راي الخليفة في تولية المفضول











راي الخليفة في تولية المفضول



قال الحلبي في السيرة النبوية 3 ص 386: إن أبابکر رضي الله عنه کان يري جواز تولية المفضول علي من هو أفضل منه وهو الحق عند أهل السنة لانه قد يکون أقدر من الافضل علي القيام بمصالح الدين، وأعرف بتدبير الامر، وما فيه انتظام حال الرعية.

أجاب الحلبي بهذا عن تقديم أبي بکر عمر بن الخطاب وأبا عبيدة الجراح علي نفسه في الخلافة وقوله: بايعوا أي الرجلين إن شئتم.

وقال الباقلاني في التمهيد ص 195 عند الجواب عن قول أبي بکر: وليتکم و لست بخيرکم: يمکن أن يکون قد اعتقد أن في الامة أفضل منه إلا ان الکلمة عليه أجمع والامة بنظره أصلح، لکي يدلهم علي جواز إمامة المفضول عن عارض يمنع من نصب الفاضل، ولهذا قال للانصار وغيرهم: قد رضيت لکم احد هذين الرجلين فبايعوا أحدهما: عمر بن الخطاب وأباعبيدة الجراح، وهو يعلم أن أباعبيدة دونه و دون عثمان وعلي في الفضل، غير أنه قد رأي أن الکلمة تجتمع عليه، وتنحسم الفتنة بنظره. وهذا أيضا مما لا جواب لهم عنه.

قال الاميني: الذي نرتأيه في الخلافة انها إمرة إلهية کالنبوة، وإن کان الرسول خص بالتشريع والوحي الآلهي، وشأن الخليفة التبليغ والبيان، وتفصيل المجمل. وتفسير المعضل، وتطبيق الکلمات بمصاديقها، والقتال دون التأويل[1] کما

[صفحه 132]

يقاتل النبي دون التنزيل، واظهار ما لم يتسن للنبي الاشادة به إما لتأخر ظرفه، أو لعدم تهيأ النفوس له، أو لغير ذلک من العلل، فکل منهما داخل في اللطف الآلهي الواجب عليه بمعني تقريب العباد إلي الطاعة وتبعيدهم عن المعصية، ولذلک خلقهم و استعبدهم وعلمهم مالم يعلموا، فلم يدع البشر کالبهائم ليأکلوا ويتمتعوا ويلههم الامل. ولکن خلقهم ليعرفوه، وليمکنهم من الحصول علي مرضاته، وسهل لهم الطريق إلي ذلک ببعث الرسل، وإنزال الکتب، وتواصل الوحي في الفينة بعد الفينة، وبما أن أي نبي لم ينط عمره بمنصرم الدنيا، ولا قدر له البقاء مع الابد، وللشرايع ظروف مديدة، کما أن للشريعة الخاتمة أمد لا منتهي له، فاذا مات الرسول ولشريعته إحدي المدتين وفي کل منهما نفوس لم تکمل بعد، وأحکام لم تبلغ وإن کانت مشرعة، واخري لم تأت ظروفها، ومواليد قدر تأخير تکوينها، ليس من المعقول بعد أن تترک الامة سدي والحالة هذه، والناس کلهم في شمول ذلک اللطف والواجب عليه سبحانه شرع سواء، فيجب عليه جلت عظمته أن يقيض لهم من يکمل الشريعة ببيانه، ويزيح شبه الملحدين ببرهانه، ويجلو ظلم الجهل بعرفانه، ويدرع عن الدين عادية أعدائه بسيفه وسنانه، ويقيم الامت والعوج بيده ولسانه.

ومهما کان للمولي جلت مننه عناية بعبيدة، وقد ألزم نفسه باسداء البر إليهم، وأن لا يوليهم إلا الخير والسعادة، فعليه أن يختار لهم من ينوء بذلک العبأ الثقيل ويمثل مخلفه الرسول في الوظايف کلها، فينص عليه بلسان ذلک النبي المبعوث ولا يجوز أن يخلي سربهم، ويترکهم سدي، ألا تري ان عبدالله بن عمر قال لابيه: إن الناس يتحدثون أنک غير مستخلف، ولو کان لک راعي إبل أو راعي غنم ثم جاء وترک رعيته رأيت أن قد فرط- لرأيت أن قد ضيع- ورعية الناس أشد من رعية الابل والغنم، ماذا تقول لله عزوجل إذ لقيته ولم تستخلف علي عباده؟[2] .

وقالت عائشة لابن عمر: يا بني ابلغ سلامي وقل له: لا تدع أمه محمد بلا

[صفحه 133]

راع، إستخلف عليهم ولا تدعهم بعدک هملا، فإني أخشي عليهم الفتنة[3] فترک الناس مهملين فيه خشية الفتنة عليهم.

وقال عبدالله بن عمر لابيه: لو استخلفت؟ قال: من؟ قال: تجتهد فإنک لست لهم برب، تجتهد، أرأيت لو أنک بعثت إلي قيم أرضک ألم تکن تحب أن يستخلف مکانه حتي يرجع إلي الارض؟ قال: بلي. قال: أرأيت لو بعثت إلي راعي غنمک ألم تکن تحب أن يستخلف رجلا حتي يرجع؟[4] .

وهذا معاوية بن أبي سفيان يتمسک بهذا الحکم العقلي المسلم في استخلاف يزيد ويقول: إني أرهب أن أدع أمة محمد بعدي کالضان لا راعي لها.[5] .

ليت شعري هذا الدليل العقلي المتسالم عليه لم أهملته الامة في استخلاف النبي الاعظم واتهمته بالصفح عنه؟ أنا لا أدري.

ولا يجوز ايضا توکل الامر إلي أفراد الامة، أو إلي أهل الحل والعقد منهم لان مما أوجبه العقل السليم أن يکون الامام مکتنفا بشرايط بعضها من النفسيات الخفية الملکات التي لا يعلمها إلا العالم بالسرائر[6] کالعصمة والقداسة والروحية، والنزاهة النفسية لتبعده عن الاهواء والشهوات، والعلم الذي لا يضل معه في شئ من الاحکام إلي کثير من الاوصاف التي تقوم بها النفس، ولا يظهر في الخارج منها إلاجزئيات من المستصعب الحکم باستقرائها علي ثبوت کلياتها، وربک يعلم ما تکن صدورهم وما يعلنون. (سورة القصص 69) والله يعلم حيث يجعل رسالته.

فالامة المنکفئ علمها عن الغيوب لا يمکنها تشخيص من تحلي بتلک الصفات فالغالب علي خيرتها الخطأ، فإذا کان نبي کموسي علي نبينا وآله وعليه السلام تکون وليدة اختياره من الآلاف المؤلفة سبعين رجلا، وانهم لما بلغوا الميقات قالوا: أرنا الله جهرة؟ فما ظنک بأفراد عاديين واختيارهم، واناس ماديين وانتخابهم، وما عساهم أن ينتخبوا غير أمثالهم ممن هو وإياهم سواسية کأسنان المشط في الحاجة إلي المسدد،

[صفحه 134]

وليس من المأمون أن يقع انتخابهم علي عائث، أو يکون إلتيائهم بمشاغب، أو يکون إنثيالهم وراء من يسر علي الامة حسوا في ارتغاء[7] أو يقع اختيارهم علي جاهل يرتبک في الاحکام فيرتکب العظام، ويأتي بالجرائم، ويقترف المآثم وهو لا يعلم، أو يعلم ولا يکترث لان يقول زورا، ويحکم غرورا، فيفسدوا من حيث أرادوا أن يصلحوا، و يقعوا في الهلکة وهم لا يشعرون، کما وقعت أمثال ذلک في البيعة لمعاوية ويزيد وخلفاء الامويين.

فعلي البارئ الرؤف الذي يکره کل ذلک في خلقه أن لا يجعل لاحد من خلقه الخيرة فيها وقد خلقه ظلوما جهولا[8] ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير[9] ، و ربک يخلق ما يشاء ويختار ما کان لهم الخيرة في الامر[10] وما کان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله أمرا أن يکون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا.

(الاحزاب 36)

وقد أخبر به النبي الاعظم من أول يومه يوم عرض نفسه علي القبائل فبلغ بني عامر بن صعصعة ودعاهم إلي الله فقال. له قائلهم: أرأيت إن نحن تابعناک علي أمرک ثم أظهرک الله علي من خالفک، أيکون لنا الامر من بعدک؟ قال: إن الامر إلي الله يضعه حيث يشاء.[11] .

أني تسوغ أن تکون للخلق خيرة في الامر مع شيوع الغايات والاغراض والدعاوي والميول والشهوات في الناس حول الانتخاب، مع اختلاف الانظار وتضارب الآراء والمعتقدات في تحليل نفسيات الرجال والشخصيات البارزة، مع کثرة الاحزاب والفرق والاقوام والطوائف المتشاکسة، مع شقاق القومية والطائفية والشعوبية الذايع الشايع في المسکين ابن آدم من أول يومه.

[صفحه 135]

وقد اقترن الانتخاب من بد بدءه بالتحارش والتلاکم والتکالم والتشازر و التصاخب والتخاصم حتي قدت برود يمانية[12] ووقع البرح براحا[13] وکم بالانتخاب هتکت حرمات؟ وأهينت مقدسات، وأضيعت حقايق، ودحض الحق الثابت، و دحس الصالح العالم، واختل الوئام، وأقلق السلام، وسفحت دماء زکية، و تشلشلت اشلاء الاسلام الصحيح، فجاء يطمع في الامر من لا خلاق له من سوقي بردي، أو مبرطش ألهاه الصفق بالاسواق، أو بزاز يحمل بني أبيه علي رقاب الناس، أو حفار قبور لا يعرف عرضه من طوله، أو طليق غاشم، أو خمار سکير، أو مستهتر مشاغب، من الذين اتخذوا عباد الله خولا، ومال الله نحلا، وکتاب الله دغلا. ودين الله حولا.

ومقتضي هذا البيان الضافي أن يکون الخليفة أفضل الخليفة أجمع في أمته لانه لو کان في وقته من يماثله في الفضيله أو من ينيف عليه إستلزم تعيينه الترجيح بلا مرجح أو التطفيف في کفة الرجحان.

علي ان الامام لو قصر في شئ من تلک الصفات لامکن حصول حاجته إلي المورد الذي نبا عنه علمه، أو تضائلت عنه بصيرته، أو ضعفت عنه منته، فعندئذ الطامة الکبري من الفتيا المجردة، والرأي لا عن دليل، أو الاخذ عمن يسدده، وفي الاول العيث والفشل، وفي الثاني سقوط المکانة، وقد أخذ في الامام مثل النبي أن يکون بحيث يطاع، وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله[14] وقرنت طاعة الامام بطاعة الله ورسوله في قوله تعالي: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منکم[15] وذلک ليمکنه إقامة الحدود الآلهية، ودحض الاباطيل وربما تسربت الشبهة عن جهله إلي نفس الدعوة وحقيقة الدين إن کان عميده الداعي اليه يقصر عن الدفاع عنه وإزاحة الشکوک المتوجهة إليه. فکل هذا يستدعي کماله في الصفات الکمالية کلها فيفضل علي الامة جمعاء.

[صفحه 136]

قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون[16] قل هل يستوي الاعمي والبصير، أم هل تستوي الظلمات والنور[17] أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي فمالکم کيف تحکمون[18] .


صفحه 132، 133، 134، 135، 136.








  1. وبهذا عرف النبي صلي الله عليه وآله مولانا امير المؤمنين بقوله: ان فيکم من يقاتل علي تأويل القرآن کما قاتلت علي تنزيله قال أبوبکر: أنا هو يارسول الله؟ قال: لا قال عمر: أنا هو يارسول الله؟ قال: لا ولکن خاصف النعل، وکان أعطي عليا نعله يخصفها. اخرجه جمع من الحفاظ وصححه الحاکم والذهبي والهيثمي کما يأتي تفصيله.
  2. سنن البيهقي 8 ص 149 عن صحيح مسلم، سيرة عمر لابن الجوزي ص 190، الرياض النضرة 2 ص 74، حلية الاولياء 1 ص 44، فتح الباري 175:13 عن مسلم.
  3. الامامة والسياسة 1 ص 22.
  4. طبقات ابن سعد 3 ص 249.
  5. تاريخ الطبري 170:6، الامامة والسياسة 151:1.
  6. وقد اشبعنا القول في البرهنة علي لزوم هذه الملکات الفاضلة في الامامة في غير هذا المورد.
  7. مثل يضرب لم يظهر امرا ويريد غيره- تاج العروس. 1 ص 153.
  8. راجع الاحزاب: 72.
  9. سورة الملک آية 14.
  10. سورة القصص آية 67.
  11. سيرة ابن هشام 2 ص 32، الروض الانف 1 ص 264، بهجة المحافل لعماد الدين العامري 128:1، السيرة الحلبية 2 ص 3، سيرة زيني دحلان 1 ص 302 هامش الحلبية، حياة محمد لهيکل ص 152.
  12. مثل يضرب في شدة الخصومة، اي تخاصموا حتي تشاقوا الثياب الغالية.
  13. البرح: الشدة والاذي والشر، والبراح: الصرح البين.
  14. سورة النساء آية: 64.
  15. سورة النساء آية 59.
  16. سورة الزمر آية 9.
  17. سورة الرعد آية 16.
  18. سورة يونس آية 135.