لا شيوعية في الاسلام











لا شيوعية في الاسلام



ان من مبادئ الدين الاسلام احترام الملکية ولن لکل إمرئ أن يتخذ من الوسائل والسبل المشروعة لاکتساب المال وتنميته ما يحبه ويستطيعه ويتملک بهذه السبل ما يشاء، هذا وقد ذهب جمهور من الصحابة وغيرهم من الفقهاء المجتهدين إلي أنه لا يجب في مال الاغنياء إلا ما أوجبه الله من الزکاة والخراج والنفقات الواجبه بسبب الزوجية أو القرابة وما يکون لعوارض موقتة واسباب خاصة کإعانة ملهوف وإطعام جائع مضطر، وکالکفارات وما يتخذ من العدة للدفاع عن الاوطان وحفظ النظام إذا کان ما في بيت مال المسلمين لا يکفي لهذا، ولسائر المصالح العامة المشروعة کما هو مفصل في کتب التفسير وشروح السنة وکتب الفقه الاسلامي. هذا هو الواجب. غير ان الاسلام يدعو کل قادر من المسلمين أن يتطوع بما شاء من ماله يصرفه في وجوه البر

[صفحه 362]

والخير مع عدم الاسراف والتبذير في ذلک کما قال الله تعالي: «ولا تجعل يدک مغلولة إلي عنقک ولا تبسطها کل البسط فتقعد ملوما محسورا» وکما قال عزوجل في وصف عباده الذين أثني عليهم: «والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وکان بين ذلک قواما» و کما تدل عليه السنة في أحاديث کثيرة. وذهب ابوذر الغفاري رضي الله عنه إلي انه يجب علي کل شخص ان يدفع ما فضل عن حاجته من مال مجموع عنده- في سبيل الله- اي في سبيل البر والخير وانه يحرم ادخاره ما زاد عن حاجته ونفقته ونفقة عياله.

هذا هو مذهب ابي ذر ولا يعلم أن أحدا من الصحابة وافقه عليه. وقد تکفل کثير من علماء المسلمين برد مذهبه وتصويب ما ذهب اليه جمهور الصحابة والتابعين بما لا مجال للشک معه في أن أباذررضي الله عنه مخطئ في هذا الرأي. والحق ان هذا مذهب غريب من صحابي جليل کأبي ذر وذلک لبعده عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الظاهر الواضح، ولذلک استنکره الناس في زمنه واستغربوه منه، قال الالوسي في تفسيره بعد ما بين مذهبه ما نصه: (وکثر المعترضون علي أبي ذر في دعواه تلک وکان الناس يقرأون له آية المواريث ويقولون: لو وجب إنفاق کل المال لم يکن للآية وجه. وکانوا يجتمعون عليه مزدحمين حيث حل مستغربين منه ذلک. اه.

ومن هذا يتبين إن هذا الرأي خطأوصاحبه مجتهد مغفور له خطؤه بل مأجور علي اجتهاده، ولکنه لا يتابع فيما أخطأ فيه بعد تبيين انه خطأ لا يتفق هووما يدل عليه کتاب الله وسنة رسوله وقواعد الدين الاسلامي.

ولما کان مذهبه داعيا إلي الاخلال بالنظام والفتنة بين الناس طلب معاوية والي الشام من الخليفة عثمان رضي الله عنه أن يستدعيه إلي المدينة- وکان أبوذر وقتئذ في الشام فاستدعاه الخليفة فأخذ أبوذر يقرر مذهبه ويفتي به ويذيعه بين الناس فطلب منه عثمان: ان يقيم بجهة بعيدة عن الناس فأقام( بالربذة) (مکان بين مکة والمدينة) قال ابن کثير في تفسيره: کان من مذهب ابي ذر رضي الله عنه تحريم إدخار ما زاد علي نفقة العمال. وکان يفتي بذلک ويحثهم عليه ويأمرهم به ويغلظ في خلافه فنهاه معاوية فلم ينته فخشي أن يضر بالناس في هذا فکتب يشکوه إلي عثمان وأن يأخذه اليه فاستقدمه عثمان إلي المدينة وأنزله بالربذة وحده وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان.

[صفحه 363]

وجاء في فتح الباري للحافظ ابن حجر ما خلاصته: (إن دفع المفسدة مقدم علي جلب المصلحة ولذلک أمر عثمان أأبا ذرأن يقيم بالربذة مع أن في بقائه بالمدينة مصلحة کبيرة لطالبي العلم لما في بقائه بالمدينة من مفسدة تترتب علي نشر مذهبه) ومما ذکرنا يتبين ان ما في هذا الکتاب (الشيوعية في الاسلام ) لا يتفق هو ومبادئ الاسلام وقواعده. کما يتبين انه لا شيوعية في الاسلام بالمعني الذي يفهمه الناس، والذي صرح به صاحب هذا الکتاب وسماه (شيوعية الاسلام) ومن أجل هذا نري الا يذاع مثل هذا الکتاب بين الناس لئلا يتخذها المفسدون في الارض الهدامون للنظم الصالحة ذريعة للاخلال بالنظام وإفساد عقول ضعفاء الايمان والجاهلين بمبادئ الاسلام.

(قال الاميني): إن الوزارة الداخلية أو شيخ الازهر لو أحال کل منهما النظر في هذه المهمة إلي لجنة عارفة بحال أبي ذر، واقفة علي مقاله، مطلعة علي کتب الحديث والسير والتفاسير، بصيرة علي ما فيها من الغث والثمين، خالية عن الاغراض، بعيدة عن النعرات الطائفية، لحکمت بما هو الحق الصراح، وعرفت ان ما دعا اليه ابوذر لم يکن خارجا عما سردته هي في مفتتح مقالها من اعتبار المالکية لکل إنسان، وما يجب عليه إنفاقه من المال، وما يتطوع به الرجل من النفقات، وقد أوقفناک قبل هذا علي کل ذلک، وأن هياجه لم يکن موجها إلا إلي اناس معلومين کانوا يکنزون الذهب والفضة ولا ينفقون منها في سبيل الله، ويحرمون الامة من منافعها المفروضة لها فضلا عن المندوب اليها والمرغب فيها. وبذلک کله تعرف ان ما عزت اليه اللجنة الحاکمة- من غير بصيرة- من وجوب إنفاق ما فضل من المال علي حاجة الانسان ونفقته ونفقة عياله زور من القول، وفند من الرأي، وليتها اشارت إلي مصدر ما ادعته من مذهب ابي ذر الذي حسبته مخالفا لجمهور الصحابة والتابعين، وقد أسلفنا لک جملة مما أثر عنه في ذلک، وليس في شئ منه اي دلالة علي ما ادعته من العز والمختلق، وليتها بينت العلماء الذين تصدوا لنقض مذهب أبي ذر، وأشارت إلي ما جاءوا به في تدعيم حجتهم، ولعلها ارادت بهم المؤرخ محمد الخضري، وأحمد امين، وصادق إبراهيم عرجون، وعمر أبي نصر، ومحمد احمد جاد المولي بک، وعبدالحميد بک العبادي، وأمثالهم من المحدثين

[صفحه 364]

المتسرعين الذين منيت بهم البلاد والعباد.

وأسلفنا لک ايضا قول عظماء الصحابة في أبي ذر وموافقتهم له علي حقيقة رأيه، وإستيائهم لما نکب به من جراء ذلک، وإجماع صلحائهم علي ان ما جاء به کان رايا صحيحا دينيا محضا مستفادا من الکتاب والسنة.

وعجيب إستغرابها مذهب ابي ذر وهي لا تعرفه، وأعجب منه اعتذارها له ببعده عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الظاهر الواضح مع قولها باجتهاد ابي ذر، اي اجتهاد هذا من عيلم أخذ المبادئ من مشرعها يبعد حامله عن مبادئ الاسلام وعماهو الحق الظاهر الواضح؟ نعم: کم وکم عند القوم من المجتهدين البعداء آرائهم عن مبادئ الاسلام کابن ملجم قاتل الامام أميرالمؤمنين، وابي الغادية قاتل عمار، وابني هند والنابغة قائدي الفئة الباغية، وأمثالهم؟[1] لکن شتان بين هؤلاء وسيد غفار؟.

أو ليس مما يضحک الثکلي ويبکي کل مسلم؟ أن يحسب ان مذهب ابي ذر بعيد عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الظاهر الواضح، وهو الذي لم يعبد الصنم قبل إسلامه وصلي سنين قبل المبعث الشريف موليا وجهه إلي الله وهو محسن، وهو ربع الاسلام ورابع المسلمين، وقد طوي جل سنيه علي عهد النبوة في صحبة الرسول الاعظم ولم يفتأ متعلما منه، مصيخا إلي کل ما يدعو اليه ويهتف به، فتنتقش کل تلکم المثل العليا في نفسه کما تنتقش الصور في المرآة الصافية، بل تثبت فيها کما تثبت في العدسة اللاقطة.

کان صلي الله عليه وآله يدنيه دون الصحابة اذا حضر، ويتفقده اذا غاب، وکان شحيحا علي دينه حريصا علي العلم، وقد سال رسول الله صلي الله عليه وآله عن کل شئ حتي عن مس الحصي في الصلاة، وقد صب صلي الله عليه وآله في صدره ما صبه جبريل وميکائيل في صدره صلي الله عليه وآله، وعرفه صلي الله عليه وآله لامته بأنه شبيه عيسي هديا وسمتا ونسکا وبرا وصدقا و خلقا وخلقا.[2] .

وما ظنک برجل قال فيه باب مدينة علم النبي مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام لما

[صفحه 365]

سئل عنه: وعاء ملئ علما ثم أوکي عليه؟[3] .

أو ليس من العجب العجاب ان من هو هکذا وهوفي عهد النبوة لم يزل في مدينة الرسول يتلقي منه صلي الله عليه وآله کل إفاضاته، ويستقي من مستقي الوحي يکون مذهبه بعيدا عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الواضح، ويکون راي کعب الاحبار اليهودي حديث العهد بالاسلام أومن بعده بعد لاي من عمر الدهر وقد نمي وترعرع وشب و شاب في عاصمة الفراعنة يوم غشيت الحقايق ظلمات بعضها فوق بعض قريبا منها و يکون صاحبه عارفا بهاحاکما علي مثل أبي ذر بما حکم، کأن الحقايق الاسلامية نصب عينه دون سيد غفار، أو معلقة علي شحمة اذنه يسمع رنتها دون ذلک الصحابي العظيم؟.

هب أنا تنازلنا للجنة الحاکمة عن کل ما قلناه، ولکن هل يسعنا التغاضي عما جاء به الحفاظ وأئمة الحديث من طرق صحيحة عن نبي الاسلام صلي الله عليه وآله في إطراء الرجل والثناء عليه وإکباره وتقرير هديه وهداه مع عدم استثناء شئ من أطواره في اولياته أو أخرياته؟ وهو العارف بعلم النبوة بکل ما ينهض به أبوذر بعده، فهلا بدر صلي الله عليه وآله إلي ردعه عما سينوء به؟ بدل أمره إياه بالصبر علي ما ينتابه من جراء ما قام به ودعا اليه، بدل عده ما أصابه من المحن مما هو لله وفيه، بدل إخباره بکل ما يجري عليه من النفي والجلاء مقصورا علي ذلک من غير ردع.

ونسائل اللجنة الحاکمة عن الذين استنکروا مذهب ابي ذر واستغربوه منه من الصحابة أهم من علية الصحابة أو من أذنابها؟ وبطبع الحال انها ستجيبنا انهم الحکم بن ابي العاص، وأخوه الحارث بن الحکم، ومروان بن الحکم، والوليد بن عقبة، ومعاوية بن ابي سفيان، وسعيد بن العاص، وعبدالله بن خالد، وعبدالله بن سعد بن ابي سرح، وإن شئت قلت حثالة من بني امية البعداء عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الواضح وهن حذا حذوهم في الاکباب علي حطام الدنيا واکتناز المال من غير حله ممن أقلقوا السلام، وجروا الويلات إلي خليفة الوقت، وحرموا ضعفاء الامة عن حقوقهم، وولغوا في الدماء المحرمة وأثاروها حروبا دامية، والقحوها فتنة شعواء، فلم تزل عداء محتدما

[صفحه 366]

تتلقاها الاجيال من بعدهم حتي انتهت إلي عصرنا الحاضر، وهو الذي حفز اللجنة الحاکمة علي رميها القول علي عواهنه، ولکن صافق أباذرعلي رأيه الصحيح الموافق لمبادئ الدين الامام أبوالسبطين وشبلاه الامامان وصلحاء الامة کلهم ومن استاء لنکبات ابي ذر ونقم بها علي خليفة الوقت.

(حن قدح ليس منها)

لقد جرأ تقحم هذه اللجنة الجائرة في حکمها «جبران ملکون» الصحافي النصراني صاحب جريدة الاخبار العراقية في سنتها العاشرة 1368 ه د في عددها المتسلسل 2503 الصادر في جمادي الاولي، فطفق يرقص لما هنالک من مکاء وتصدية، والمسکين لا يعرف مبادئ الاسلام ولو عرفها لا تبعها، ولا مبالغ رجالات المسلمين ولو عرفهم لنزههم وذب عنهم، لکنه حسب ما لفقوه حقيقة راهنة وصبها في بوتقة من القول هو أربي في إفادة ما حاولوه غير انه يطفو عليه القوارص ولواذع قال:

لکن أباذر الغفاري يعتقد انه يتعين علي کل فرد أن ينفق في سبيل الله کل ما يفيض عن حاجته وحاجة اسرته، ولکن لم يعرف ان احدا من الصحابة شاطره هذا الرأي، وإنما عارض الکثير من عقلاء المسلمين وحکمائهم في هذا المبدأ، فلا شک إذن في أن أباذر کان مخطئا في رأيه، ولا ينبغي إتباعه بعد أن ثبت أنه خطأ، وان رأيه لا يتفق مع القرآن ولا السنة ولا المبادئ الاسلامية وتعاليمها. اه.

ونحن هاهنا لا نعاتبه ولا نستعتبه، أما الاول فاان الرجل کما قلناه بعيد عن کل ما يجب أن يقرب منه في أمثال هذه المباحث حتي يتسني له الحکم البات فيها، وإنا أحسن ظنه باولئک المتقولين زاعما انهم هم الاقرباء من المبادئ الاسلامية العرفاء بحقيقة ما حکموا به، ولو کان الامر کما زعم لکان الحق معهم، وان کان لنا ان نؤاخذه بأن مرحلة حسن الظن لا يکتفي بها في باب القضاء الحاسم علي عظيم من عظماء الامة، فکان من واجبه أن يستفرغ وسعه في تحقيق تلکم المزاعم وهو في عاصمة من عواصم الاسلام «بغداد» وبمطلع الاکمة منه عاصمة الدنيا في العلم والدين «النجف الاشرف» وفيها العلماء، والمؤلفون، والمحققون، والجهابذة، وعباقرة الوقت في کل جيل، فکان من السهل عليه أن يستحفي الخبر هنالک أو هاهنا، ولهذا لسنا نستعتبه

[صفحه 367]

لخروجه عن الطريقة المثلي في القضاء، ونحن نعد هذه وأمثالها سيئة من سيئات اللجنة الحاکمة وهي المؤاخذة بها. وکأني بهاوهي تحسب انها تحسن صنعا، وتبتهج بما نشرته من الحکم الساقط وقذف عظيم من عظماء الامة بما تبرأ منه ساقة المسلمين، وتراه دفاعا عن بيضة الاسلام المقدس، وکفاحا للشيوعية الهدامة، وردما لثلمة أتت علي الدين من ذلک المبدء التعس، وکأنها جاءت بقرني حمار لما استشهدت علي ما ارتأته بأقاويل أناس زور عن مواقف الحق والصدق.



صفحه 362، 363، 364، 365، 366، 367.





  1. ممن اسلفنا ذکرهم في الجزء السابع ص 106 و 105 ط 2.
  2. راجع في کل ذلک صفحة 316 -312 من هذا الجزء.
  3. راجع ص 311 من هذا الجزء.