الشاهد الثاني











الشاهد الثاني



اما شاهد اللجنة الثاني وهو ابن کثير، وماادراک ما ابن کثير، وما أراک ما کتاباه في التفسير والتاريخ؟ مجاميع الفحش، وموسوعات البهت، وکراريس الدجل، ومن تدجيله هاهنا ما ادعاه من نسبة تحريم إدخار ما زاد علي نفقة العيال إلي ابي ذر و انه کان يفتي به ويحثهم عليه. الخ. علي حين انه لا يوجد لابي ذر اي فتوي تصرح او تلوح بذلک التحريم او حث له علي ذلک أو امر به أو تغليظ فيه، غير ما لفقه الافاکون في الادوار المتأخرة من عزو مختلق، نعم: وربما يتخذ مصدرا لهذه الافائک ماشوه به الطبري صحيفة تاريخه من مکاتبة السري الکذاب من طريق شعيب المجهول عن سيف الساقط المتهم بالزندقة، الذين عرفت موقفهم من الدين والصدق والامانة وعرفت حال روايتهم خاصة في ص 328 -326، وغير خاف ذلک علي مثل ابن کثير و من لف لفه، لکنهم نبذوا الرجل نبذة ليسقطوه عن محله، ويسقطوا آرائه عن الاعتبار فتشبثوا بالحشيش کالغريق، لکنهم خابوا وفشلوا، وإنما المأثور عنه تلاوة الآية الکريمة، ونقل السنة الواردة عن نبي الاسلام في اکتناز الذهب والفضة، وأما الآية الکريمة فقد عرفت مقدار دلالتها وان الخلاف لواقع بين أبي ذر ومعاوية إنما هو بالنسبة إلي نزولها دون المفاد، وانه لو صحت النسبة لوجب قذفهما معا أو تبرئتهما معا.

علي أن لابي ذر في ما ادعاه من شأن الآية مصافقون فروي ابن کثير نفسه عن ابن عباس: انها عامة. وعن السدي انه قال: هي في أهل القبلة. فهو أيضا يوافقه في الجملة.

[صفحه 374]

وفي تفسير الخازن 232: 2: قال ابن عباس والسدي: نزلت في مانعي الزکاة من المسلمين، وقال القرطبي في تفسيره 123: 8: قال أبوذر وغيره: المراد بها أهل الکتاب وغيرهم من المسلمين، وهو الصحيح لانه لو اراد اهل الکتاب خاصة لقال: و يکنزون بغير «والذين» فلما قال: «والذين» فقد استأنف معني آخر يبين انه عطف جملة علي جملة، فالذين يکنزون کلام مستانف وهو رفع علي الابتداء، قال السدي: علي أهل القبلة.

وقال الزمخشري في الکشاف 31: 2: ويجوز أن يراد المسلمون الکانزون غير المنفقين. وقال البيضاوي في تفسيره 499: 1: ويجوز أن يراد به المسلمون الذين يجمعون المال ويقتنونه ولا يؤدون حقه. وقال الشوکاني في تفسيره 339: 2: والاولي حمل الآية علي عموم اللفظ فهو أوسع من ذلک. وقال الآلوسي في تفسيره 87: 10: والمراد من الموصول إما الکثير من الاحبار والرهبان، وإما المسلمون وهو الانسب لقوله: ولا ينفقونها في سبيل الله.

فرأي ابي ذر أخذا بمجاميع هذه الکلمات هو الصحيح والانسب والاولي، وما تفرد به بل ذهب اليه آخرون، فلماذا لا يقذفون هؤلاء بما قذف به أبوذر، وهل لأبي ذر حساب آخر يسوغ الفرية عليه دون اولئک؟ نعم. نعم.

وأما السنة فقد روي نظير ما رواه غير واحد من الصحابة، لکن القوم لم يضمروا علي احد منهم من الحقد ما اضمروه علي ابي ذر لمکان رأيه في الامامة منذ الصدر الاول، ونزعته العلوية التي لم يزل مجاهرا بها، ومناوئته للبيت الاموي، فحاولوا تشويه ذکره وتفنيد رأيه بکل ما تيسر لهم، فمن أولئک الصحابة:

1- عبدالله بن مسعود قال: دخل النبي صلي الله عليه وآله علي بلال وعنده صبرة من تمر فقال: ماهذا يا بلال؟ قال: اعد ذلک لاضيافک. قال: أما تخفي ان يکون لک دخان في نار جهنم؟ انفق بلال ولا تخش من ذي العرش إجلالا.

رواه البزاز باسناد حسن والطبراني في الکبير وقال: اما تخشي ان يفور له بخار في نار جهنم؟.

2- ابوهريرة قال: إن النبي صلي الله عليه وآله عاد بلال فأخرج له صبرا من تمر فقال: ما هذا

[صفحه 375]

يا بلال؟ قال: ادخرته لک يا رسول الله قال: أما تخشي ان يجعل لک بخار في نار جهنم؟ انفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا.

رواه ابويعلي والطبراني في الکبير والاوسط باسناد حسن.

3- أسماء بنت ابي بکر قالت: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: لا توکي فيوکا عليک. وفي رواية: انفقي، أو انفحي، أو انضحي، ولا تحصي فيحصي الله عليک، ولا توعي فيوعي الله عليک. رواه البخاري ومسلم وأبوداود.

4- بلال مرفوعا: يا بلال مت فقيرا ولا تمت غنيا، قلت: وکيف لي بذلک؟ قال ما رزقت فلا تخبأ، وما سئلت فلا تمنع. فقلت: يا رسول الله وکيف لي بذلک؟ قال: هو ذاک أو النار.

رواه الطبراني في الکبير، وابن حبان في کتاب الثواب، والحاکم وصححه.

5- انس بن مالک قال اهديت للنبي ثلاث طوائر فأعطي خادمه طائرا فلما کان من الغد أتته بها، فقال لها رسول الله صلي الله عليه وآله: ألم أنهک ان ترفعي شيئا لغد، فان الله يأتي برزق غد. رواه أبويعلي والبيهقي ورجال ابي يعلي ثقات.

6- أنس بن مالک قال: کان رسول الله صلي الله عليه وآله لا يدخر شيئا لغد. رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي.

7- سمرة بن جندب مرفوعا: إني لالج هذه الغرفة ما ألجها إ خشية أن يکون فيها مال فأتوفي ولم أنفقه. رواه الطبراني في الکبير باسناد حسن.

8- أبوسعيد الخدري مرفوعا: ما أحب أن لي احدا ذهبا ابقي صبح ثالثة و عندي منه شئ إلا شئ اعده للدين.

روه البزار وهو إسناد حسن وله شواهد کثيرة.

9- أبوأمامة: ان رجلا توفي علي عهد رسول الله صلي الله عليه وآله فلم يوجد له کفن فأتي النبي صلي الله عليه وآله فقال: انظروا إلي داخلة إزاره فاصيب دينار أو ديناران فقال: کيتان

10- توفي رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: کية. ثم توفي آخر فوجد في مئزرة ديناران، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: کيتان.

رواه احمد والطبراني من عدة طرق، وابن حبان في صحيحه من طريق عبدالله

[صفحه 376]

ابن مسعود.

11- سلمة بن الاکوع قال: کنت جالسا عند النبي صلي الله عليه وآله فاتي بجنازة ثم اتي باخري فقال: هل ترک من دين؟ قالوا: لا. قال: فهل ترک شيئا؟ قالوا: نعم ثلاثة دنانير. فقال باصبعه: ثلاث کيات.

أخرجه احمد باسناد جيد وابن حبان في صحيحه باللفظ المذکور والبخاري نحوه

12- أبوهريرة: إن أعرابيا غزا مع رسول الله صلي الله عليه وآله خيبر فأصابه من سهمه ديناران فأخذهما الاعرابي فجعلهما في عباءة فخيط عليهما ولف عليهما، فمات الاعرابي فوجد الديناران فذکر ذلک لرسول الله فقال: کيتان.

رواه احمد واسناد حسن لا بأس به.

هذه جملة من تلکم الاحاديث، وقد جمعها الحافظ المنذري في الثرغيب والترهيب 258 -253: 1.

13- أخرج احمد في مسنده 300: 1 من طريق ابن عباس قال: إن النبي صلي الله عليه وآله وسلم التفت إلي احد فقال: والذي نفس محمد بيده ما يسرني ان احدا يحول لآل محمد ذهبا انفقه في سبيل الله اموت يوم اموت ادع منه دينارين إلا دينارين اعدهما للدين إن کان.

14- أخرج ابن کثير نفسه في تفسيره 352: 2 من طريق عبدالله بن مسعود: والذي لا إله غير لا يکون عبد يکنز فيمس دينار دينارا ولا درهم درهما ولکن يوسع جلده فيوضع کل دينار ودرهم علي حدته.

رواه سفيان عن عبدالله بن عمر بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود، ورواه ابن مردويه عن أبي هريرة.

15- حکي ابن کثير عن ابي جعفر ابن جرير الطبري من طريق ثوبان مرفوعا: من ترک بعده کنزا مثل له يوم القيامة شجاعا اقرع له زبيبتان يتبعه ويقول: ويلک ما أنت؟ فيقول: انا کنزک الذي ترکته بعدک. ولا يزال يتبعه حتي يلقمه يده فيقضمها ثم يتبعها سائر جسده. قال: ورواه ابن حبان في صحيحه.

16- ونقل في ص 353 عن ابن ابي حاتم باسناده من طريق ثوبان مرفوعا: ما من رجل يموت وعنده احمر أو أبيض إلا جعل الله بکل قيراط صفحة من نار يکوي بها من قدمه إلي ذقنه.

[صفحه 377]

17- وذکر عن أبي يعلي بالاسناد من طريق أبي هريرة مرفوعا: لا يوضع الدينار علي الدينار، ولا الدرهم علي الدرهم، ولکن يوسع جلده فيکوي بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما کنزتم لانفسکم فذوقوا ماکنتم تکنزون.

18- أخرج أحمد من طريق عبدالله بن أبي الهذيل قال: حدثني صاحب لي: أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال: تبا للذهب والفضة وقال: إنه انطلق مع عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله قولک: تبا للذهب والفضة. ماذا ندخر؟ قال رسول الله صلي الله عليه وآله: لسانا ذاکرا، وقلبا شاکرا، وزوجة تعين علي الآخرة. تفسير ابن کثير 351: 2.

19- أخرج أحمد والترمذي وابن ماجة من طريق سالم بن ابي الجعد عن ثوبان قال: لما نزلت في الذهب والفضة ما نزل قالوا: فأي المال نتخذ؟ قال عمر: فأنا أعلم لکم ذلک فأوضع علي بعير فأدرکه وأنا في اثره فقال: يا رسول الله اي المال نتخذ؟ قال: قلبا شاکرا، ولسانا ذاکرا، وزوجة تعين أحدکم علي أمر الآخرة.

20- وقبل هذه کلها ما أخرجه إمام الحنابلة أحمد في مسنده 62: 1 من طريق عثمان بن عفان من أن رسول الله صلي الله عليه وآله قال: کل شئ سوي ظل بيت، وجلف الخبز، وثوب يواري عورته والماء، فما فضل عن هذا فليس لابن آدم فيهن حق. وأخرجه أبو نعم في حلية الاولياء 61: 1.

هذه الأحاديث أخرجها أئمة الفقه وحفاظ الحديث وأعلام التفسير في تآليفهم محتجين بها لما ارتأوه من الترغيب إلي الزهد والتطوع بالانفاق، والترهيب عن الاکتناز والادخار، ولم يتکلم أحد منهم في راو من رواتها، وما أتهم اي منهم بما اتهم به أبوذر، فإن کان للتأويل والحمل علي معني صحيح فيها مجال فهي وما رواه ابوذر علي شرع سواءا فاي وازع عن تأويل ما جاء به أبوذر؟ ولماذا رشقوه بين أولئک الصحابة بنبال القذف؟ مع أن أباذرلم يکن هتافه ذلک للدعوة إلي تهذيب النفس بالزهادة في حطام الدنيا والفوز بمراتب الکمال، وإنما کان نکيره علي أمة اتخذت کنوزا مکدسة من الذهب والفضة علي غير وجه حلها کما فصلنا القول في ذلک تفصيلا.

وإذ لم يجد ابن کثير شاهدا قويما لما ادعاه من أقوال ابي ذر تشبث بعمله فقال: وقد أحضره رضي الله عنه وهو عنده هل يوافق عمله قوله فبعث اليه بألف دينار ففرقها

[صفحه 378]

من يومه ثم بعث اليه الذي أتاه بها فقال: إن معاوية إنما بعثني إلي غيرک فأخطأت فهات الذهب فقال: ويحک إنها خرجت ولکن إذا جاء مالي حاسبناک به.

وليس فيه إلا زهد أبي ذر المهلک سبده ولبده، ولم يکن عمله هذا عن فتوي و لا ايجاب، وإنما کان تطوعا ومبالغة في الزهادة والجود، وقد سبقه إلي ذلک سيد البشر صلي الله عليه وآله، عاش صلي الله عليه وآله کما عرفت ومات ولم دع دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة ولا شاة ولا بعيرا، وترک درعه رهنا عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير[1] وحذا حذوه آله سلام الله عليهم الذين کانوا يطعمون الطعام علي حبه مسکينا ويتيما وأسيرا ويؤثرون علي أنفسهم ولو کان بهم خصاصة[2] الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزکاة وهم راکعون[3] الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار سرا وعلانية[4] .

وقد خرج الامام السبط الحسن الزکي من ماله مرتين، وقاسم الله عزوجل ماله ثلاث مرارا حتي أن کان ليعطي نعلا ويمسک نعلا، ويعطي خفا ويمسک خفا[5] .

وما أکثر الزهاد أمثال ابي ذر في امة محمد صلي الله عليه وآله وقد أفنت الزهادة کل مالهم من ثمة ورمة وقد عد ذلک في الجميع فضيلة يذکرون بها ويشکرون عليها إلا في ابي ذر شبيه عيسي بن مريم في الامة المرحومة فاتخذوه مدرکا لتلک الفتوي المزعومة غفرانک اللهم وإليک المصير.



صفحه 374، 375، 376، 377، 378.





  1. طبقات ابن سعد ط مصر رقم التسلسل 837 و 836، مسند احمد 300: 1، تاريخ الخطيب البغدادي 396: 4.
  2. راجع ما اسلفناه في الجزء الثالث 107 111 ط 2.
  3. راجع ما فصلناه في الجزء الثاني ص 52 و 47، ج 163- 155: 3 ط 2.
  4. نزلت في أميرالمؤمنين کما مر في هذا الجزء. ص 54.
  5. حلية الاولياء 38: 2، صفة الصفوة 330: 1، الصواعق ص 82.