حجاج بالعريش











حجاج بالعريش



قال المحاملي: کنت عند أبي الحسن بن عبدون وهو يکتب لبدر، وعند جمع فيهم أبوبکر الداودي واحمد بن خالد المادرائي- فذکر قصة مناظرته مع الداودي في التفصيل إلي أن قال-: فقال الداودي: والله ما نقدر نذکر مقامات علي مع هذه العامة. قلت: أنا والله أعرفها مقامه ببدر، واحد، الخندق، ويوم حنين، ويوم خيبر. قال: فإن عرفتها ينفعني أن تقدمه علي أبي بکر وعمر، قلت: قد عرفتها ومنه قدمت أبابکر وعمر عليه. قال: من أين؟ قلت: أبوبکر کان مع النبي صلي الله عليه وسلم علي العريش يوم بدر مقامه مقام الرئيس، والرئيس ينهزم به الجيش، وعلي مقامه مقام مبارز، والمبارز لا ينهزم به الجيش. ذکره الخطيب في تاريخه 21:8، وابن الجوزي في المنتظم 327:6، وأحسب أن مبتدع هذه الباکورة، ومؤسس فکرة العريش والاستدلال بها في التفضيل هو الجاحظ قال في خلاصة کتاب العثمانية ص 10: والحجة العظمي للقائلين بتفضيل علي قتله الاقران وخوضه الحروب، وليس له في ذلک کبير فضيلة، لان کثرة القتل و المشي بالسيف إلي الاقران لو کان من أشد المحن وأعظم الفضائل وکان دليلا علي الرياسة والتقدم، لوجب أن يکون للزبير وأبي دجانة ومحمد بن مسلمة وابن عفراء و البراء بن مالک من الفضل ما ليس لرسول الله صلي الله عليه وسلم لانه لم يقتل إلا رجلا واحدا ولم يحضر الحرب يوم بدر ولا خالط الصفوف، وإنما کان معتزلا عنهم في العريش و معه أبوبکر. وأنت تري الرجل الشجاع قد يقتل الاقران، ويجندل الابطال، وفوقه من العسکر من لا يقتل ولا يبارز وهو الرئيس، أو ذو الرأي والمستشاري في الحرب، لان للرؤساء من الاکتراث والاهتمام وسعل البال والعناية والتفقد ما ليس لغيرهم، ولان الرئيس هو المخصوص بالمطالبة وعليه مدار الامور، وبه يستبصر المقاتل ويستنصر، وباسمه ينهزم العدو، ولو لم يکن له إلا أن الجيش لو ثبت وفر هو لم يغن ثبوت الجيش کله وکانت الدبرة

[صفحه 208]

عليه، ولو ضيع القوم جميعا وحفظ هو لانتصر وکانت الدولة له، ولهذا لا يضاف النصر، والهزيمة إلا إليه. ففضل أبي بکر بمقامه في العريش مع رسول الله يوم بدر أعظم من جهاد علي ذلک اليوم وقتله أبطال قريش. ا ه.

قال الاميني: نحن لا ننبس في الجواب عن هذه الاساطير المشمرجة ببنت شفه، وإنما نقتصر فيه بما أجاب به عنها أبوجعفر الاسکافي المعتزلي البغدادي المتوفي240 قال في الرد عليها:[1] .

لقد اعطي أبوعثمان مقولا وحرم معقولا، إن کان يقول هذا علي اعتقاد و جد، ولم يذهب به مذهب اللعب واللهو، أو علي طريق التفاصح والتشادق وإظهار القوة والسلاطة وذلاقة اللسان وحدة الخاطر والقوة علي جدال الخصوم. ألم يعلم أبوعثمان ان رسول الله صلي الله عليه وسلم کان أشجع البشر وأنه خاض الحروب وثبت في المواقف التي طاشت فيها الالباب، وبلغت القلوب الحناجر؟ فمنها يوم أحد ووقوفه بعد أن فر المسلمون بأجمعهم ولم يبق معه إلا أربعة: علي. والزبير. وطلحة. وأبودجانة، فقاتل ورمي بالنبل حتي فنيت نبله وانکسرت سية قوسه، وانقطع وتره، فأمر عکاشة بن محصن أن يوترها فقال: يا رسول الله لا يبلغ الوتر، فقال: أو تر ما بلغ. قال عکاشة: فو الذي بعثه بالحق لقد أوترت حتي بلغ وطويت منه شبرا علي سية القوس، ثم أخذها فما زال يرميهم حتي نظرت إلي قوسه قد تحطمت، وبارز ابي بن خلف فقال له أصحابه: إن شئت عطف عليه بعضنا؟ فأبي وتناول الحربة من الحارث بن السمت ثم إنتفض باصحابه کما ينتفض البعير قالوا: فتطايرنا عنه تطاير الشعارين فطعنه بالحربة فجعل يخور کما يخور الثور، ولو لم يدل علي ثباته حين انهزم أصحابه وترکوه إلا قوله: «إذ تصعدون ولا تلون علي أحد والرسول يدعوکم في اخراکم» فکونه صلي الله عليه وسلم في اخراهم وهم يصعدون ولايلون هاربين دليل علي أنه ثبت ولم يفر. وثبت يوم حنين في تسعة من أهله ورهطه الادنين، وقد فر المسلمون کلهم والنفر التسعة محدقون به، العباس آخذ بحکمة بغلته، وعلي بين يديه مصلت سيفه، والباقون حول بغلته يمنة ويسرة، وقد انهزم المهاجرون والانصار، وکلما فروا أقدم هو صلي الله عليه وسلم وصمم مستقدما يلقي السيوف والنبال بنحره

[صفحه 209]

وصدره، ثم أخذ کفا من البطحاء وحصب المشرکين وقال: شاهت الوجوه. والخبر المشهور عن علي وهو أشجع البشر: کنا إذا اشتد البأس وحمي الوطيس إتقينا برسول الله صلي الله عليه وسلم ولذنا به. فيکف يقول الجاحظ: إنه ما خاض الحروب ولا خالط الصفوف؟ وأي فرية أعظم ومن فرية من نسب رسول الله صلي الله وسلم إلي الاحجام والاعتزال الحرب؟ ثم أي مناسبة بين أبي بکر ورسول الله في هذا المعني؟ ليقيسه وينسبه إلي رسول الله صاحب الجيش والدعوة ورئيس الاسلام والملة، والملحوظ بين أصحابه واعدائه بالسيادة، وإليه الايماء والاشارة، وهو الذي أحنق قريشا والعرب، ووري أکبادهم بالبراءة من آلهتهم و عيب دينهم وتضليل أسلافهم، ثم وترهم فيما بعد بقتل رؤسائهم وأکابرهم، وحق لمثله إذا تنحي عن الحرب واعتزلها أن يتنحي ويعتزل، لان ذلک شأن الملوک والرؤساء إذ کان الجيش منوطا بهم وببقائهم، فمتي هلک الملک هلک الجيش، ومتي سلم الملک أمکن أن يبقي عليه ملکه، وإن عطب جيشه بأن يستجد جيشا آخر، ولذلک نهي الحکماء أن يباشر الملک الحرب بنفسه، وخطأوا الاسکندر لما بارز فور ملک الهند ونسبوه إلي مجانبة الحکمة ومفارقة الصواب والحزم، فليقل لنا الجاحظ: أي مدخل لابي بکر في هذا المعني؟ ومن الذي کان يعرفه من أعداء الاسلام ليقصده بالقتل؟ وهل هو إلا واحد من عرض المهاجرين حکمه حکم عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وغيرهما؟ بل کان عثمان أکثر منه صيتا، وأشرف منه مرکبا، والعيون إليه طمح، والعدو عليه أحنق وأکلب. ولو قتل أبوبکر في بعض تلک المعارک هل کان يؤثر قتله في الاسلام ضعفا؟ أو يحدث وهنا؟ أو يخاف علي الملة لو قتل أبوبکر في بعض تلک الحروب أن تندرس و تعفي آثارها وتنطمس منارها؟ ليقول الجاحظ: إن ابابکر کان حکمه حکم رسول الله صلي الله عليه وسلم في مجانبة الحروب واعتزالها. نعوذ بالله من الخذلان. وقد علم العقلاء کلهم ممن له بالسير معرفة وبالآثار والاخبار ممارسة حال حروب رسول الله صلي الله عليه وسلم کيف کانت، وحاله عليه الصلاة والسلام فيها کيف کان، ووقوفه حيث وقف وحربه حيث حارب، و جلوسه في العريش يوم جلس، وأن وقوفه صلي الله عليه وسلم وقوف رئاسة وتدبير، ووقوف ظهر وسند، يتعرف امور أصحابه ويحرس صغيرهم وکبيرهم بوقوفه من ورائهم وتخلفه عن التقدم في أوائلهم، لانهم متي علموا أنه في اخراهم إطمأنت قلوبهم ولم تتعلق

[صفحه 210]

بأمره نفوسهم، فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدوهم، ولا يکون لهم فئة يلجئون إليها و ظهرا يرجعون إليه، ويعلمون أنه متي کان خلفهم تفقد أمورهم وعلم مواقفهم وآوي کل انسان مکانه في الحماية والنکاية وعند النازلة في الکر والحملة، فکان وقوفه حيث وقف أصلح لامرهم، وأحمي وأحرس لبيضتهم، ولانه المطلوب من بينهم، إذ هو مدبر امورهم ووالي جماعتهم، ألا ترون أم موقف صاحب اللواء موقف شريف؟ وأن صلاح الحرب في وقوفه، وأن فضيلته في ترک التقدم في أکثر حالاته، فللرئيس حالات: الاولي حالة يتخلف ويقف آخرا ليکون سندا وقوة ورداءا وعدة، وليتولي تدبير الحرب و يعرف مواضع الخلل. والحالة الثانية: يتقدم فيها في وسط الصف ليقوي الضعيف ويشجع الناکس: وحالة ثالثة: وهي إذا اصطدم الفيلقان، وتکافح السيفان، إعتمد ما يقتضيه الحال ومن الوقوف حيث يستصلح، أو من مباشرة الحرب بنفسه فانها آخر المنازل وفيها تظهر شجاعة الشجاع النجد، وفسالة الجبان المموه. فأين مقام الرئاسة العظمي لرسول الله صلي الله عليه وسلم؟ وأين منزلة أبي بکر ليسوي بين المنزلتين، ويناسب بين الحالتين؟ ولو کان أبوبکر شريکا لرسول الله في الرسالة وممنوحا من الله بفضيلة النبوة، وکانت قريش والعرب تطلبه کما تطلب محمدا صلي الله عليه وسلم؟لکان للجاحظ أن يقول ذلک، فأما وحاله حاله وهو أضعف المسلمين جنانا وأقلهم عند العرب ترة لم يرم قط بسهم، ولا سل سيفا، ولا أراق دما، وهو أحد الاتباع غير مشهور ولا معروف ولا طالب ولا مطلوب، فکيف يجوز أن يجعل مقامه ومنزلته مقام رسول الله صلي الله عليه وسلم ومنزلته؟ ولقد خرج ابنه عبدالرحمن مع المشرکين يوم أحد فرآه أبوبکر فقام مغيظا علي فسل من السيف مقدار إصبع يروم البروز إليه فقال له رسول الله صلي الله عليه وسلم: يا أبابکر شم سيفک وامتعنا بنفسک. ولم يقل له (وامتعنا بنفسک) إلا لعلمه بأنه ليس أهلا للحرب وملاقاة الرجال وأنه لو بارز لقتل.

وکيف يقول الجاحظ: لا فضيلة لمباشرة الحروب ولقاء الاقران وقتل أبطال الشرک؟وهل قامت عمد الاسلام إلا علي ذلک؟ وهل ثبت الدين واستقر إلا بذلک؟ أتراه لم يسمع قول الله تعالي «إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا کأنهم بنيان مرصوص»؟

والمحبة من الله تعالي هي إرادة الثواب، فکل من کان أشد ثبوتا في هذا الصف وأعظم

[صفحه 211]

قتالا کان أحب إلي الله، ومعني الافضل هو الاکثر ثوابا، فعلي عليه السلام إذا هو أحب المسلمين إلي الله لانهم أثبتهم قدما في الصف المرصوص، لم يفر قط باجماع الامة، ولا بارزه قرن إلا قتله، أو تراه لم يسمع. قول الله تعالي:«وفضل الله المجاهدين علي القاعدين أجرا عظيما»؟ وقوله «إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ثم قال سبحانه: مؤکدا لهذا البيع والشراء «ومن أوفي بعهده من الله فاستبشروا ببيعکم الذي بايعتم به وذلک هوالفوز العظيم» وقال الله تعالي: «ذلک بأنهم لا يصيبهم ظلمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن موطئا يغيظ الکفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا کتب لهم به عمل صالح» فمواقف الناس في الجهاد علي أحوال، وبعضهم في ذلک أفضل من بعض، فمن دلف إلي الاقران وأستقبل السيوف والاسنة کان أثقل علي أکتاف الاعداء لشدة نکابته فيهم ممن وقف في المعرکة وأعان ولم يقدم، وکذلک من وقف في المعرکة وأعان ولم يقدم إلا انه بحيث تناله السهام والنبل أعظم عناء وأفضل ممن وقف حيث لا يناله ذلک، ولو کان الضعيف والجبان يستحقان الرئاسة بقلة بسط الکف وترک الحرب وإن ذلک يشاکل فعل النبي صلي الله عليه وسلم، لکان أوفر الناس حظا في الرئاسة وأشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت، وإن بطل فضل علي في الجهاد لان النبي صلي الله عليه وسلم کان أقلهم قتالا- کما زعم الجاحظ- ليبطلن علي هذا القياس فضل أبي بکر في الانفاق، لان رسول الله صلي الله عليه وسلم کان أقلهم مالا، وأنت إذا تأملت أمر العرب وقريش ونظرت السير وقرأت الاخبار عرفت أنها تطلب محمدا صلي الله عليه وسلم وتقصد قصده وتروم قتله، فان أعجزها وفاتها طلبت عليا وأرادت قتله، لانه کان أشبهم بالرسول حالا، وأقربهم منه قربا، وأشدهم عنه دفعا، وإنهم متي قصدوا عليا فقتلوه أضعفوا أمر محمد صلي الله عليه وسلم وکسروا شوکته، إذ کان أعلي من ينصره في البأس والقوة والشجاعة والنجدة والاقدام والبسالة. ألا تري إلي قوله عتبة ربيعة يوم بدر- وقد خرج هو وأخوه شيبة وإبنه الوليد بن عتبة فأخرج إليهم الرسول نفرا من الانصار فاستنسبوهم فانتسبوا لهم فقالوا: إرجعوا إلي قومکم، ثم نادوا: يا محمد- أخرج إلينا أکفاءنا من قومنا فقال النبي صلي الله عليه وسلم لاهله الادنين: قوموا يا بني هاشم فانصروا حقکم الذي آتاکم الله علي باطل

[صفحه 212]

هؤلاء، قم يا علي قم يا حمزة قم يا عبيدة ألا تري ما جعلت هند بنت عتبة لمن قتله يوم أحد لانه اشترک هو وحمزة في قتل أبيها يوم بدر؟ ألم تسمع قول هند ترثي أهلها:


ما کان لي من عتبة من صبر
أبي وعمي وشقيق صدري


أخي الذي کان کضوء البدر
بهم کسرت يا علي ظهري


وذلک لانه قتل أخاها الوليد بن عتبة وشرک في قتل أبيها عتبة، وأما عمها شيبة فان حمزة تفرد بقتله. وقال جبير بن مطعم لوحشي مولاه يوم أحد: إن قتلت محمدا فأنت حر، وإن قتلت عليا فأنت حر، وإن قتلت حمزة فأنت حر، فقال أما محمد فسيمنعه أصحابه، وأما علي فرجل حذر کثير الالتفات في الحرب، ولکني سأقتل حمزة. فقعد له وزرقه بالحربة فقتله.

ولما قلنا من مقاربة حال علي في هذا الباب لحال رسول الله صلي الله عليه وسلم ومناسبتها إياه ما وجدناه في السيرة والاخبار من إشفاق رسول الله صلي الله عليه وسلم وحذره علي ودعائه له بالحفظ والسلامة، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم الخندق وقد برز علي إلي عمرو ورفع يديه إلي السماء بمحضر من أصحابه: اللهم إنک أخذت مني حمزة يوم أحد، و عبيدة يوم بدر، فاحفظ اليوم علي عليا، رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين. و لذلک ضن به عن مبارزة عمرو حين دعا عمرو الناس إلي نفسه مرارا في کلها يحجمون ويقدم علي فيسأل الاذن له في البراز حتي قال له رسول الله صلي الله عليه وسلم إنه عمرو فقال: وأنا علي. فأدناه وقبله وعممه بعمامته وخرج معه خطوات کالمودع له، القلق لحاله، المنتظر لما يکون منه. ثم لم يزل صلي الله عليه وسلم رافعا يده إلي السماء مستقبلا لها بوجهه و المسلمون صموت حوله کأنما علي رؤسهم الطير حتي ثارت الغبرة وسمعوا التکبير من تحتها فعلموا أن عليا قتل عمرا. فکبر رسول الله صلي الله عليه وسلم وکبر المسلمون تکبيرة سمعها من وراء الخندق من عساکر المشرکين. ولذلک قال حذيفة بن اليمان: لو قسمت فضيلة علي بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين بأجمعهم لوسعتهم. وقال ابن عباس: في قوله تعالي» وکفي الله المؤمنين القتال «قال: بعلي بن أبي طالب. ا ه.

[صفحه 213]


صفحه 208، 209، 210، 211، 212، 213.








  1. رسائل الجاحظ ص 54، شرح ابن ابي الحديد 3 ص 275.