبحانه من فوقهما نعم الخصيم للمظلوم، فانظر لمن الفلج يومئذ.

لقد کان الخليفة يباري الريح في العطاء لحامته ومن إزدلف اليه ممن يجري مجراهم، فملکوا من عطاياه وسماحه الملايين، وليس فيهم من يبلغ شأوابي ذر في السوابق والفضائل، ولا يشق له غبارا في أکرومة، فماذا الذي أخر أبا ذر عنهم حتي قطعوا عنه عطائه الجاري؟ ومنعوه الحظوة بشئ من الدعة، واجفلوه عن عقر داره وجوار النبي الاعظم، وضاقت عليه الارض بما رحبت، ولماذا نودي عليه في الشام ان لا يجالسه احد؟[1] ولماذا يفر الناس منه في المدينة؟ ولماذا حظر عثمان علي الناس أن يقاعدوه ويکلموه؟ ولماذا يمنع الخليفة عن تشييعه ويأمر مروان أن لا يدع أحدا يکلمه؟ فلم يحل ذلک الصحابي العظيم إلا محلا وعرا، ولم يرتحل الا إلي متبوأ الارهاب کأنما خلق أبوذر للعقوبة فحسب، وهو من عرفته الاحاديث التي ذکرناها، وقصته لعمر الله وصمة علي الاسلام وعلي خليفته لا تنسي مع الابد.

[صفحه 320]

نعم إن أباذر ينقم ما کان مطردا عند ذاک من السرف في العطاء من دون اي کفائة في المعطي (بالفتح) ومخالفة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في ذلک وفي کلما يخالف السنة الشريفة وإضطهاد اهل السوابق من الامة بيد امراء البيت الاموي رجال العيث والعبث، وکانوا يحسبون عرش ذلک اليوم قد استقر علي تلکم الاعمال، فرأوا أن في الاصاخة إلي قيل ابي ذر وشاکلته من صلحاء الصحابة تزحزحا لذلک العرش عن مستقره، أو أن مهملجة الجشع الذين حصلوا علي تلکم الثروات الطائلة خافوه أن يسلب ما في أيديهم إن وعي واع إلي هتافه، فتألبوا عليه واغروا خليفة الوقت به بتسويلات متنوعة حتي وقع ما وقع، والخليفة أسير هوي قومه، ومسير بشهواتهم، مدفوع بحب بني ابيه وإن کانوا من الشجرة المنعوتة في القرآن.

وما کان ابوذر يمنعهم عن جلب الثروة من حقها، ولا يبغي سلب السلطة عمن ملک شيئا ملکا مشروعا، لکنه کان ينقم اهل الاثرة علي اغتصابهم حقوق المسلمين، وخضمهم مال الله خضمة الابل نبتة الربيع، وما کان يتحري إلا ما أراد الله سبحانه بقوله عز من قائل: والذين يکنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم، وما جاء به رسول الله صلي الله عليه وآله في الجهات المالية.

أخرج أحمد في مسنده 176 و 164: 5 من طريق الاحنف بن قيس قال: کنت بالمدينة فإذا أنا برجل يفر الناس منه حين يرونه قال: قلت: من أنت؟ قال: أنا أبوذر صاحب رسول الله صلي الله عليه وآله قال: قلت: ما يفر الناس منک؟ قال: إني أنهاهم عن الکنوز بالذي کان ينهاهم عنه رسول الله.

وفي لفظ مسلم في صحيحه 77: 3 قال الاحنف بن قيس: کنت في نفر من قريش فمر ابوذر رضي الله عنه وهو يقول: بشر الکانزين بکي في ظهورهم يخرج من جنوبهم، وبکي من أقفيتهم بخرج من جباههم قال: ثم تنحي فقعد إلي سارية فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبوذر فقمت اليه فقلت: ما شئ سمعتک تقول قبيل؟ قال: ما قلت إ شيئا سمعته من نبيهم صلي الله عليه وآله قال: قلت: ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه فان فيه اليوم معونة فإذا کان ثمنا لدينک فدعه. «سنن البيهقي 359: 6».

وأخرج أبونعيم في الحلية 162: 1 من طريق سفيان بن عيينة باسناده عن أبي ذر

[صفحه 321]

قال: إن بني أمية تهددني بالفقر والقتل، ولبطن الارض أحب إلي من ظهرها، وللفقر أحب إلي من الغني، فقال له رجل: يا أباذرمالک إذا جلست إلي قوم قاموا وترکوک؟ قال: إني أنهاهم عن الکنوز.

وفي فتح الباري 213: 3 نقلا عن غيره: الصحيح ان انکار ابي ذر کان علي السلاطين الذين يأخذون المال لانفسهم ولا ينفقونه في وجهه. وتعقبه النووي بالابطال لان السلاطين حينئذ کانوا مثل ابي بکر وعمر وعثمان وهؤلاء لم يخونوا. اه.

وفي هذا التعقيب تدجيل ظاهر فان يوم هتاف ابي ذر بمناويه لم يکن العهد لابي بکر وعمر، وإنما کان ذلک يوم عثمان المخالف لهما في السيرة مخالفة واضحة، والمبائن للسيرة النبوية في کل ما ذکرناه، ولذلک کله کان سلام الله عليه ساکتا عن هتافه في العهدين وکان يقول لعثمان: ويحک يا عثمان أما رأيت رسول الله صلي الله عليه وآله؟ ورأيت أبا بکر وعمر؟ هل رأيت هذا هديهم؟ إنک تبطش بي بطش الجبار. ويقول: إتبع سنة صاحبيک لا يکن لاحد عليک کلام. راجع ص 298 و 306.

ولم يکن لابي ذر منتدح من نداءه والدعوة إلي المعروف الضايع، والنهي عن المنکر الشايع وهو يتلو آناء الليل واطراف النهار قوله تعالي: ولتکن منکم امة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنکر واولئک هم المفلحون.[2] قال ابن خراش: وجدت أبا ذر بالربذة في مظلة شعر فقال: ما زال بي الامر بالمعروف والنهي عن المنکر حتي لم يترک الحق لي صديقا.[3] .

وکان ينکر مع ذلک علي معاوية المتخذ شناشن الاکاسرة والقياصرة بالترفه والتوسع والاستيثار بالاموال وکان في العهد النبوي صعلوکا لا مال له ووصفه به رسول الله صلي الله عليه وآله[4] وفي لفظ: ان معاوية ترب خفيف الحال[5] .

[صفحه 322]

فما واجب أبي ذر عندئذ؟ وقد أمره النبي الاعظم في حديث[6] السبعة التي أوصاه بها، بأن يقول الحق وإن کان مرا، وأمره بأن لا يخاف في الله لومة لائم. وما الذي يجديه قول عثمان: مالک وذلک؟ لا أم لک؟ ولابي ذر أن يقول له کما قال: والله ما وجدت لي عذرا إلا الامر بالمعروف والنهي عن المنکر.

ولم تکن لما رفع به أبوذر عقيرته جدة ليس لها سلف من العهد النبوي، فلم يهتف إلا بما تعلمه من الکتاب والسنة، وقد أخذه من الصادع الکريم من فلق فيه، ولم يکن صلي الله عليه وآله يسلب ثروة احد من أصحابه وکان فيهم تجار وملاک ذوويسار، ولم يأخذ منهم زيادة علي ما عليهم من الحقوق الالهية، وعلي حذوه حذا أبوذر في الدعوة والتبليغ.

کان صلي الله عليه وآله أخبره بما يجري عليه من البلاء والعناء وما يصنع به من طرده من الحواضر الاسلامية: مکة والمدينة والشام والبصرة والکوفة. ووصفه عند ذلک بالصلاح وأمره بالصبر وأن ما يصيبه في الله، فقال أبوذر: مرحبا بأمر الله. فصلاح ابي ذر يمنعه عن الامر بخلاف السنة بما يخل نظام المجتمع، وکون بلاءه في الله يابي ان يکون ماجر اليه ذلک البلاء غير مشروع.

وإن کان ذلک خلاف الصالح العام ولم تکن فيه مرضاة الله ورسوله لوجب عليه صلي الله عليه وآله ان ينهاه عما سينوء به من الانکار وهو يعلم أن تلک الدعوة تجر عليه الاذي والبلاء الفادح، وتشوه سمعة خليفة المسلمين، وتسود صحيفة تاريخه، وتبقي وصمة عليه مع الابد.

وما کانت الشريعة السمحاء تأتي بذلک الحکم الشاق الذي اتهم به أبوذر، ولم يکن قط يقصده وهو شبيه عيسي في امة محمد صلي الله عليه وآله زهدا ونسکا وبرا وهديا وصدقا وجدا وخلقا.

هکذا وصفه رسول الله صلي الله عليه وآله غير ان عثمان قال لما غضب عليه: اشيروا علي

[صفحه 323]

في هذا الشيخ الکذاب إما أن اضربه أوأحبسه أو اقتله. وکذبه حين رواه عن رسول الله صلي الله عليه وآله حديث بني العاص، عجبا هذا جزاء من نصح لله ورسوله وبلغ عنهما صادقا؟ لاها الله هذا ادب يخص بالخليفة. واعجب من هذا جواب عثمان لمولانا أميرالمؤمنين لما دافع عن ابي ذر بقوله: اشير عليک بما قال مؤمن آل فرعون. اجابه بجواب غليظ أخفاه الواقدي وما أحب أن يذکره ونحن ولن وقفنا عليه من طريق آخر لکن ننزه الکتاب عن ذکره.

وقد تجهم عثمان مرة اخري امام المؤمنين عليه السلام بکلام فظ لما شيع هو و ولداه السبطان أباذر في سبيله إلي المنفي ومروان يراقبه وقد مر تفصيله ص 297 و 294 وفيه قوله لعلي عليه السلام: ما أنت بأفضل عندي من مروان.

إن من هوان الدنيا علي الله ان يقع التفاضل بين علي ومروان الوزغ ابن الوزغ اللعين ابن اللعين، انا لا أدري هل کان الخليفة في معزل عن النصوص النبوية في مروان؟ أو لم يکن مروان ونزعاته الفاسدة بمرأي منه ومسمع؟ أو القرابة والرحم بعثته إلي الاغضاء عنها فرأي ابن الحکم عدلا لمن طهره الجليل ورآه نفس النبي الاعظم في الذکر الحکيم. کبرت کلمة تخرج من أفواهم...

افحکم الجاهلية يبغون؟

ومن أحسن من الله حکما لقوم يوقنون؟

[صفحه 324]



صفحه 320، 321، 322، 323، 324.





  1. أخرجه ابن سعد في الطبقات 168: 4.
  2. سورة آل عمران 104.
  3. الانساب 55: 5، ومر مثله من طريق آخر ص 301.
  4. صحيح مسلم کتاب النکاح والطلاق 195: 4،سنن النسائي 75: 6، سنن البيهقي 135: 7.
  5. صحيح مسلم 199: 4.
  6. أخرجه ابن سعد في الطبقات 164 من طريق عبادة بن الصامت عن ابي ذر قال: اوصاني خليلي بسبع: بحب المساکين والدنو منهم. وأمرني ان انظر إلي من هو دوني ولا انظر إلي من هو فوقي. وامرني ان لا اسال احدا شيئا. وامرني ان اصل الرحم وان ادبرت. وامرني ان اقول الحق وان کان مرا. وامرني ان لا اخاف لومة لائم. وامرني ان اکثر من لا حول ولا قوة إلا بالله. فانهن من کنز تحت العرش.