ابوبكر شيخ يعرف والنبي شاب لا يعرف











ابوبکر شيخ يعرف والنبي شاب لا يعرف



عن أنس بن مالک قال: أقبل النبي صلي الله عليه وسلم إلي المدينة، وأبوبکر شيخ يعرف والنبي صلي الله عليه وسلم شاب لا يعرف فيلقي الرجل أبابکر[1] فيقول: يا أبابکر من هذا الذي بين يديک؟ فيقول: يهديني السبيل، فيحسب الحاسب انه يهديه الطريق وإنما يعني سبيل الخير.

[صفحه 258]

وفي لفظ: إن أبابکر کان رديف النبي صلي الله عليه وسلم وکان أعرف بذلک الطريق فيراه الرجل يعرفه فيقول: يا أبابکر من هذا الغلام بين يديک؟ وفي لفظ أحمد: کانوا يقولون: يا أبابکر ما هذا الغلام بين يديک؟ فيقول: هذا يهديني السبيل. وفي لفظ: قالوا: يا أبابکر من هذ الذي تعظمه هذا الاعظام؟ قال: هذا يهديني الطريق وهو أعرف به مني.

م وفي رواية: رکب رسول الله صلي الله عليه وسلم وراء أبي بکر ناقته. وفي التمهيد لابن عبد البر: انه لما أتي براحلة أبي بکر سأل أبوبکر رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يرکب ويردفه فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: بل أنت ارکب وأردفک أنا فان الرجل احق بصدر دابته فکان إذا قيل له: من هذا وراءک؟ قال: هذا يهديني السبيل).

وفي لفظ: لما قدم صلي الله عليه وسلم المدينة تلقاه المسلمون فقام أبوبکر للناس، وجلس النبي صامتا، وأبوبکر شيخ والنبي شاب، فطفق من جاء من الانصار ممن لم ير رسول الله صلي الله عليه وسلم يجئ أبابکر فيعرفه بالنبي صلي الله عليه وسلم حتي أصابت الشمس رسول الله صلي الله عليه وسلم فأقبل أبوبکر حتي ظلل عليه بردائه فعرفه الناس عند ذلک.

صحيح البخاري باب هجرة النبي 53:6، سيرة ابن هشام 109:2، طبقات ابن سعد 222:1، مسند أحمد 287:3، معارف ابن قتيبة ص 75، الرياض النضرة 78:1 و 79 و 80، المواهب اللدنية 86:1، السيرة الحلبية 46:2 و 61.

قال الاميني: ما أنزل الدهر نبي الاسلام حتي قيل: إنه شاب لا يعرف. کأنه غلام نکرة اتخذه شيخ انتشر صوته کصيته بين الناس دليلا في مسيره يرتدفه تارة و يمشيه بين يديه اخري ومهما سأل عنه قول: هذا يهديني الطريق وهو أعرف به مني، کأن نبي الاسلام صلي الله عليه وآله لم يکن ذلک الذي کان يعرض نفسه علي القبائل في کل موسم فعرفوه علي بکرة أبيهم من آمن منهم ومن لم يؤمن، خصوصا الانصار المدنيون منهم وفيهم رجال الاوس والخزرج، وقد بايعوه عند العقبة الاولي مرة، وبايعه منهم مرة ثانية عند العقبة ثلاث وسبعون رجلا وامرأتان.

وکأنه صلي الله عليه وآله لم يکن ذلک الذي أمر أصحابه بالهجرة إلي المدينة قبله، وکان بتلک الهجرة غلقت أبواب، وخلت دور اناس من السکني، وهاجر أهلها رجالا ونساءا

[صفحه 259]

وکان في مقدم المهاجرين ما يناهز ستين رجلا، فلم يبق في مکة المعظمة من أسلم معه صلي الله عليه وآله إلا أميرالمؤمنين وأبوبکر وکأن المدينة ليست بدار بني النجار وهم خؤولة النبي الاقدس

وکأنه صلي الله عليه وآله وسلم لم يکن الذي إتخذ المدينة قاعدة ملکه، وعاصمة حکومته، ومعسکر نهضته، فبث فيها رجاله وخاصته من أهلها ومن المهاجرين فکانوا يرقبون مقدمه الشريف في کل حين حتي، إذا وافوه مقبلا عليهم استقبلوه بقضهم وقضيضهم وفيهم أهل البيعتين ومن تقدمه من المهاجرين وکلهم يعرفونه کما يعرفون أبنائهم، وإنه صلي الله عليه وآله مکث في قباء عند بني عمرو بن عوف أياما وليالي حتي أسس مسجده الشريف فيها، فعرفه کل من في قباء ممن لم يکن يعرفه قبل من رجال الاوس والخزرج، واتصل به کل من قدمها من المدينة فعرفوه جميعا، وقد صلي الجمعة في قباء وفي بطن الوادي وادي رانونا وائتم به من حضر المسلمين عامة.

وبقضاء من الطبيعة ان الناس عند التطلع إلي رؤيته صلي الله عليه وآله کان يومي إليه کل عارف، ويسأل عنه کل جاهل، ويتقدم المبايعون إلي التعرف به والتزلف اليه، فلا يبقي في المجتمع جاهل به حتي يسأل أبابکر عنه في انتقاله من بني عمرو وبقوله: من هذا الغلام بين يديک يا أبابکر؟

فکأن القادم رجل عادي ما دوخ صيته الاقطار، ولم يره بشر من ذلک الجمع الحافل، ولم يحتفل به ذلک الاحتفال، ولا احتفي به تلک الحفاوة، وما صعدت ذوات الخدور علي الاجاجير[2] وما هزجت الصبيان والولائد بقولهن.


طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع


وجب الشکر علينا
ما دعا لله داعي


أيها المبعوث فينا
جئت بالامر المطاع


وکأنه قدم في صورة منکرة بلا أي تقدمة إلي بلد لا يعرفه فيه أحد حتي خص السؤال عنه بأبي بکر فحسب.

ثم ما هذه التعمية في جواب أبي بکر بقوله: إنه يهديني السبيل يريد سبيل

[صفحه 260]

السعادة فيحسب الحاسب انه يهديه الطريق؟ ألخوف کانت؟ ولم يرد رسول الله صلي الله عليه وآله إلا علي العدة والعدد والمنعة والعزة، وقد بايعته الانصار علي التفاني دونه. أو کان يخاف أبوبکر قريشا وهو في حصن الدين المنيع ودرعه الحصينة؟ أم کانت لغير ذلک؟ فاسأل عنه خبيرا. والعجب کل العجب ان رجلا هذه سيرته في التقية عن الناس في عاصمة الاسلام بين فرسان المهاجرين والانصار کيف صح عنه ما جاء عن ابن مسعود وما روي عن مجاهد مرسلا من قولهم: إن أول من أظهر الاسلام سبعة: رسول الله، وأبوبکر. الخ[3] .

علي أن الحالة کانت تقتضي أن يسأل کل قادم إلي المدينة يوم ذاک عن شخص رسول الله صلي الله عليه وآله وأو ان نزوله بها لا عن الغلام بين أيدي أبي بکر. والعجب ان الجهل برسول الله في مزعمة هذاالراوي کان مستمرا بين مستقبليه «وکلهم نفوسهم نزاعة إلي عرفانه والتبرک برؤيته» حتي ظلله أبوبکر بردائه فعرفه الناس عند ذلک.

ومتي کان أبوبکر شيخا والنبي شابا وهو صلي الله عليه وآله أکبر منه بسنتين وعدة أشهر کما يأتي تفصيله إنشاء الله؟ وابن قتيبة أخذ هذا الحديث بظاهره فقال في المعارف ص 75: هذا الحديث يدل علي أن أبابکر کان أسن من رسول الله صلي الله عليه وسلم بمدة طويلة، والمعروف عند أهل الاخبار ما حکيناه. اه. وحکي قبل هذا ان رسول الله صلي الله عليه وآله هو أکبر سنا من أبي بکر.

نعم: عرف شراح البخاري من المتأخرين موضع الغمز فأولوا کون أبي بکر شيخا بظهور الشيب في لحيته. وکون النبي شابا بسواد کريمته، والعارف بأساليب الکلام يعلم انه تمحل محض، وأن المفهوم من تلک کما فهمه ابن قتيبة: کون أبي بکر شيخا ورسول الله شابا لا غير ذلک. وإلا فما معني قولهم: ما هذا الغلام بين يديک؟ و: من هذا الغلام بين يديک؟ ومن المعلوم ان الغلام لا يطلق علي من عمر خمسون سنة تقريبا مهما اسود عارضه.

وعلي صحة هذا التأويل أين المأولون من صحيحة ابن عباس قال: قال أبوبکر:

[صفحه 261]

يا رسول الله قد شبت؟ قال: شيبتني هود والواقعة. الحديث. وروي مثله الحفاظ عن ابن مسعود، وفي لفظ أبي جحيفة: قالوا: يا رسول الله نراک قد شبت؟ قال: شيبتني هود وأخواتها.[4] .

فهذه الصحيحة تعرب عن أنه صلي الله عليه وآله کان قد بان فيه الشيب علي خلاف الطبيعة، وأسرع فيه حتي أصبح مسئولا عنه وعما أثره فيه صلي الله عليه وآله فأين منها ذلک التأويل البارد؟

وربما يقال في حل مشکلة (يعرف ولا يعرف): إن أبابکر کان تاجرا عرفه الناس في المدينة عند اختلافه إلي الشام، لکنه علي فرض تسليم کونه تاجرا، وعلي تقدير تسليم سفره إلي الشام ودون إثباته خرط القتاد، مقابل بأن رسول الله صلي الله عليه وآله ايضا کان يحاول التجارة يستطرق المدينة إلي الشام، فلو کانت التجارة بمجردها تستدعي معرفة الناس بالتاجر فهو في النبي الاعظم أولي لان شرفه المکتسب، وشهرته وبالامانة، وعظمته في النفوس، وتحليه بالفضائل، وبروز عصمته وقداسته عند الناس من أول يومه، وشرفه الطائل في نسبه، أجلب لتوجه النفوس اليه، بخلاف التاجر الذي هو خلو من کل ذلک.

علي أن التاجر متي هبط مصرا فعارفوه رجال معدودون ممن شارکوه في الحرفة، أو شارفوه في المعاملة، وهذا التعارف يخص باناس تعد بالانامل لا عامة الناس کما حسبوه، وأني هذا من سفر رسول الله صلي الله عليه وآله إلي المدينة وأبوبکر يوم ذاک يرضع من ثدي امه، خرجت به صلي الله عليه وآله ام أيمن لما بلغ ست سنين من عمره إلي أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة تزور به أخواله، فنزلت به في دار النابغة رجل من بني عدي بن النجار فأقامت به شهرا. ومما وقع في تلک السفرة:

قالت ام أيمن: أتاني رجلان من اليهود يوما نصف النهار بالمدينة فقالا: أخرجي لنا أحمد. فأخرجته ونظرا إليه وقلباه مليا ثم قال أحدهما لصاحبه: هذا

[صفحه 262]

نبي هذه الامة، وهذه دار هجرته، وسيکون بهذه البلدة من القتل والسبي أمر عظيم. قالت ام ايمن: وعيت ذلک کله من کلامهما[5] أبعد هذه کلها، وبعد تلکم الارهاصات للنبوة التي ملات بين الخافقين، وبعد ذلک الصيت الطائل الذي دوخ الاقطار، وبعد مضي خمسون سنة من عمره الشريف صلي الله عليه وآله رسول الله شاب لا يعرف وأبوبکر شيخ يعرف، يسأل عنه: من هذا الغلام بين يديک؟

ولايضاح هذه الجمل من الحري أن نسرد کيفية هجرته صلي الله عليه وآله حتي تزيد بصيرة القارئ علي موقع الافک من هذه المجهلة المأثورة في الصحاح والمسانيد الصادرة عن الغلو في الفضائل عميا وصما. فأقول:


صفحه 258، 259، 260، 261، 262.








  1. في الانتقال من بني عمرو. کذا قاله القسطلاني في ارشاد الساري 6 ص 214 وبنو عمرو ابن عوف هم من الانصار النازلين بقباء کان قد نزل عليهم رسول الله صلي الله عليه وآله في هجرته إلي المدينة کما يأتي تفصيله.
  2. جمع الاجار بکسر الاول وتشديد الجيم: السطح.
  3. تاريخ ابن کثير 58:3، تأريخ ابن عساکر 6 ص 448.
  4. أخرجه الحافظ الترمذي في جامعه، والحکيم الترمذي في نوادر الاصول، وابويعلي، والطبراني، وابن ابي شيبة، والحاکم في المستدرک 343:2 وصححه هو واقره الذهبي، والقرطبي في تفيسره 1:7. وابونصر في اللمع ص 280، وابن کثير في تفسيره 435:2، والخازن في تفسيره 335:2.
  5. دلائل النبوة لابي نعيم 50:1، صفة الصفوة لابن الجوزي 20:1 تاريخ ابن کثير 279:2 بهجة المحافل 44:1.