مظاهر علم أبي بكر











مظاهر علم أبي بکر



وأول مظهر من مظاهر علم الخليفة عند الباقلاني من المتقدمين کما في تمهيده ص 191، وعند السيد أحمد زيني دحلان من المتأخرين کما في سيرته هامش الحلبية 376:3 هو إعلامه الناس بموت رسول الله صلي الله عليه وآله وحجاجه عمر بن الخطاب بقول العزيز الحکيم: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم علي أعقابکم. الآية.[1] .

ما أذهل الرجلين عن ان الامر لم يعضل علي أي امرئ من الصحابة، وحاشاهم عن أن يکون هذا مبلغ علمهم، وقد کان حملة القرآن الکريم بأسرهم علي علم من موته صلي الله عليه وآله أخذا بما أجري الله بين البشر من الطبيعة المطردة وقضي أجلا وأجل مسمي وما کان لنفس أن تموت إلا باذن الله کتابا مؤجلا، ولکل امة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. وتمسکا بالقرآن العظيم، ونصوصه صلي الله عليه وآله الکثيرة عليه في مواقف لا تحصي،أحفلها حجة الوداع ومن هنا سميت تلک الحجة بحجة الوداع.

ولم يکن إنکار عمر موته صلي الله عليه واله وسلم لجهله بذلک، وقد قرأ عمر وبن زائدة عليه و علي الصحابة في مسجد رسول الله صلي الله عليه وآله الآية المذکورة قبل تلاوة أبي بکر إياها وأشفعها بقوله تعالي إنک ميت وإنهم ميتون[2] فضرب الرجل عنها وعن قارئها صفحا، وعمر وبن زائدة صحابي عظيم استخلفه رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم علي المدينة ثلاث عشرة مرت في غزواته کما في الاصابة 2 ص 523.

وإنما کان إنکاره ذلک وإرهابه الناس لسياسة مدبرة، وذلک صرف فکرة الشعب

[صفحه 185]

عن الفحص عن الخليفة إلي أن يحضر أبوبکر وکان غائبا بالسنح[3] خارج المدينة، وکان الامرد بربليل،

ألاتري أن غير واحد من أعلام القوم قد اعتذروا عن إنکار عمر موته صلي الله عليه وآله سلم بغير الجهل فمنهم من قال: إن ذلک کان لتشوش البال، واضطراب الحال، والذهول عن جليات الاحوال[4] ومنهم من اعتذر بقوله: خبل عمر في وفاة النبي صلي الله عليه وسلم فجعل يقول:إنه والله ما مات ولکنه ذهب إلي ربه[5] .

(المظهر الثاني) وجاء ابن حجر من علم الخليفة بمظاهر اخري واحتج بها علي کونه أعلم الصحابة علي الاطلاق. منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه في صلح الحديبية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: فأتيت نبي الله صلي الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله ألست نبي الله حقا؟ قال: بلي قلت: ألسنا علي الحق وعدونا علي الباطل؟ قال: بلي قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال:إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري. قلت: أوليس کنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلي، أفأخبرتک انک تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنک آتيه ومطوف به. قال: فأتيت أبابکر رضي الله عنه فقلت: يا أبابکر: أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلي. قلت: ألسنا علي الله وعدونا علي الباطل؟ قال: بلي.قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن. فقال: أيها الرجل إنه رسول الله ولن يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسک بغرزه، فوالله انه علي الحق. فقلت: أليس کان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلي فأخبرک انک تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فانک آتيه ومطوف به.

قال الاميني: هل في هذه الرواية غير أن أبابکر کان مؤمنا بنبوة رسول الله، وبطبع الحال ان کل من اعتنق هذا المبدء يري انه صلي الله عليه وآله لا يعصي ربه وهو ناصره و أن کل ميعاد جاء به لابد وأن يقع في الاجل المضروب له إن کان موقتا وإلا فهو يقع

[صفحه 186]

لا محالة في ظرفه الخاص به، فلا يخالجه شک إذا لم يعجل.

هذه غاية ما يوصف به أبوبکر بهذا الحديث، وهو معني يشترک فيه جميع المسلمين وليس من خاصته، فأي دلالة فيه علي کون أبي بکر أعلم الصحابة علي الاطلاق؟ ولو کان عمر يسأل أي صحابي بسؤاله هذا لما سمع إلا لدة ما أجاب به أبوبکر ومثل ما أجاب به رسول الله صلي الله عليه وآله، وکذلک المسلمون کلهم إلي منصرم الدنيا، فانک لا تجد عند أحدهم ضميرا غير هذا، واذافاتحته بالکلام عن مثله فلا تسمع جوابا غيره، فهل فاتح عمر بن غير أبي بکر أحدا من الصحابة وسمع جوابا غير ما أجاب به؟ حتي يستدل به علي أعلميته علي الاطلاق أو علي التقييد.

وهل کان رسول الله صلي الله عليه وآله في صدد بيان غامض من علومه لما أجاب عمر حتي يکون إذا وافقه أبوبکر في الجواب يصبح به أعلم الصحابة علي الاطلاق؟وابن حجر يعلم ذلک کله ولذلک تعمد باسقاط لفظ الرواية وقال في الصواعق ص 19: هو (ابوبکر) من أکابر المجتهدين بل هو أعلم الصحابة علي الاطلاق للادلة الواضحة علي ذلک منها: ما أخرجه البخاري وغيره ان عمر في صلح الحديبية سأل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن ذلک الصلح وقال: علام نعطي الدنية في ديننا فأجابه النبي صلي الله عليه وسلم ثم ذهب ألي أبي بکر فسأله عما سأل عنه صلي الله عليه وسلم من غير أن يعلم بجواب النبي صلي الله عليه وسلم فأجابه بمثل ذلک الجواب سواء بسواء. ا ه.

يوهم ابن حجر ان هناک معضلة کشفها أبوبکر، او عويصة من العلوم حلها مما يعد الخوض فيه من الادلة الواضحة علي أعلمية صاحبه من الصحابة علي الاطلاق فليفعل ابن حجر ما شاء فأن نظارة التنقيب رقيبة عليه، والله من وراءه حسيب.(المظهر الثالث) ومن الادلة الواضحة عند ابن حجر علي ان الخليفة أعلم الصحابة علي الاطلاق ما روي في الصواعق ص 19 عن عايشة مرسلا انها قالت. لما توفي رسول الله صلي الله عليه وسلم: اشرأب النفاق، أي رفع رأسه، وارتدت العرب، وانحازت الانصار، فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها، اي فتتها، فما اختلفوا في لفظة إلاطار أبي بعبأها وفصلها، قالوا: أين ندفن رسول الله صلي الله عليه وسلم؟ فما وجدنا عند أحد في ذلک علما فقال أبوبکر: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: ما من نبي يقبض إلا فن تحت مضجعه الذي مات فيه.

[صفحه 187]

واختلفوا في ميراثه فما وجدنا عند أحد في ذلک علما فقال أبوبکر: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: إنا معشر الانبياء لا نورث ما ترکنا صدقة. ثم قال: قال بعضهم: وهذا أول اختلاف وقع بين الصحابة فقال بعضهم: ندفنه بمکة مولده ومنشأه، وبعضهم بمسجده، وبعضهم بالبقيع، وبعضهم ببيت المقدس مدفن الانبياء، حتي أخبرهم أبوبکر بما عنده من العلم، قال ابن زنجويه: وهذه سنة تفرد بها الصديق من بين المهاجرين والانصار ورجعوا اليه فيها. قال الاميني: غاية ما في هذه المرسلة عن عايشة أن أبابکر روي حديثين عن رسول الله صلي الله عليه وآله شذت روايتهما عن الحضور في ذينک الموقفين، فان يکن بهما أبوبکر أعلم الصحابة علي الاطلاق حتي من لم يحضرهما ولو بنحو من التهجم والرجم بالغيب. فکيف بمن روي آلافا مؤلفة من الاحاديث شذت عن أبي بکر روايتها جمعاء أو رواية أکثرها؟ و مع ذلک لا يعد أحد منهم أعلم الصحابة أو أعلم من أبي بکر علي الاقل.

أليس هو صاحب نادرة الاب والکلالة والجد والجدتين إلي نوادر اخري؟ أليس هو الآخذ بالسنة الشريفة من نظراء المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة وعبدالرحمن بن سهيل إلي اناس آخرين عاديين؟

کأن ابن حجر يقيس الناس إلي نفسه ويحسبهم ولا يد حجر لا يعقلون شيئا و هم يسمعون، ألا يقول الرجل ما الذي فهمه الصحابة من هتاف رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يوم هتف بقوله:

1- ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة قوله صلي الله عليه وآله:

2- ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة. وقوله صلي الله عليه وآله:

3- ما بين حجرتي إلي منبري روضة من رياض الجنة. وقوله صلي الله عليه وآله: 4- ما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة وقوله صلي الله عليه وآله:5- من سره أن يصلي في روضة من رياض الجنة فليصل بين قبري ومنبري؟

وهذه الاحاديث أخرجها باللفظ الاول البخاري[6] وأحمد، وعبدالرزاق،

[صفحه 188]

وسعيد بن المنصور، والبيهقي في شعب الايمان، والخطيب، والبزار، والطبراني، و الدارقطني، وأبونعيم، وسمويه، وابن عساکر من طريق جابر، وسعد بن أبي وقاص، و عبدالله بن عمر، وأبي سعيد الخدري.

راجع تاريخ الخطيب 290 و 228:11، إرشاد الساري للقسطلاني 413:4.

وصحح إسناد البزار وقال: عند البزار بسند رجاله ثقات، کنز العمال 254:6، شرح النووي لمسلم هامش الارشاد 103:6 تحفة الباري في ذيل الارشاد 412:4، وحکاه السمهودي في وفاء الوفا 303:1 عن الصحيحين، وصححه من طريق البزار.وأخرجها باللفظ الثاني البخاري، ومسلم، والترمذي، وأحمد، والدارقطني، و أبويعلي، والبزار، والنسائي، وعبدالرزاق، والطبراني، وابن النجار، من طريق جابر وعبدالله بن عمر، وعبدالله المازني، وأبي بکر.

راجع صحيح البخاري کتاب الصلاة: باب فضل ما بين القبر والمنبر وکتاب الحج، وصحيح مسلم کتاب الحج، باب: فضل ما بين قبره صلي الله عليه وسلم ومنبره، تيسير الوصول 323:3، تمييز الطيب ص 139، فقال: متفق عليه، کنوز الدقائق ص 129، کنز العمال 254:6، الجامع الصغير وصححه وقال: حديث متواتر کما في الفيض القدير 433:5، تحفة الباري في ذيل الارشاد 412:4، وفاء الوفا 303 و 302:1 وصححه باسناد أحمد والبزار.

وأخرجه باللفظ الثالث أحمد، والشاشي، وسعيد بن منصور، والخطيب من طريق جابر وعبدالله المازني کما في تاريخ الخطيب 360:3، وکنز العمال 254 و 6، وشرح النووي لمسلم هامش الارشاد 103:6.

واللفظ الرابع تجده في الاوسط للطبراني من طريق أبي سعيد الخدري کما في ارشاد الساري 413.4، ووفاء الوفا 303:1.

والخامس منها أخرجه الديلمي من طريق عبيدالله بن لبيد کما في کنز العمال 6 ص 254.

وقال ابن أبي الحديد في شرحه 193:3: قلت: کيف اختلفوا في موضع دفنه وقد قال لهم: فضعوني علي سريري في بيتي هذا علي شفير قبري. وهذا تصريح بانه

[صفحه 189]

دفن في البيت الذي جمعهم فيه وهو بيت عايشة ا ه.

وهذا الحديث أخرجه ابن سعد، وابن منيع، والحاکم، والبيهقي، والطبراني في الاوسط من طريق ابن مسعود کما في الخصايص الکبري للحافظ السيوطي 276:2. أيري ابن حجر ان الصحابة بعد تلکم الاحاديث کانوا غير عارفين تلک الروضة المقدسة التي أنبأهم بها نبيهم الاقدس، وأمرهم بالصلاة عليها؟ أو يراهم إنهم عرفوا القبر والمنبر وما بينهما من الروضة، ووقفوا علي حدودها من کثب أخذا منه صلي الله عليه وآله ثم اختلفوا في المدفن الشريف، فباح به أبوبکر فأصبح بذلک أعلمهم علي الاطلاق؟

علي انه لو صحت رواية الدفن لوجب أن يبوح بها رسول الله صلي الله عليه وآله لمن أوصاه بغسله ودفنه[7] لمن ولي غسله وکفنه وإجنانه[8] لمن يعلم أنه يباشر دفنه ويلي إجنانه في منتصف الليل من دون حضور غير أهله کما مر في ص 75 لا الذي يغيب عن ذلک المشهد، وغلبت علي أجفانه عند ذاک سنة الکري، وتعيين المدفن من أهم ما يوصي به عند کل أحد فضلا عن سيد البشر، وهذا الاعتبار يعاضد ما أخرجه أبويعلي من حديث عايشه ايضا وإن يعارض حديثها عن أبيها قالت: اختلفوا في دفنه (صلي الله عليه وآله)فقال علي: إن أحب البقاع إلي الله مکان قبض فيه نبيه.

(الخصايص الکبري 278:2) ولعل تجاه هذا الحديث أختلفت رواية الدفن.

ولو کان عند دفن جثمان القداسة حوار کما نصفه ابن حجر لتناقلته الالسن و تداولته السير والمدونات نقلا عن الصحابة الحضور يوم ذاک الواقفين علي الجلبة، و المستمعين للغط، ولما اختصت بوصفه صفحات الصواعق أو ما يشاکله من کتب المتأخرين ولا تفردت برواية شيئ منها عائشة، وکيف تفردت بها؟ وهي التي تقول: ما علمنا بدفن رسول الله صلي الله عليه وسلم حتي سمعنا صوت المساحي من جوف الليل.[9] .

ثم إن أول مفند لهذه السنة المزعوم إطرادها هو مدفن أول الانبياء آدم عليه السلام فإنه توفي بمکة ودفن عند الجبل الذي اهبط منه في الهند،، وقيل بجبل

[صفحه 190]

أبي قبيس بمکة[10] .

وقد اشتري إبراهيم الخليل علي نبينا وآله وعليه السلام مغارة في حبرون[11] من عفرون بن صخر فدفن فيها سارة ثم دفن فيها هو وإبنه اسحاق. وتوفي يعقوب عليه السلام في مصر واستأذن يوسف سلام الله عليه ملک مصر في الخروج مع أبيه ليدفنه عند أهله فأذن له وخرج معه أکابر مصر فدفنه في المغارة بحبرون.[12] .

(المظهر الرابع) أما رواية الارث فسرعان ما ناقض ابن حجر فيها نفسه فتراه يحسب ها هنا في ص 19: أنها مختصة بأبي بکر وهي من الادلة الواضحة علي أعلميته، وهو يعتقد في صفحة 21: انه رواها علي والعباس وعثمان وعبدالرحمن بن عوف والزبير وسعد وأمهات المؤمنين وقال: کلهم کانوا يعلمون أن النبي صلي الله عليه وسلم قال ذلک: وإن أبابکر إنما انفرد باستحضاره أولا ثم استحضره المباقون.

ما هذا التهافت بين کلامي الرجل؟ وما أذهله أخيرا عما جاء به أولا؟ وهل الاعلمية مترشحة من محض الاستحضار أولا؟ أو السبق إلي الهتاف به؟ وکل منهما کما تري لا يفيد مزية إلا في الحفظ دون العلم.

ثم لو کان رسول الله صلي الله عليه وآله قال ذلک لوجب أن يفشيه إلي آله وذويه الذين يدعون الوراثة منه ليقطع معاذيرهم في ذلک بالتمسک بعمومات الارث من آي القرآن الکريم والسنة الشريفة، فلا يکون هناک صخب وحوار تتعقبهما محن وإحن ولا تموت بضعته الطاهرة وهي واجدة علي أصحاب أبيها[13] ويکون ذلک کله مثارا للبغضاء والعداء في الاجيال المتعاقبة بين أشياع کل من الفريقين وقد بعث هو صلي الله عليه وآله لکسح تلکم المعرات وعقد الاخاء بين الامم والافراد.

ألم يکن صلي الله عليه وآله علي بصيرة مما يحدث بعده من الفتن الناشئة من عدم ايقاف

[صفحه 191]

أهله وذويه علي هذا الحکم المختص به صلي الله عليه وآله المخصص لشرعة الارث؟حاشاه. و عنده علم المنايا والبلايا والقضايا والفتن والملاحم.

وهل تري أن دعوي الصديق الاکبر أميرالمؤمنين وحليلته الصديقة الکبري. صلوات الله عليهما وآلهما علي أبي بکر ما استولت عليه يده مما ترکه النبي صلي الله عليه وآله من ماله کانت بعد علم وتصديق منهما بتلک السنة المزعومة صفحا منهما عنها لاقتناء حطام الدنيا؟ أو کانت عن جهل منهما بما جاء به أبوبکر؟ نحن نقدس ساحتهما (أخذا بالکتاب والسنة) عن علم بسنة ثابتة والصفح عنها، وعن جهل يربکهما في الميزان.

ولماذا يصدق أبوبکر في دعواه الشاذة عن الکتاب والسنة، فيما لا يعلم إلا من قبل ورثته صلي الله عليه وآله ووصيه الذي هتف صلي الله عليه وآله وسلم به وبوصايته من بدء دعوته في الاندية والمجتمعات؟[14] ولم تکن اذن واعية لدعوي الصديقة وزوجها الطاهر بکون فدک نحلة لها من رسول الله صلي الله عليه وآله وهي لا تعلم إلا من قبلهما؟ قال مالک بن جعونة عن أبيه انه قال: قالت فاطمة لابي بکر: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم جعل لي فدک فاعطني إياها، و شهد لها علي بن أبي طالب، فسألها شاهدا آخر فشهدت لها ام أيمن: فقال: قد علمت يا بنت رسول الله انه لا تجوز إلا رجلين أو رجل وامرأتين وانصرفت.

وفي رواية خالد بن طهمان: إن فاطمة رضي الله عنها قالت لابي بکر رضي الله عنه: اعطني فدک فقد جعلها رسول الله صلي الله عليه وسلم لي فسألها البينة فجاءت بام أيمن ورباح مولي النبي صلي الله عليه وسلم فشهد لها بذلک فقال: إن هذا الامر لا تجوز فيه إلا شهادة رجل وامرأتين.[15] .

ثم مم کان غضب الصديقة الطاهرة سلام الله عليها؟ وهي التي جاء فيها عن أبيها الاقدس: ان الله يرضي لرضاها ويغضب لغضبها[16] أمن حکم صدع به والدها وما ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحي؟ وحاشاها، أم لان ذلک الحکم البات رواه عنه صديق أمين يريد بث حکم الشريعة وتنفيذه وهي مصدقة له؟ نحاشي ساحة البضعة

[صفحه 192]

الطاهرة بنص آية التطهير عن هذه الخزاية، فلم يبق إلا شق ثالث وهو: إنها کانت تتهم الراوي، أو تعتقد خللا في الرواية، وتراه حکما خلاف الکتاب والسنة، وهذا الذي دعاها إلي أن لاثت خمارها علي رأسها، واشتملت بجلبا بها، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله، حتي دخلت علي أبي بکر وهو في حشد من المهاجرين والانصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة، ثم أنت أنه أجهش لها القوم بالبکاء، وارتج المجلس، ثم مهلت هنيهة حتي إذا سکن نشيج القوم، وهدأت فورتهم، إفتتحت کلامها بالحمد لله عزوجل والثناء عليه والصلاة علي رسول الله صلي الله عليه وآله. ثم قالت ما قالت وفيما قالت: أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، أفحکم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حکما لقوم يوقنون؟ يابن أبي قحافة أترث أباک ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا، فدونکها مخطومة مرحولة تلقاک يوم حشرک، فنعم الحکم الله،والزعيم محمد، والوعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون. ثم انکفأت إلي قبر أبيها صلي الله عليه وآله فقالت:


قد کان بعدک أنباء وهنبثة
لو کنت شاهدها لم تکثر الخطب


إنا فقدناک فقد الارض وابلها
واختل قومک فاشهدهم ولا تغب


فليت بعدک کان الموت صادفنا
لما قضيت وحالت دونک الکثب[17] .


وهذا الذي ترکها غضباء علي من خالفها وتدعو عليه بعد کل صلاة حتي لفظت نفسها الاخيرة صلي الله عليها کما سيوافيک تفصيله.

وهل هذا الحکم مطرد بين الانبياء جميعا؟ أو أنه من خاصة نبينا صلي الله عليه وآله وسلم؟ والاول ينقضه الکتاب العزيز بقوله تعالي: وورث سليمان داود- النمل 16- و قوله سبحانه عن زکريا: فهب لي من لدنک وليا يرثني ويرث من آل يعقوب مريم 6-.

ومن المعلوم أن حقيقة الميراث إنتقال ملک الموروث إلي ورثته بعد موته بحکم المولي سبحانه، فحمل الآية الکريمة علي العلم والنبوة کما فعله القوم خلاف الظاهر لان النبوة والعلم لا يورثان، والنبوة تابعة للمصلحة العامة، مقدرة لاهلها من أول

[صفحه 193]

يومها عند بارئها، والله أعلم حيث يجعل رسالته، ولا مدخل للنسب فيها کما لا أثر للدعاء والمسألة في اختيار الله تعالي أحدا من عباده نبيا والعلم موقوف عي من يتعرض له ويتعلمه.

علي ان زکريا سلام الله عليه إنما سأل وليا من ولده يحجب مواليه «کما هو صريح الآية» من بني عمه وعصبته من الميراث، وذلک لا يليق إلا بالمال، ولا معني لحجب الموالي عن النبوة والعلم

ثم إن إشتراطه عليه السلام في وليه الوارث کونه رضيا بقوله: واجعله رب رضيا.لا يليق بالنبوة، إذا العصمة والقداسة في النفسيات والملکات لا تفارق الانبياء، فلا محصل عندئذ لمسألته ذلک. نعم يتم هذا في المال ومن يرثه فإن وارثه قد يکون رضيا وقد لا يکون.

وأما کون الحکم من خاصة رسول الله صلي الله عليه وآله فالقول به يستلزم تخصيص عموم آي الارث مثل قوله تعالي: يوصيکم الله في أولادکم للذکر مثل حظ الانثيين «النساء 11» وقوله سبحانه: وأولوا الارحام بعضهم أولي ببعض في کتاب الله «الانفال 75» وقوله العزيز: إن ترک خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف «البقرة 180» ولا يسوغ تخصيص الکتاب إلا بدليل ثابت مقطوع عليه لا بالخبر الواحد الذي لم يصح الاخذ بعموم ظاهره لمخالفته ما ثبت من سيرة الانبياء الماضين صلوات الله علي نبينا وآله وعليهم.

لا بالخبر الواحد الذي لم يخبت إليه صديقة الامة وصديقها الذي ورث علم نبيها الاقدس، وعده المولي سبحانه في الکتاب نفسا لنبيه صلي الله عليهما وآلهما.

لا بالخبر الواحد الذي لم ينبأ عنه قط خبير من الامة وفي مقدمها العترة الطاهرة وقد اختص الحکم بهم وهم الذين زحزحوا به عن حکم الکتاب والسنة الشريفة. وحرموا من وراثة أبيهم الطاهر، وکان حقا عليه صلي الله عليه وآله أن يخبرهم بذلک، ولا يأخر بيانه عن وقت حاجتهم، ولا يکتمه في نفسه عن کل أهله وذويه وصاحبته وامته إلي آخر نفس لفظه.

لا بالخبر الواحد الذي جر علي الامة کل هذه المحن والاحن، وفتح عليها

[صفحه 194]

باب العداء المحتدم بمصراعيه، وأجج فيها نيران البغضاء والشحناء في قرونها الخالية، وشق عصا المسلمين من اول يومهم، وأقلق من بينهم السلام والوئام وتوحيد الکلمة.جزي الله محدثه عن الامة خيرا.

ثم إن کان أبوبکر علي ثقة من حديثه فلم ناقضه بکتاب کتبه لفاطمة الصديقة سلام الله عليها، بفدک؟ غير أن عمر بن الخطاب دخل عليه فقال: ما هذا؟ فقال:کتاب کتبته لفاطمة بميراثها من أبيها. فقال: مما ذا تنفق، علي المسلمين وقد حاربتک العرب کما تري؟ ثم أخذ عمر الکتاب فشقه، ذکره سبط ابن الجوزي کما في السيرة الحلبية 391:3. وإن کان صح الخبر وکان الخليفة مصدقا فيما جاء به فما تلکم الآراء المتضاربة بعد الخليفة؟ وإليک شطرا منها:

1- لما ولي عمر بن الخطاب الخلافة رد فدکا إلي ورثة رسول الله صلي الله عليه وآله فکان علي بن أبي طالب والعباس بن عبدالمطلب يتنازعان فيها. فکان علي يقول: إن رسول الله صلي الله عليه وآله جعلها في حياته لفاطمة. وکان العباس يأبي ذلک ويقول: هي ملک رسول الله و أنا وارثه. فکانا يتخاصمان إلي عمر، فيأبي أن يحکم بينهما ويقول: أنتما أعرف بشأنکما أما أنا فقد سلمتها إليکما.

راجع صحيح البخاري کتاب الجهاد السير باب فرض الخمس ج 3: 5 تا 10، صحيح مسلم کتاب الجهاد والسير، باب: حکم الفئ، الاموال لابي عبيد ص 11 ذکر حديث البخاري وبتره، سنن البيهقي 299:6، معجم البلدان 343:6، تفسير ابن کثير 335:4، تاريخ ابن کثير 288:5، تاج العروس 166:7.

(لفت نظر) نحن لا نناقش فيما نجده من المخازي في أحاديث الباب کأصل التنازع المزعوم بين علي والعباس، وما جاء في لفظ مسلم في صحيحه من قول العباس لعمر:يا أميرالمؤمنين اقض بيني وبين هذا الکاذب الآثم الغادر الخائن.

أهکذا کان العباس يقذف سيد العترة الطاهر المطهر بهذا السباب المقذع وبين يديه آية التطهير وغيرها مما نزل في علي أميرالمؤمنين في آي الکتاب العزيز؟فما العباس وما خطره عندئذ؟ وبماذا يحکم عليه أخذا بقول النبي الطاهر؟ من سب عليا فقد سبني، و

[صفحه 195]

من سبني فقد سب الله، ومن سب الله کبه الله علي منخريه في النار؟[18] .

لاها الله نحن نحاشي العباس عن هذه النسب المخزية، ونري القوم راقهم سب مولانا أميرالمؤمنين فنحتوا هذه الاحاديث وجعلوها للنيل منه قنطرة ومعذرة والله يعلم ما تکن صدورهم وما يعلنون. وإلي الله المشتکي.

2- أقطع مروان بن الحکم فدکا في أيام عثمان بن عفان کما في سنن البيهقي 6:301 وما کان إلا بأمر من الخليفة.

3- لما ولي معاوية بن أبي سفيان الامر أقطع مروان بن الحکم ثلث الفدک، وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها، وأقطع يزيد بن معاوية ثلثها، وذلک بعد موت الحسن بن علي فلم يزالوا يتداولونها حتي خلصت لمروان بن الحکم أيام خلافته فوهبها لعبد العزيز إبنه فوهبها عبدالعزيز لابنه عمر بن عبدالعزيز. 4- ولما ولي عمر بن عبدالعزيز الخلافة خطب فقال: إن فدک کانت مما أفاء الله علي رسوله ولم يوجف المسلمون عليه بخيل ولارکاب فسألته إياها فاطمة فقال: ما کان لک أن تسأليني وما کان لي أن أعطيک فکان يضع ما يأتيه منها في أبناء السبيل، ثم ولي أبوبکر وعمر وعثمان وعلي فوضعوا ذلک بحيث وضعه رسول الله صلي الله عليه وسلم ثم ولي معاوية فأقطعها مروان بن الحکم فوهبها مروان لابي ولعبدالملک فصارت لي وللوليد وسليمان فلما ولي الوليد سألته حصته منها فوهبها لي، وسألت سليمان حصته منها فوهبها لي فاستجمعتها، وما کان لي من مال أحب إلي منها، فاشهدوا أني قد رددتها إلي ما کانت عليه.

5- فکانت فدک بيد أولاد فاطمة مدة ولاية عمر بن عبدالعزيز فلما ولي يزيد بن عبدالملک قبضهامنهم فصارت في أيدي بني مروان کما کانت يتداولونها حتي انتقلت الخلافة عنهم.

6- ولما ولي أبوالعباس السفاح ردها علي عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي أميرالمؤمنين.

7- ثم لما ولي أبوجعفرالمنصور قبضها من بني حسن.

[صفحه 196]

8- ثم ردها المهدي بن المنصور علي ولد فاطمة سلام الله عليها.

9- ثم قبضها موسي بن المهدي وأخوه من أيدي بني فاطمة فلم تزل في أيديهم حتي ولي المأمون.

10- ردها المأمون علي الفاطميين سنة 210 وکتب بذلک إلي قثم بن جعفر عامله علي المدينة:

أما بعد: فإن أميرالمؤمنين بمکانه من دين الله وخلافة رسول الله صلي الله عليه وسلم والقرابة به، أولي من استن بسنته، ونفذ أمره، وسلم لمن منحه منحة،وتصدق عليه بصدقة منحته وصدقته وبالله توفيق أميرالمؤمنين وعصمته، وإليه- في العمل بما يقربه إليه- رغبته، وقد کان رسول الله صلي الله عليه وسلم أعطي فاطمة بنت رسول الله فدک، وتصدق بها عليها، وکان ذلک أمرا ظاهرا معروفا لا اختلاف فيه بين آل رسول الله صلي الله عليه وسلم، لم تزل تدعي منه ما هو أولي به من صدق عليه، فرأي أميرالمؤمنين أن يردها إلي ورثتها، ويسلمها إليهم تقربا إلي الله تعالي باقامة حقه وعدله، وإلي رسول الله صلي الله عليه وسلم بتنقيذ أمره وصدقته، فأمر باثبات ذلک في دواوينه، والکتاب إلي عماله، فلئن کان ينادي في کل موسم بعد أن قبض نبيه صلي الله عليه وسلم أن يذکر کل من کانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلک، فيقبل قوله، وتنفذ عدته، إن فاطمة رضي الله عنها لاولي بأن يصدق قولها فيما جعل رسول الله صلي الله عليه وسلم لها.

وقد کتب أميرالمؤمنين إلي المبارک الطبري مولي أميرالمؤمنين يأمره برد فدک علي ورثة فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه وسلم بحدودها وجميع حقوقها المسنوبة اليها، وما فيها من الرقيق والغلات وغير ذلک، وتسليمها إلي محمد بن يحيي بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن عبدالله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، لتولية أميرالمؤمنين إياهما القيام بها لاهلها.

فاعلم ذلک من رأي امير المؤمنين، وما ألهمه الله من طاعته، ووفقه له من التقرب إليه وإلي رسول الله صلي الله عليه وسلم، وأعلمه من قبلک، وعامل محمد بن يحيي ومحمد بن عبدالله بما کنت تعامل به المبارک الطبري، وأعنهما علي ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلاتها إن شاء الله، والسلام.

[صفحه 197]

وکتب يوم الاربعاء لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة 210 ه.

11- ولما استخلف المتوکل علي الله أمر بردها إلي ما کانت عليه قبل المأمون راجع فتوح البلدان للبلاذري ص 39 تا 41، تاريخ اليعقوبي 48:3، العقد الفريد 323:2، معجم البلدان 344:6، تاريخ ابن کثير 200:9 وله هناک تحريف دعته إليه شنشنة أعرفها من أخزم، شرح ابن أبي الحديد 103:4، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 154، جمهرة رسائل العرب 510:3، أعلام النساء 1211:3.

کل هذه تضاد ما جاء به الخليفة من خبره الشاذ عن الکتاب والسنة، فأني لابن حجر ومن لف لفه أن يعده من الادلة الواضحة علي علمه وهذا شأنه، فما لهؤلاء القوم لا يکادون يفقهون حديثا؟.


صفحه 185، 186، 187، 188، 189، 190، 191، 192، 193، 194، 195، 196، 197.








  1. آل عمران. آية: 144.
  2. راجع تاريخ ابن کثير 243:5، شرح المواهب للزرقاني 281. 8.
  3. تاريخ الطبري 3 ص 197، طبقات ابن سعد رقم التسلسل ط مصر: 786، تفسير القرطبي 223:4 عيون الاثر 339:2.
  4. شرح المقاصد للتفتازاني 294:2.
  5. عيون الاثر لابن سيد الناس 339:3.
  6. حکاه الانصاري عن نسخة من صحيحه في تحفة الباري المطبوع في ذيل ارشاد الساري 412:4.
  7. طبقات ابن سعد رقم التسلسل 801 و 798، الخصايص الکبري 277 و 276:2.
  8. طبقات ابن سعد ص 798.
  9. راجع ما مر في 75.
  10. تاريخ الطبري 80:1 و 81 العرائس للثعلبي ص 29، الکامل لابن الاثير 22:1، تاريخ ابن کثير 98:1.
  11. في تاريخ الطبري: جيرون والصحيح: حبرون.
  12. تاريخ الطبري 161:1 و 169، معجم البلدان 208:3، تاريخ ابن کثير 174:1 و 197 و 220.
  13. سيوافيک في هذا الجزء تفصيل ذلک.
  14. راجع الجزء الثاني صفحة 278 ط 2.
  15. فتوح البلدان للبلاذري ص 38.
  16. راجع ج 3 ص 20 وسيأتيک في هذا الجزء.
  17. بلاغات النساء لابن طيفور ص 12، شرح ابن ابي الحديد 93:4، أعلام النساء 1208:3.
  18. مر الايعاز اليه في الجزء الثاني ص 299 ط 2 وسيوافيک تفصيل مصادره انشاء الله.