تبرز الخليفة في الاخلاق











تبرز الخليفة في الاخلاق



لم نقف من أخلاقيات الخليفة علي شئ يرفع الانسان من هذه الناحية عدا ما في صحيح البخاري في کتاب التفسير من طريق ابن أبي مليکة عن عبدالله بن الزبير قال: قد رکب من بني تميم علي النبي صلي الله عليه وسلم فقال أبوبکر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمر الاقرع بن حابس.[1] فقال أبوبکر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما اردت خلافک فتماريا حتي ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلک: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله و رسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم. سورة الحجرات: 1.

واخرج البخاري من طريق ابن أبي ملکية ايضا قال: کاد الخيران أن يهلکا أبوبکر وعمر رضي الله عنهما رفعا أصواتهما عند النبي صلي الله عليه وسلم حين قدم عليه رکب بني تميم فأشار أحدهما بالاقرع بن حابس أخي بني مجاشع. وأشار الآخر برجل آخر. قال نافع: لا أحفظ اسمه. فقال أبوبکر لعمر: ما اردت إلا خلافي. قال: ما أردت خلافک. فارتفعت أصواتهما في ذلک فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتکم فوق صوت النبي ولا تجهر واله بالقول کجهر بعضکم لبعض أن تحبط أعمالکم وأنتم لا تشعرون.[2] الحجرات: 2.

قال الاميني: ألا تعجب من الرجلين انهما طيلة مصاحبتهما هذا النبي المعظم صلي الله عليه وآله وسلم لم يحدهما التأثر باخلاقه الکريمة إلي الحصول علي أدب محاضرة العظماء والمثول بين أيديهم لا سيما هذا العظيم، العظيم خلقه بنص الذکر الحکيم، وما عرفا أن الکلام بين يديه لابد وأن يکون تخافتا وهمسا إکبارا لمقامه وإعظاما لمرتبته. وأن لا يتقدم

[صفحه 224]

أحد إليه بالکلام إلا أن يکون جوابا عن سؤال، أو ماينم عن امتثال أمر، أو إخبارا عن مهمة، أو سؤالا عن حکم لکنهما تقدما بالکلام الخارج عن ذلک کله، وتماريا و احتدم الحوار بينهما، وارتفعت أصواتهما في ذلک، وکاد الخيران أن يهلکا حتي جعلا أعمالهما في مظنة الاحباط فنزلت الآية الکريمة.

وما أخرجه ابن عساکر عن المقدام انه قال: استب عقيل بن أبي طالب وأبوبکر وکان أبوبکر سبابا. وکأن ابن حجر استشعر من هذه الکلمة مالا يروقه فقال: سبابا او نسابا. لکن الرجل أنصف في الترديد وقد جاء بعده السيوطي فحذف کلمة: سبابا. وجعلها نسابا بلا ترديد[3] والمنقب يعلم أن لفظة نسابا لاصلة لها بقوله استبا بل المناسب کونه سبابا، وکأن الراوي يريد بذلک انه فاق عقيلا بالسب لانه کان ملکة له، وإن کان يسع المحور أن يقول بارادة کونه نسابا انه کان عارفا بحلقات الانساب و مواقع الغمز فيها، فکان إذا استب يطعن مستابه في عرضه ونسبه، لکنه لا يجدي المتمحل نفعا فانه من أشنع مصاديق السب، وفيه القذف وإشاعة الفحشاء.

ويظهر من لفظ الحديث کما في الخصايص الکبري 2 ص 86 ان السباب بين أبي بکر وعقيل کان بمحضر من رسول الله صلي الله عليه وآله وکان ذلک في اخريات أيامه صلي الله عليه وآله. ومن شواهد کونه سبابا (وسباب المسلم فسوق)[4] ما مر في صفحة 153 من قوله للسائل عن القدر: يا بن اللخناء. وقوله لعمر: ثکلتک امک وعدمتک يابن الخطاب. لما بلغه طلب الانصار أن يولي عليهم رجلا أقدم سنا من اسامة فأخذ بلحيته فقال: استعمله رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وتأمرني أن أنزعه؟[5] .

علي أنه وهم في قوله هذا من ناحيتين: إحداهما أن الذي يجب أن لا يعزل من منصوبي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم هو الخليفة فحسب لا يتسرب إليه الرأي والمقائيس، کما لا يتطرقان إلي الاحکام والسنن المشرعة، لانه صلي الله عليه وآله نصبه يوم نصب بأمر من المولي

[صفحه 225]

سبحانه رئيسا عالميا مدي أمد حياته، کما أنه شرعها أحکاما عالمية مدي أمد الدهر بخلاف امراء الجنود والولاة والعمال فانه صلي الله عليه وآله وسلم کان يوليهم الامر لمصالح وقتية بعد الفراغ من تأهلهم للامارة والولاية والعمل، وإذا انقضي ظرف المصلحة أو تبدلت بأخري إو سلب التأهل من أحدهم کان يزحزحه من عمل إلي عمل، أو يسقطه عن الوظيفة نهائيا، أوإلي أمد تعود بعده إليه جدارته، وکذلک شأن الخليفة من بعده فاته قائم مقامه صلي الله عليه وآله وله وسلم النصب والنزع، والخفض والرفع، ولذلک أمر أبوبکر نفسه خالد بن سعيد علي مشارق الشام في الردة، وکان قد استعمله النبي صلي الله عليه وآله علي ما بين زمع وزبيد إلي حد نجران أو علي صدقات مذحج ومات صلي الله عليه وآله وهو علي عمله.

واستعمل أبوبکر نفسه أيضا يعلي بن امية علي حلوان، ثم عمل لعمر علي بعض اليمن، ثم استعمله عثمان علي صنعاء، وکان رسول الله صلي الله عليه وآله قداستعمله علي الجند وتوفي وهو علي عمله.

واستعمل أبوبکر عکرمة علي عمان ثم عزله واستعمل عليها حذيفة بن محصن وکان قد استعمل رسول الله صلي الله عليه وآله ووسلم عمرو بن العاص علي عمان فمات رسول الله صلي الله عليه وآله وهو أميرها، واستعمل عکرمة علي صدقات هوازن عام وفاته.

واستعمل عمر عثمان بن أبي العاص علي عمان والبحرين سنة 15، وکان قد استعمله النبي صلي الله عليه وآله علي الطائف وأقره أبوبکر بعد وفاته صلي الله عليه وآله واستعمل عمر عبدالله بن قيس أباموسي الاشعري علي البصرة، ثم عزله عثمان و أقره علي الکوفة، ثم عزله علي عليه السلام عنها، وکان رسول الله صلي الله عليه وآله ولاه مخاليف اليمن.

وقال أبوالفدا في تاريخه 166:1: أقر عثمان ولاة عمر سنة لانه کان أوصي بذلک ثم عزل المغيرة بن شعبة عن الکوفة، وولاها سعد بن أبي وقاص، ثم عزله ولي الکوفة الوليد بن عقبة وکان أخا عثمان من امة.

راجع تاريخ الطبري، والکامل لابن الاثير، والاستيعاب، واسد الغابة، وتاريخ أبي الفدا، وتاريخ ابن کثير، والاصابة، وغيرها من کتب التاريخ ومعاجم التراجم. وکم وکم لهؤلاء الولاة المذکورين من نظير، فليس اسامة ببدع من هؤلاء، وإنما هو کأحدهم، له مالهم وعليه ما عليهم.

[صفحه 226]

فاقتصار الخليفة في الحجاج بنصب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم اسامة في غير محله، إلا أن يقيده بأن ما ارتآه صلي الله عليه وآله وسلم من المصلحة يوم ذاک باقية بعد من غير حاجة إلي أي من القول والفعل الذين ارتکبهما.

الناحية الثانية: ان طلبة الانصار هذه متخذة عن عمل الخليفة نفسه وصاحبيه حيث قدماه يوم السقيفة بکبر سنه وشيبته کما مر في صفحة 92 و 91 فلا غضاضة علي الانصار إذن أن يتحر واللامارة عليهم من هو أقدم سنا من اسامة تأسيا بالخلافة. و إذا کان تولية الرسول صلي الله عليه وآله اسامة للقيادة مانعة عن نزعة فما بال منصوبه صلي الله عليه وآله للخلافة يوم غدير خم بمشهد من مائة ألف أو يزيدون، وفي مواقف اخري متکثرة يعزل عن الامر؟ ولا منکر يصاخ إليه: ولا وازع يسمع منه، هب ان قيسا أخذ بلحية عمر يوم ذاک کما أخذ بها أبوبکر يوم اسامة، واحتج آخرون لامير المؤمنين عليه السلام واحتدم الحوار لکن: لا رأي لمن لا يطاع.

نعم: أخرج ابن حبان في خلق الخليفة من طريق اسماعيل بن محمد الکذاب الوضاع مرفوعا عن جبرئيل انه قال: أبوبکر لفي السماء أشهر منه في الارض فإن الملائکة لتسميه حليم قريش. الخ: قد أسلفناه في الجزء الخامس ص 344 ط 2 بينا هناک انه کذب موضوع.

ولو کان الخليفة حليم قريش أو کان يرث النبي الاعظم شيئا من خلقه العظيم لما توفيت بضعته الطاهرة سلام الله عليها وهي واجدة عليه من جراء ما تلقت منه من غلظة وعنف في کشف بيتها الذي تمني ترکه عند وفاته، ولم يکن يأمر بقتال من فيه[6] إلي هنات وهنات.

أخرج البخاري في باب فرض الخمس ج 5 ص 5 عن عائشة: ان فاطمة عليها السلام ابنة رسول الله صلي الله عليه وسلم سألت أبابکر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها ما ترک رسول الله صلي الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه، فقال لها أبوبکر: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: لا نورث ما ترکنا صدقة. فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه وسلم فهجرت أبابکر فلم تزل مهاجرة حتي توفيت.

[صفحه 227]

وأخرج في الغزوات باب غزوة خيبر ج 6 ص 196 عن عائشة قالت: إن فاطمة «إلي أن قالت» فأبي أبوبکر أن يدفع إلي فاطمة منها شيئا فوجدت فاطمة علي أبي بکر في ذلک فهجرته فلم تکلمه حتي توفيت، وعاشت بعد النبي صلي الله عليه وسلم ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا ولم يؤذن بها أبابکر وصلي عليها.

ويوجد الحديث في صحيح مسلم 2 ص 72، مسند أحمد 1 ص 9 و 6، تاريخ الطبري 3 ص 202، مشکل الآثار للطحاوي 1 ص 48، سنن البيهقي 6 ص 301 و 300، کفاية الطالب ص 226، تاريخ ابن کثير 5 ص 285 وقال في ج 6 ص 333: لم تزل فاطمة تبغضه مدة حياتها، وذکره بلفظ الصحيحين الديار بکري في تاريخ الخميس 193:2.


ولاي الامور تدفن ليلا
بضعة المصطفي ويعفي ثراها؟


بلغت من موجدتها انها أوصت بأن تدفن ليلا، وأن لا يدخل عليها أحد، ولا يصلي عليها أبوبکر، فدفنت ليلا ولم يشعر بها أبوبکر، وصلي عليها علي وهو الذي غسلها مع أسماء بنت عميس.[7] .

وقال الواقدي کما في السيرة الحلبية 3 ص 390: ثبت عندنا أن عليا کرم الله وجهه دفنها رضي الله عنها ليلا وصلي عليها ومعه العباس والفضل ولم يعلموا بها أحدا. وقال ابن حجر في الاصابة 4 ص 379، والزرقاني في شرح المواهب 3 ص 207: روي الواقدي من طريق الشعبي قال: صلي أبوبکر علي فاطمة. وهذا فيه ضعف و انقطاع، وقد روي بعض المتروکين عن مالک عن جعفر بن محمد عن أبيه نحو ووهاه الدارقطني وابن عدي، وقد روي البخاري عن عائشة: انها لما توفيت دفنها زوجها علي ليلا، ولم يأذن بها أبابکر وصلي عليها.

قال الاميني: حديث مالک عن جعفر بن محمد أسلفناه في الجزء الخامس صحيفة 350 ط 2 ولفظه: توفيت فاطمة ليلا فجاء أبوبکر وعمر وجماعة کثيرة فقال أبوبکر لعلي:

[صفحه 228]

تقدم فصل. قال: لا والله لا تقدمت وأنت خليفة رسول الله، فتقدم أبوبکر فصلي أربعا. وقد بينا هنا لک انه من موضوعات عبدالله بن محمد القدامي المصيصي کما عده الذهبي في الميزان 7:2 من مصائبه.

ومن جراء تلک الموجدة منعت عن أن تدخلها يوم ذاک عائشة کريمة أبي بکر فضلا عن أبيها، فجاءت تدخل فمنعتها أسماء فقالت: لا تدخلي. فشکت إلي أبي بکر و قالت: هذه الخثعمية تحول بيننا وبين بنت رسول الله صلي الله عليه وسلم فوقف أبوبکر علي الباب وقال: يا أسماء ما حملک علي أن منعت أزواج النبي صلي الله عليه وسلم أن يدخلن علي بيت رسول الله صلي الله عليه وسلم. وقد صنعت لها هودج العروس؟ قالت: هي أمرتني أن لا يدخل عليها أحد، وأمرتني أن أصنع لها ذلک.

راجع الاستيعاب 772:2، ذخاير العقبي ص 53، اسد الغابة 524:5، تاريخ الخميس 313:1، کنز العمال 114:7، شرح صحيح مسلم للسنوسي 281:6، شرح الآبي لمسلم 282:6، أعلام النساء 1221:3.


صفحه 224، 225، 226، 227، 228.








  1. الاقرع بن حابس هو ذلک الاعرابي الذي رآه النبي صلي الله عليه وآله وهو يبول في المسجد، وقد أخرج حديثه البخاري في صحيحه. راجع ارشاد الساري 284:1.
  2. صحيح البخاري 7 ص 225، الاستيعاب في ترجمة القعقاع 535:2، تفسير القرطبي 300:16، تفسير ابن کثير 205:4، تفسير الخازن 172:4، الاصابة 58:1 و ج 24:3.
  3. الصواعق ص 43 تاريخ الخلفاء ص 37.
  4. مسند أحمد 1 ص 411، سنن ابن ماجة 461:2، تاريخ الخطيب 144:5، وصححه السيوطي في الجامع الصغير، وقال النووي في رياض الصالحين ص 323: متفق عليه.
  5. التمهيد للباقلاني ص 193، تاريخ الطبري 212:3، تاريخ ابن عساکر 117:1، الکامل لابن الاثير 139:2، تاريخ ابي الفدا ج 156:1، الروض الانف 375:2.
  6. راجع صفحة 77 و 174.
  7. طبقات ابن سعد، رسائل الجاحظ ص 300، حلية الاولياء 43:2، مستدرک الحاکم 163:3، طرح التثريب 1 ص 15، اسد الغابة 254:5، الاستيعاب 751:2، مقتل الخوارزمي 1 ص 83، ارشاد الساري للقسطلاني 362:6، الاصابة 4 ص 380 و 378، تأريخ الخميس 1 ص 313.