في هذه الكلمة مواقع للنظر











في هذه الکلمة مواقع للنظر



1- قوله: اخذ بظاهر الآية. الخ. ليس للآية ظاهر غير باطنها وليس فيها إيجاب لانفاق جميع المال المؤد زکاته الفاضل عن الحاجة، فاي ظهور فيها يعاضد ماعزوه إلي ابي ذر؟ حتي يسعه الاخذ به والتعويل عليه، وإنما هي زاجرة عن الاکتناز الذي بيناه في صفحة 320 ولم يؤثر قط عن ابي ذر المصارحة ولا الاشارة إلي شئ مما عزاه اليه، بل اوقفناک علي أن کل ما روي عنه أو فيه مناف لذلک.

2- ما رتبه علي ذلک من وقوع النزاع بينه وبين معاوية وقد اسلفنا في صفحة 295 عن صحيح البخاري من أن النزاع بينهما کان في نزول الآية لا في مفادها فکان معاوية يزعم انها نزلت في أهل الکتاب وأبوذر يعمهما عليهم وعلي المسلمين، ومر ايضا مراد أبي ذر من الانفاق ومقدار المنفق من المالا وانه ليس ما فضل عن الحاجة وإنما هو ما ندب اليه الشرع واجبا أو تطوعا، ولم يکن إنکار إلا علي الاکتناز الذي هو لدة الاحتکار في الاطعمة يحر الملا عن منافع النقدين ونمائهما، ويحرم الفقراء خاصة عن حقوقهم المجعولة فيهما من ناحية الدين، وقد فصلنا القول في هذه کلها.

3- ما رواه من قصة کعب الاحبار. لقد أقرأناک المأثور من هذه القصة و کيفية الحال فيها واختلاف الفاظها وليس في شئ منها أکثر ما لفقه الآلوسي من قول الرجل لأبي ذر: إن الملة الحنيفة. إلخ. ومن إستعاذته بظهر عثمان، وعدم إکتراث أبي ذر لذلک ووقوع الضربة علي عثمان، ووليته ذکر لما تقوله مصدرا ولو من

[صفحه 369]

أضعف الکتب او من مدونات القصاصين، لکنه اراد ان ينشب علي أبي ذر ثورة وهو في عالم البرزخ بوقوع الضربة علي عثمان، غير أنه أخفق ظنه وأکدي أمله بفضل التنقيب الصحيح.

ونذکر لک هنالک لفظ احمد في مسنده 63: 1 من طريق مالک بن عبدالله الزيادي عن أبي ذر: انه جاء يستاذن علي عثمان بن عفان رضي الله عنه فأذن له و بيده عصاه فقال عثمان رضي الله عنه: يا کعب إن عبدالرحمن توفي وترک مالا، فما تري فيه؟ فقال: إن کان يصل فيه حق الله فلا باس. فرفع أبوذر عصاه فضرب کعبا وقال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: ما أحب لو أن لي هذا الجبل ذهبا أنفقه ويتقبل مني أذر خلفي منه ست أواق. انشدک الله ياعثمان اسمعته؟ ثلاث مرات. قال: نعم.

ومنه يتجلي انها قضية في واقعة ترجع إلي مال عبدالرحمن بن عوف الذي ترک ذهبا قطع بالفؤس حتي مجلت ايدي الرجال منه، وبلغ ربع ثمنه ثمانين الفا، وقد اعطي له ذلک بغير إستحقاق من مال الله الذي يستوي فيه المسلمون، فکانت أثرة ممقوتة وإکتنازا منهيا عنه، وما کانت فتوي کعب تبرر شيئا من عمله لانه لم يکن من نماء زرع أونتاج ماشية او ربحا من تجارة حتي يطهره إخراج حقوق الله منه، وإنما کان المال کله لله، وأفراد المسلمين فيه شرع سواء، وإن کان لابن عوف فيه حقا فعلي زنة بقية المسلمين فحسب.

والعجب من هذا الاستفتاء ومن توجيهه إلي کعب خاصة- وهو يهودي قريب العهد بالاسلام- وفي المنتدي مثل ابي ذر عالم الصحابة، والمستفتي جد عليم بحقيقة ذلک المال لانه هو الذي أدره عليه جزاء حسن اختياره للخلافة يوم الشوري، ولم تکن ثروته الشخصية تفي لتلکم العطايا الجزيلة، فليس لها مدر الا مال الله، فعلي أبي ذر البصير بمواقع احکام الشرع ان ينکر تلکم المنکرات علي من استباح ذلک العطاء، وعلي من استباح اخذه وإکتنازه، وعلي من حاول ان يبرر تلکم الاعمال. ولتکن منکم امة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنکر واولئک هم المفلحون.

وإن کانت توجب نظرية ابي ذر هذه الشيوعية او الاشتراکية؟ فقد سبقه اليها

[صفحه 370]

الخليفة الثاني ببيان او في وتقرير اوضح، أخرجه الطبري في تاريخه 33: 5 من طريق ابي وائل قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لاخذت فضول أموال الاغنياء فقسمتها علي فقراء المهاجرين.

وأخرجه ابن حزم في المحلي 158: 6 فقال: هذا إسناد في غاية الصحة والجلالة وفي عصر المأمون 2: 1: حرم عمر بن الخطاب علي المسلمين إقتناء الضياع والزراعة لان أرزاقهم وأرزاق عيالهم وما يملکون من عبيد وموال، کل ذلک يدفعه لهم من بيت المال، فما بهم إلي اقتناء المال من حاجة.

نعم: عزبت عن اللجنة نظرية الخليفة الثاني في ناحية المال أو أن عظمة الخلافة صدتهم عن الجرأة عليه لکن أباذرلم يکن خليفة، فتمنعهم عظمته عن التقول عليه، وقد مات في المنفي فريدا وحيدا لا يجد من يعينه أو يدافع عنه أويجهزه بعد موته فيتوثب عليه حتي الخنافس والديدان، غير ان له يوما آخر يحشر فيه امة واحدة هنالک تبلي السرائر ويعلم ما ارتآه أبوذر وما رمي به. ذلک يوم مشهود له الناس، والحکم هنالک لله الواحد القهار.

4- ما عزا إليه من الحدة وهو ينافي تشبيه رسول الله صلي الله عليه وآله إياه بعيسي بن مريم في هديه وخلقه ونسکه وزهده[1] فهو ممثل المسيح عليه السلام في هذه الامة، و أني تقع الحدة منه؟ إلا أن يدعوه اليها الدين کما هو من خصال المؤمنين الموصوفين بالوداعة بينهم، والخشونة في ذات الله، وأبوذر في الرعيل الاول منهم، فليس من المستطاع أن نخضع لصحة هذه الرواية وفيها الوقيعة من أبي ذر فيمن يعلم أن رسول الله صلي الله عليه وآله يقربه ويدنيه ويحبه.

فلا تکاد تنهض حجة علي مفادها ولو جاءت بسند صحيح لان المعلوم من حال ابي ذر هو ما أخبر بن النبي الصادق الامين، وعلي فرض صحتها قضية في واقعة لا تعدو أن تکون فلتة ليست لها لدة، ولعلها صدرت منه قبل تحريم ذلک کما ذهب اليه شراح صحيح البخاري[2] وبمثلها لا يمکن أن تثبت لابي ذر غريزة الحدة فيحمل ما صدر

[صفحه 371]

منه في المقام عليها.

وکأن الرجل هاهنا ذهل عما ذکره في کتابه (مسائل الجاهلية) ص 129 من قوله: إن أباذر رضي الله تعالي عنه قبل بلوغه المرتبة القصوي من المعرفة تساب هو وبلال الحبشي المؤذن فقال له: يا ابن السوداء. فلما شکا بلال إلي رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم قال له: شتمت بلالا وعيرته بسواد أمه؟ قال: نعم. قال: حسبت انه بقي فيک شئ من کبر الجاهلية. فألقي أبوذر خده علي التراب ثم قال: لا أرفع خدي حتي يطأ بلال خدي بقدمه. اه.

وهکذا رواه البر ماوي، وذکره القسطلاني في إرشاد الساري 113: 1 وقال: زاد ابن الملقن: فوطئ خده.

هذا أبوذر وهذا أدبه وکرم أخلاقه، وإنه لعلي خلق عظيم.

5- ما ادعاه من کثرة المتعرضين علي أبي ذر. الخ. ليته سمي واحدا من اولئک المتعرضين، أو سمي مصدرا ولو من أتفه المصادر يصافقه علي هذه الدعوي، وإنما کانت الصحابة يومئذ بين مصافق لابي ذر علي هتافه، ومسل له علي نکبته، ومستاء علي ما اصابه من الاذي، وناقم علي من فعل به ذلک، فلم يکن عندئد من يرد عليه قوله، ويحفظ آية المواريث وأبوذر ناسيها وهو وعاء ملئ علما بشهادة من أعلم الامة باب مدينة علم النبي صلي الله عليهما وآلهما.

کان من العزيز علي صلحاء الصحابة المنابأة بالفادح الجلل تسيير ابي ذر إلي الربذة لکرههم ذلک ونبوء سمعهم عنه، وکان الصحابي الصالح يسترجع مرارا لما قرع سمعه ذلک النبأ المزري، وکان يقول: ارتقبهم واصطبر، اللهم إن کذبوا أباذر فاني لا أکذبه، اللهم وإن اتهموه فاني لا أتهمه، اللهم وإن استغشوه فاني لا استغشه، فان رسول الله صلي الله عليه وآله کان يأتمنه حين لا يأتمن احدا، ويسر اليه حين لا يسر إلي احد[3] .

ولعل الآلوسي يريد بمن ذکرهم من المتعرضين طغمة آل امية المتخذين مال الله دولا، وعباده خولا، ودينه دخلا، وکتابه دغلا، غير انهم ما کانوا يجادلون بالقرآن وما کانوا يعرفون منه إلا ظاهرا من قوله تعالي: ولا تنس نصيبک من الدنيا.

[صفحه 372]

وکانت مجادلته مجالدة بالحراب والعتاد، وکان قولهم في ذلک صخبا وجلبة، فتبعهم الآلوسي تحت جامع النزهة.

6- حسبانه بان خروجه إلي الربذة کان مللا منه من تعرض الناس وازدحامهم عليه مستغربين منه رأيه بعد ان استشار عثمان فاشار اليه بالذهاب اليها فسکن فيها حسبما يريد. وهذه اکذوبة اخري فقد مر فيما تقدم انه نفي إلي الربذة، ومنع الناس عن مشايعته، فلم يدن منه احد إلا مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام وإبناه الامامان وعمار معهم، وما جري بينهم وبين مروان، ثم ما جري بين الامام وبين عثمان، وما قال له مشايعوه من کلمات التسلية، وما قاله ابوذر نفسه لمن زاره في الربذة، وقول عثمان لعمار: يا عاض أيرأبيه أتحسب إني ندمت من تسييره؟ إلي کلمات اخري کلها صريحة في تسييره علي صورة غير مرضية، ونقمة الصحابة جمعاء علي من فعل به ذلک. وقد عرفت قبل هذه کلها إخبار رسول الله صلي الله عليه وآله بذلک النفي والاخراج بالرغم من أشواق ابي ذر المحتدمة علي جواره مرقد النبي الاعظم، فراجع تفاصيل هذه الجمل فيما تقدم من صحائف هذا الجزء، لکن الآلوسي اراد أن يخفف وطأة النقد علي من والاه ورد النقمة عنه فصدر للقصة صورة خيالية، وحسب ان التنقيب لا يکشف عن عوارها، وليت اللجنة الحاکمة لم تتغافل عن ان هذه الجملة الاخيرة تنافي ما استشهدت به من کلام ابني کثير وحجر فقد اعترفا بان خروج ابي ذر إلي الربذة کان تسييرا بلا اختيار منه غير أنهما حاولا الاعتذار عن قبل من ارتکب ذلک.

7- قوله: هذا ما يعول عليه في هذه القصة. الخ. انظر إلي هذا الرجل کيف يحاول ان يغمط الحقائق الثابتة حسب ميوله وأهواءه، وهويزعم ان الامة ستتخذ ما لفقه اصلا متسبعا، فتمحو الکتب وتلقي الستار علي صفحة التاريخ، وتحذف الاحاديث من مدوناتها وتضرب صفحا عن غير کتابه مما ثبت فيها کل ما نفاه هو کما قدمنا لک ذلک في أبحاثنا هذه؟ وقصاري القول إن العلماء في هذه المسالة فريقان: فقسم سرد تلکم الااحوال سردا تاريخيا أو أخرجها إخراج الحديث من غير تعرض لمالها أو عليها وقد عرفت هؤلاء، وفريق يعترف بکل ما هنالک غير انه يعتذر عمن ارتکب هاتيک الاحوال بانها کانت لحفظ ابهة الخلافة، وصيانة منصب الشريعة، وإقامة حرمة الدين[4] .

[صفحه 373]

وليس أحد من هؤلاء من الشيعة حتي يجعل الآلوسي روايتهم غير معول عليها، وهل من الجائز أن لا يتفطن اعلام القوم وحفاظهم في کل تلکم القرون الخالية لما جاء به الآلوسي، وحسبوا أولئک ما روته الشيعة صحيحا وجعلوه من مطاعن عثمان المتسالم عليه عندهم، وجاءوا ينحتون له الاعذار في تبريره؟ وبعد هذه کلها فلا عذر للجنة الحاکمة في أن تعتمد علي مثل هذه الکلمة التي مزيجها الکذب، وحشوها الاغلاط، والعوار مکتنف بها من شتي نواحيها، هذا حال الشاهد الاول الذي استشهدت به اللجنة الحاکمة.



صفحه 369، 370، 371، 372، 373.





  1. راجع ص 314 -312 من هذا الجزء.
  2. راجع فتح الباري لابن حجر، وارشاد الساري للقسطلاني، وعمدة القاري للعيني.
  3. راجع من هذا الجزء صفحة 315.
  4. راجع الرياض النضرة 146: 2، الصواعق ص 68، تاريخ الخميس 2.