الناحية الثانية











الناحية الثانية



الثانية من الناحيتين التي يهمنا أن نولي شطرها وجه البحث تسليط الخليفة أولا أمثال خالد وضرار بن الازور وشارب الخمور وصاحب الفجور.[1] علي الانفس والدماء، علي الاعراض ونواميس الاسلام، وعهده إلي جيوشه في حرق أهل الردة

[صفحه 166]

وقد عرفت النهي عنه في السنة الشريفة ص 155. وصفحه ثانيا عن تلکم الطامات والجنايات الفاحشة کأن لم تکن شيئا مذکورا، فما سمعت أذن الدنيا منه حولها رکزا، وما حکيت عنه في الانکار عليها ذأمة، وما رأي أحد منه حولا.

لم لم يؤاخذ الخليفة خالدا بقتل مالک وصحبه المسلمين الابرياء، وقد ثبت عنده کما يلوح ذلک عن دفاعه عنه ومحاماته عليه؟

لم لم يقتص منه قصاص القاتل؟ ولم يقم عليه جلدة الزاني؟ ولم يضربه حد المفتري؟ ولم يعزره تعزيز المعتدي علي ما ملکته أيدي اولئک المسلمين؟

لم لم ير عزل خالد وقد کره ما فعله، وعرض الدية علي متمم بن نويرة أخي مالک؟وأمر خالدا بطلاق امرأة مالک کما في الاصابه 1 ص 415؟

دع هذه کلها ولا أقل من الامر بالمعروف والنهي عن المنکر، وتوبيخ الرجل وعتابه علي تلکم الجرائم، وأقل الانکار کما قال أميرالمؤمنين عليه السلام: أن تلقي أهل المعاصي بوجوه مکفهرة.

ما للخليفة يتلعثم ويتلعذم في الدفاع عن خالد وجناياته؟ فيري تارة انه تأول وأخطأ، ويعتذر اخري بانه سيف من سيوف الله، وينهي عمر بن الخطاب عن الوقيعة فيه، ويأمره بالکف عنه وصرف اللسان عن مغايطته، ويغضب علي أبي قتادة لانکاره علي خالد کما في شرح ابن أبي الحديد 187:4.

ونحن نقتصر في البحث عن هذا الجانب علي توجيه القارئ اليه، ولم نذهب به قصاه، ولم نبتغ فيه مداه، إذ لم نر أحدا تخفي عليه حزازة أي من العذرين، هلا يعلم متشرع في الاسلام ان تلکم الطامات والجرائم الخطيرة لا يتطرق اليها التأول والاجتهاد؟ ولا يسوغ لکل فاعل تارک أن يتترس بأمثالهما في معراته، ويتدرع بها في أحناثه، ولا تدرأ بها الحدود، ولا تطل بها الدماء، ولا تحل بها حرمات الحرائر، و لا يرفض لها حکم الله في الانفس والاعراض والاموال، ولم يضح الحاکم لمدعيها کما ادعي قدامة بن مظعون في شربه الخمر بأنه تأول واجتهد فأقام عمر عليه الحد وجلده ولم يقبل منه العذر. کما في سنن البيهقي 316:8 وغيره.

وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن محارب ين دثار: ان ناسا من أصحاب النبي

[صفحه 167]

صلي الله عليه وآله شربوا الخمر بالشام وقالوا: شربنا لقول الله: ليس علي الذين آمنوا وعملوا. الصالحات جناح فيما طعموا. الآية. فأقام عمر عليهم الحد.[2] .

وجلد أبوعبيدة أبا جندل العاصي بن سهيل وقد شرب الخمر متأولا لقوله تعالي: ليس علي الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا. الآية: کما في الروض الانف للسهيلي 231:2.

وهل يرتاب أحد في أن سيفا سله المولي سبحانه لا يکون فيه قط رهق ولا شغب، ولا تسفک به دماء محرمه، ولا تهتک به حرمات الله، ولا يرهف لنيل الشهوات، ولا ينضي للشبق، ولا يفتک به ناموس الاسلام، ولا يحمله إلا يد اناس طيبين، و رجال نزهين عن الخنابة والعيث والفساد؟

فما خالد وما خطره حتي يهبه الخليفة تلک الفضيلة الرابية ويراه سيفا سله الله علي أعداءه، وهو عدو الله بنص من الخليفة الثاني کما مر في ص 159؟ أليست هذه کلها تحکما وسرفا في الکلام، وزورا في القول، واتخاذ الفضائل في دين الله مهزئة ومجهلة؟

کيف يسعنا أن نعد خالدا سيفا من سيوف الله سله علي أعداءه؟ وقد ورد في ترجمته وهي بين أيدينا: أنه کان جبارا فاتکا، لا يراقب الدين فيما يحمله عليه الغضب وهوي نفسه، ولقد وقع منه في حياة رسول الله صلي الله عليه وآله مع بني جذيمة بالغميصا أعظم مما وقع منه في حق مالک بن نويرة وعفا عنه رسول الله صلي الله عليه وآله بعد أن غضب عليه مدة وأعرض عنه، وذلک العفو هو الذي أطمعه حتي فعل ببني يربوع ما فعل بالبطاح.[3] .

إن کان عفو النبي الاعظم عن الرجل ما غضب عليه وأخذه بذنبه، وأعرض عنه، ردحا من الزمن أطمعه حتي فعل ما فعل، فانظر ماذا يصنع صفح الخليفة عنه من دون أي غضب عليه وإعراض عنه؟ وما الذي يأثر دفاعه عنه من الجرأة والجسارة، في نفس الرجل ونفوس مشاکليه من اناس العيث والفساد، وشعب الشغب والفتن؟

أني لنا أن نري خالدا سيفا سله الله علي أعدائه وفي صفحة التاريخ کتاب أبي بکر

[صفحه 168]

إليه وفيه قوله: لعمري با ابن ام خالد انک لفارغ تنکح النساء وبفناء بيتک دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجفف بعد[4] کتبه إليه لما قال خالد لمجاعة: زوجني ابنتک فقال له مجاعة: مهلا انک قاطع ظهري وظهرک معي عند صاحبک قال: ايها الرجل زوجني فزوجه فبلغ ذلک أبابکر فکتب إليه الکتاب فلما نظر خالد في الکتاب جعل يقول: هذا عمل الاعيسر. يعني عمر بن الخطاب.

وليست هذه بأول قارورة کسرت في الاسلام بيد خالد، وقد صدرت منه لدة هذه الفحشاء المنکرة علي عهد رسول الله صلي الله عليه وآله وتبرأ صلي الله عليه وآله من صنيعه. قال ابن اسحاق: بعث رسول الله صلي الله عليه وسلم فيما حول مکة السرايا تدعو إلي الله عزوجل، ولم يأمرهم بقتال، وکان ممن بعث خالد بن الوليد، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعيا، ولم يبعثه مقاتلا، ومعه قبائل من العزب فوطئوا بني جذيمة ابن عامر فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح فأن الناس قد أسلموا.

قال: حدثني بعض أصحابنا من أهل العلم من بني جذيمة قال: لما أمرنا خالد أن نضع السلاح قال رجل منا يقال له جحدم:[5] ويلکم يا بني جذيمة إنه خالد، والله ما بعد وضع السلاح إلا الاسار، وما بعد الاسار إلا ضرب الاعناق، والله لا أضع سلاحي أبدا قال: فأخذه رجال من قومه فقالوا: يا جحدم أتريد أن تسفک دمائنا إن الناس قد أسلموا، ووضعو السلاح، ووضعت الحرب، وأمن الناس؟ فلم يزالوا به حتي نزعوا سلاحه، ووضع القوم السلاح لقول خالد، فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلک فکتفوا، ثم عرضهم علي السيف، فقتل من قتل منهم، فلما انتهي الخبر إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم رفع يديه إلي السماء ثم قال: أللهم اني أبرأ إليک مما صنع خالد بن الوليد. قال أبوعمر في الاستيعاب 153:1 هذا من صحيح الاثر.

قال ابن هشام: حدث بعض أهل العلم عن ابراهيم بن جعفر المحمودي قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم رأيت کأني لقمت لقمة من حيس[6] قالتذذت طعمها فاعترض

[صفحه 169]

في حلقي منها شيئ حين ابتلعتها فأدخل علي يده فنزعه. فقال أبوبکر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله هذه سرية من سراياک تبعثها فيأتيک منها بعض ما تحب ويکون في بعضها اعتراض فتبعث عليا فيسهله.

قال ابن اسحاق: ثم دعا رسول الله صلي الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال: يا علي اخرج إلي هؤلاء القوم فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميک. فخرج علي حتي جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله صلي الله عليه وسلم فودي لهم الدماء وما اصيب لهم من الاموال حتي انه ليدي لهم ميلغة[7] الکلب إذا لم يبق شيئ من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال. فقال لهم علي رضوان الله عليه حين فرغ منهم: هل بقي لکم (بقية من) دم أو مال لم يود لکم؟ قالوا: لا. قال: فاني أعطيکم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله صلي الله عليه وسلم مما لا يعلم ولا تعلمون، ففعل، ثم رجع إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فاخبره الخبر، فقال: أصبت وأحسنت. قال: ثم قام رسول الله صلي الله عليه وسلم فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتي انه ليري ما تحت منکبيه يقول: أللهم إني أبرأ إليک مما صنع خالد بن وليد. ثلاث مرات.

وقد کان بين خالد وبين عبدالرحمن بن عوف کلام في ذلک فقال له عبدالرحمن ابن عوف: عملت بأمر الجاهلية في الاسلام[8] وفي الاصابه: أنکر عليه عبدالله بن عمر وسالم مولي أبي حذيفة، وقد تعد هذه الفضيحة ايضا من جنايات لغة کنانة کما في الاصابة 81:2.

فهذا الرهق والسرف في سيف خالد علي عهد أبي بکر من بقايا تلک النزعات الجاهلية، وهذه سيرته من أول يومه، فأني لنا أن نعده سيفا من سيوف الله وقد تبرأ منه نبي الاسلام الاعظم غير مرة، مستقبل القبلة شاهرا يديه وأبوبکر ينظر إليه من کثب.

[صفحه 170]


صفحه 166، 167، 168، 169، 170.








  1. تاريخ ابن عساکر 30:7، خزانة الادب 8:2، الاصابة 209:2.
  2. الدر المنثور 321:2.
  3. شرح ابن ابي الحديد 4 ص 187.
  4. تاريخ الطبري 3 ص 254، تاريخ الخميس 343:3.
  5. في الاصابة جحدم. في 1 ص 227 وجذيم بن الحارث في 1 ص 218. والصحيح هو الاول.
  6. الحيس. بفتح فسکون أن يخلط السمن والتمر والاقط فيؤکل. والاقط: ما يعقد من اللبن ويجفف.
  7. الميلغة: خشبة تحفر ليلغ فيها الکلب.
  8. سيرة ابن هشام 4 ص 57 تا 53، طبقات ابن سعد ط مصر رقم التسلسل 659، صحيح البخاري شطرا منه في کتاب المغازي باب بعث خالد إلي بني جذيمة، تاريخ ابي الفدا ج 1 ص 145، اسد الغابة 102:3، الاصابة 1 ص 318، ج 2 ص 81.