ثلاثة وثلاثة وثلاثة











ثلاثة وثلاثة وثلاثة



عن عبدالرحمن بن عوف قال: إنه دخل علي أبي بکر الصديق رضي الله عنه في مرضه الذي توفي فيه فأصابه مهتما، فقال له عبدالرحمن: أصبحت والحمد لله بارئا فقال أبوبکر رضي الله عنه: أتراه؟ قال نعم: إني وليت أمرکم خيرکم في نفسي فکلکم ورم أنفه من ذلک يريد أن يکون الامر له دونه، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل وهي مقبلة حتي تتخذوا ستور الحرير، ونضائد الديباج، وتألموا الاضطجاع علي الصوف الاذري کما يألم أحدکم أن ينام علي حسک، والله لان يقدم أحدکم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا، وأنتم أول ضال بالناس غدا فتصدونهم عن الطريق يمينا وشمالا، يا هادي الطريق إنما هو الفجر أو البحر. فقلت له: خفض عليک رحمک الله، فإن هذا يهيضک في أمرک، إنما الناس في أمرک بين رجلين: إما رجل رأي ما رأيت فهو معک. وإما رجل خالفک فهو مشير عليک وصاحبک کما تحب، ولا نعلمک أردت إلاخيرا، ولم تزل صالحا مصلحا، وإنک لا تأسي علي شيئ من الدنيا. قال أبوبکر رضي الله عنه: أجل أني لا آسي علي شيئ من الدنيا إلا علي ثلاث فعلتهن وددت اني ترکتهن. وثلاث ترکتهن وددت اني فعلتهن. وثلاث وددت اني سألت عنهن رسول الله صلي الله عليه وسلم.

فأما الثلاث اللاتي وددت اني ترکتهن: فوددت اني لم أکشف بيت فاطمة عن شئ وإن کانوا قد غلقوه علي الحرب. ووددت اني لم أکن حرقت الفجاءة السلمي وأني کنت قتلته سريحا، أو خليته نجيحا. ووددت إني يوم سقيفة بني ساعدة کنت قذفت الامر في عنق أحد الرجلين- يريد عمر وأباعبيدة- فکان أحدهما أميرا وکنت وزيرا وأما اللاتي ترکتهن فوددت اني يوم أتيت بالاشعث بن قيس أسيرا کنت ضربت عنقه، فإنه تخيل إلي انه لا يري شرا إلا أعان عليه. ووددت اني حين سيرت خالد بن الوليد إلي أهل الردة کنت أقمت بذي القصة فإن ظفر المسلمون ظفروا،وإن

[صفحه 171]

هزموا کنت بصدد لقاء أو مدد. ووددت اني إذا وجهت خالد بن الوليد إلي الشام کنت وجهت عمر بن الخطاب إلي العراق، فکنت قد بسطت يدي کلتيهما في سبيل الله ومد يديه.

ووددت اني کنت سألت رسول الله صلي الله عليه وسلم لمن هذا الامر؟ فلا ينازعه أحد، ووددت اني کنت سألته هل للانصار في هذا الامر نصيب؟ ووددت اني کنت سألته عن ميراث ابنة الاخ والعمة فإن في نفسي منهما شيئا.

أخرجه أبوعبيد في الاموال ص 131، والطبري في تاريخه 4 ص 52، وابن قتيبة في الامامة والسياسة 1 ص 18، والمسعودي في مروج الذهب 414:1، وابن عبد ربه في السد الفريد 2:254.

والاسناد صحيح رجاله کلهم ثقات ربعة منهم من رجال الصحاح الست. قال الاميني:إن في هذا الحديث امورا تسعة، ثلاثة منها فات الخليفة فقهها يوم عمل بها، وقد بسطنا القول في إحراق الفجاءة منها.

وأما تمني قذف الامر في عنق أحد الرجلين فإنه ينم عن أن الخليفة انکشف له في اخريات أيامه ان ماناء به من الامر لم يکن علي القانون الشرعي في الخلافة والوصية، لان المخلف والموصي يجب أن يکون هو المعين لمن ينهض بأمره من بعده، وهو الذي تنبه له الخليفة الثاني بعد ردح من الزمن فقال: کانت بيعة أبي بکر فلتة کفلتة الجاهلية وقي الله شرها فمن عاد إلي مثلها فاقتلوه.[1] .

ولا أدري أن ما تنبها له هل هو قصور في المختار «بالفتح» أو فيه «بالکسر» أو فيهما معا؟ أو في کون الاختيار موجبا لتعيين الخليفة؟ وأيا ما أراد فلنا فيه المخرج. وهؤلاء زمر الانبياء والرسل لم يعدهم التنصيص بالخليفة من بعدهم، ولن انتخبت اممهم خلفاء لهم.

وهل هنا لک ذو حجي يزعم أن وصاية الفقيد المبيحة للتصرف فيما ترکه من بعده موکولة إلي اناس أجانب لا يعرفون ما يرتأيه في شئونه، بعداء عن مغازيه وما يروقه في ماله وأهله، والفقيد عاقل رشيد يعرف الصالح من غيره، ويعلم بنوايا من

[صفحه 172]

يلتاث به، ومن يحدوه الجشع، وترقل به النهمة، ويستفزه الطمع، أفتراه والحالة هذه يترک الوصية؟ فيدع ما ترکه اکلة للآکل؟ ومطمعا للناهب؟ لا.

لا يفعل ذلک وهو يريد خيرا بآله وصلاحا في ماله، وعلي ذلک جرت سنة المسلمين منذ عهد الصحابة إلي يومنا الحاضر، وأقرته الشريعة الاسلامية، وشرعت للوصايا أحکاما، وجاء في الصحيحين[2] عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم انه قال: ما حق امرئ مسلم له شئ يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مکتوبة عنده. کذا في لفظ البخاري، وفي لفظ مسلم: يبيت ثلاث ليال، قال ابن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم قال ذلک إلا وعندي وصيتي. قال النووي في رياض الصالحين 156: متفق عليه.


وصي الاله وأوصت رسله فلذا
کان التأسي بهم من أفضل العمل


لولا الوصية کان الخلق في عمه
وبالوصية دام الملک في الدول


فاعمل عليها ولا تهمل طريقتها
إن الوصية حکم الله في الازل


ذکرت قوما بما أوصي الاله به
وليس إحداث أمر في الوصية لي[3] .


فإذا کانت الوصية ثابتة في حطام زائل؟ فما بالها تنفي في خلافة راشدة، وشريعة خالدة، مکتفلة بصلاح النفوس والنواميس والاموال والاحکام والاخلاق والصالح العام والسلام والوئام؟ ومن المسلم قصور الفهم البشري العادي عن غايات تلکم الشئون فلا منتدح والحالة هذه عن أن يعين الرسول الامين عن ربه خليفته من بعده ليقتص أثره في امته.

وقد مر في صفحة 132 رأي عائشة وعبدالله بن عمر ومعاوية وحديث الناس بأن راعي إبل أو غنم أو قيم أرض لاي أحد لا يسعهم ترک رعيتهم هملا، ورعية الناس أشد من رعية الابل والغنم فالامة لماذا صفحت يوم السقيفة عن هذا الحکم المتسالم عليه بينها؟ ولماذا نبأت عنه الاسماع؟ وخرست الالسن؟ وذهلت الاحلام عنه يوم ذاک، ثم حدث به الناس ونبأته الامة؟ ولماذا ترک النبي صلي الله عليه وسلم امته سدي هملا؟ وفتح بذلک أبواب الفتن المضلة المدلهمة؟ واستحقر امته ورأي

[صفحه 173]

رعيتها أهون من رعية الابل والغنم؟ حاشا النبي الاعظم عن هذه الاوهام، فإنه صلي الله عليه وآله وصي واستخلف ونص علي خليفته وبلغ امته غير أنه عهد إلي وصيه من بعده: ان الامة ستغدر به بعده کما ورد في الصحيح[4] وقال له ايضا: أما إنک ستلقي بعدي جهدا، قال (علي): في سلامة من ديني؟ قال: في سلامة من دينک[5] و قال لعلي: ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها إلا من بعدي[6] وقال له: يا علي إنک ستبتلي بعدي فلا تقاتلن.

«کنوز الدقائق للمناوي ص 188»

ثم إن الخليفة النادم لماذا تمني التسلل عن الامر يوم السقيفة؟ وقذفه في عنق أحد الرجلين: أبي عبيدة أو عمر؟ أکان ندمه عن حق وقع؟ فالحق لا ندم فيه.و إن کان عن باطل سبق؟ فهو يهدم أساس الخلافة الراشدة.

ثم الذي وده من قذفه إلي عنق أحد الرجلين فإنا لا نعرف وجها لتخصيصهما بالقذف وفي الصحابة أعاظم وذو وفضائل لا يبلغ الرجلان شأو أي منهم، وهذان بالنظر إلي ما عرفناه من أحوال الصحابة إن لم نقل إنهما من ساقتهم، فإنا نقول بکل صراحة إنهما لم يکونا من الاعالي منهم وفيهم من فيهم، وقبل جميعهم سيدنا أميرالمؤمنين عليه السلام صاحب السوابق والمناقب والصهر والقرابة والغناء والعناء، وصاحب يوم الغدير، والايام المشهودة، والمواقف المشهورة، نفس النبي الاعظم بنص من الکتاب العزيز[7] المطهر من کل رجس بآية التطهير.[8] .

فهلا ود أن يقدفه إليه؟ فيسير بالامة سيرا سجحا، ويحملهم علي المحجة البيضاء، ويأخذ بهم الطريق المستقيم، ويجدونه هاديا مهديا، يدخلهم الجنة. کما أخبر بهذه کلها النبي الاعظم صلي الله عليه وآله وقد مر شطر منها في الجزء الاول صفحه 13 و 12 ط 2.

[صفحه 174]

وأما کشف بيت فاطمة سلام الله عليها فانه لا يروقنا ها هنا خدش العواطف بتلکم النوائب، غير انه سبقت منا بعض القول في الجزء الثالث ص 104 -102 ط2 وفي هذا الجزء ص86 و 77.

وفذلکة ذلک النبأ العظيم أن الصديقة سلام الله عليها قضت وهي واجدة علي من ارتکبه، وکانت صلوات الله عليها تدعو عليه بعد کل صلاة صلتها.[9] .

وإن تعجب فعجب ان القوم ارتکب ما ارتکب من تلکم الفظايع وارتبک فيها وملا الاسماع هتاف النبي صلي الله عليه وآله بقوله: من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي بضعة مني، هي قلبي وروحي التي بين جنبي، فمن آذاها فقد آذاني.بقوله: فاظمة بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها.

وبقوله: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني. وبقوله: فاطمة بضعة مني بقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها.[10] .

وبقوله: فاطمة بضعة مني يسرني ما يسرها.[11] .

وبقوله: يا فاطمة إن الله يغضب لغضبک، ويرضي لرضاک.[12] .

وبهذا الهتاف تعلم أن ندم الخليفة کان في محله، غير أنه ندم ولات حين مندم، ندم وقد قضي الامر ووقع ما وقع، ندم والصديقة الطاهرة مقبورة وملا اهابها موجدة.


صفحه 171، 172، 173، 174.








  1. راجع الجزء الخامس ص 370 ط 2 وهذا الجزء ص 79.
  2. صحيح البخاري 2:4 کتاب الوصية، وصحيح مسلم 10:2.
  3. الجزء الاخير من الفتوحات المکية لابن العربي ص 575.
  4. مستدرک الحاکم 140:3 و 142، وصححه هو والذهبي في تلخيصه، تاريخ الخطيب 11 ص 216، تاريخ ابن کثير 219:6، کنز العمال 157:6.
  5. مستدرک الحاکم 140:3 وصححه هو واقره الذهبي.
  6. اخرجه ابن عساکر، والمحب الطبري في الرياض 210:2 نقلا عن احمد في المناقب والحافظ الکنجي في الکفاية ص 142،والخوارزمي في المقتل 36:1.
  7. بآية المباهلة في سورة آل عمران: 61.
  8. في سورة الاحزاب: 33.
  9. الامامة والسياسة 14:1، رسائل الجاحظ ص 301، أعلام النساء 3 ص 1215.
  10. راجع الجزء الثالث من کتابنا هذا ص 20، وسنوقفک علي تفصيلها في هذا الجزء انشاء الله.
  11. الاغاني 156:8.
  12. راجع الجزء الثالث من کتابنا هذا ص 180 ط 2، وسنفصل فيه القول انشاء الله.