عمرو بن العاص و نزعته الدينية











عمرو بن العاص و نزعته الدينية



ولما قصد الثوار إلي المدينة أخرج لهم عثمان عليا فکلمهم فرجعوا عنه وخطب عثمان الناس فقال: إن هؤلاء القوم من أهل مصر کان بلغهم عن إمامهم أمر فلما تيقنوا انه باطل ما بلغهم عنه رجعوا إلي بلادهم، فناداه عمرو بن العاص من ناحية المسجد: إتق الله يا عثمان؟ فإنک قد رکبت نهابير[1] ورکبناها معک، فتب إلي الله نتب، فناداه عثمان فقال: وإنک هناک يابن النابغة؟ قملت والله جبتک منذ ترکتک من العمل. و في لفظ البلاذري في الانساب: يابن النابغة؟ وإنک ممن تؤلب علي الطغام لاني عزلتک عن مصر.

فلما کان حصر عثمان الاول خرج عمرو من المدينة حتي إنتهت إلي أرض له

[صفحه 154]

بفلسطين يقال لها: السبع. فنزل بها، وکان يقول: أنا أبوعبدالله إذا حککت قرحة نکأتها، والله إن کنت لالقي الراعي فاحرضه عليه. وفي لفظ البلاذري: وجعل يحرض الناس علي عثمان حتي رعاة الغنم. فبينما هو بقصره بفلسطين إذ مر به راکب من المدينة فسأله عمرو عن عثمان فقال: ترکته محصورا. قال عمرو: أنا أبوعبدالله قد يضرط العير والمکواة في النار، فلما بلغه مقتل عثمان قال عمرو: أنا أبوعبدالله قتلته وأنا بوادي السباع، من يلي هذا الامر من بعده؟ إن يله طلحة فهو فتي العرب سيبا، وإن يله إبن أبي طالب فلا أراه إلا سيستنظف الحق[2] وهو أکره من يليه إلي.

فلما بلغه أن عليا قد بويع له، فاشتد عليه وتربص لينظر ما يصنع الناس، ثم نمي إليه معاوية بالشام يأبي أن يبايع عليا، وانه يعظم قتل عثمان ويحرض علي الطلب بدمه، فاستشار ابنيه عبدالله ومحمدا في الامر، وقال: ما تريان؟ أما علي فلا خير عنده وهو رجل يدل[3] بسابقته، وهو غير مشرکي في شئ من أمره. فقال عبدالله ابن عمرو: توفي النبي صلي الله عليه وآله وهو عنک راض، وتوفي أبوبکر رضي الله عنه وهو عنک راض، وتوفي عمر رضي الله عنه وهو عنک راض، أري أن تکف يدک وتجلس في بيتک حتي يجتمع الناس علي إمام فتبايعه. وقال محمد بن عمرو: أنت ناب من أنياب العرب فلا أري أن يجتمع هذا الامر وليس ذلک فيه صوت ولا ذکر. قال عمرو: أما أنت يا عبدالله؟ فأمرتني بالذي هو خير لي في آخرتي، وأسلم في ديني، وأما أنت يا محمد فأمرتني بالذي أنبه لي في دنياي، وأشر لي في آخرتي. ثم خرج عمرو بن العاص ومعه إبناه حتي قدم علي معاوية، فوجد أهل الشام يحضون معاوية علي الطلب بدم عثمان، فقال عمرو بن العاص: أنتم علي الحق، اطلبوا بدم الخليفة المظلوم. ومعاوية لا يلتفت إلي قول عمرو، فقال إبنا عمرو لعمرو: ألا تري إلي معاوية لا يلتفت إلي قولک؟! إنصرف إلي غيره. فدخل عمرو علي معاوية فقال: والله لعجب لک إني أرفدک بما أرفدک وأنت معرض عني، أم والله إن قاتلنا معک نطلب بدم الخليفة إن في النفس من ذلک ما فيها، حيث نقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولکنا إنما أردنا هذه الدنيا. فصالحه معاوية

[صفحه 155]

وعطف عليه.

أنساب الاشراف للبلاذري 5 ص 87 و 74، تاريخ الطبري 5 ص 108 -111 و 224، کامل إبن الاثير 3 ص 68، تذکرة السبط ص 49، جمهرة رسائل العرب 1 ص 388.

وکان بعد تلک المساومة المشومة يحرض الناس علي قتل الامام أمير المؤمنين کما فعله علي عثمان حتي قتله وافتخر به بقوله: أنا أبوعبدالله قتلته وأنا بوادي السباع: ثم جعل قميصه وسيلة النيل إلي الرتبة والراتب وقام بطلب دمه قائلا: إن في النفس من ذلک ما فيها. وممن حث علي أمير المؤمنين وألبه حريث مولي معاوية بن أبي سفيان قال إبن عساکر في تاريخه 4 ص 113: قال معاوية لحريث: إتق عليا ثم ضع رمحک حيث شئت. فقال له عمرو بن العاص: إنک والله يا حريث؟ لو کنت قرشيا لاحب معاوية أن تقتل عليا ولکن کره أن يکون لها حظها، فإن رأيت منه فرصة فاقتحم عليه.

ولما قتل أميرالمؤمنين عليه السلام إستبشر بذلک وبشره به سفيان بن عبد شمس بن أبي وقاص قال إبن عساکر في تاريخه 6 ص 181: لما طعن أمير المؤمنين علي إبن أبي طالب رضي الله عنه ذهب سفيان يبشر معاوية وعمرو بن العاص بقتله فکتب معاوية إلي عمرو وهو يقول:


وقتک وأسباب المنون کثيرة
منية شيخ من لوي بن غالب


فيا عمرو مهلا إنما أنت عمه
وصاحبه دون الرجال الاقارب


نجوت وقد بل المرادي سيفه
من إبن أبي شيخ الاباطح طالب


ويضربني بالسيف آخر مثله
فکانت عليه تلک ضربة لازب


وأنت تناغي کل يوم وليلة
بمصرک بيضا کالظباء الشوازب


هذه نفسية الرجل وتمام حقيقته اللائحة علي تجارته البائرة، وصفقته الخاسرة، وبضاعته المزجاة من الدين المبطن بالالحاد، والمکتنف بالنفاق، ولو لم يکن کذلک لما اقتنع بتلک المساومة، وهو يعرف الثمن والمثمن، ويعلم سابقة أميرالمؤمنين وفضله وقرابته ويقول: إن يله إبن أبي طالب فلا أراه إلا سيستنظف الحق. ومع ذلک يظهر بغضه وعداه بقوله: وهو أکره من يليه إلي. ويعترف بالحق ويتحيز إلي خلافه، و

[صفحه 156]

يعرف الموضع الصالح للخلافة ثم يميل مع الهوي ويقول: إنما أردنا هذه الدنيا. فيبيع دينه لمعاوية بثمن بخس مصر وکورها ويؤلب الناس علي الامام الطاهر بنص الکتاب العزيز، ويسر بقتله، ولقد صارح بکل ذلک صراحة لاتقبل التأويل وهي مستفاد من نصوصه ونصوص الصحابة الاولين، وبها عرف في التاريخ الصحيح کما سمعت من دون أي استنباط أو تحوير، فلا بارک الله في صفقة يمينه، ولا غار له بخير.



صفحه 154، 155، 156.





  1. جمع نهبورة بالضم: المهلکة.
  2. استنظف الشي. أخذ کله.
  3. أدل وتدلل: انبسط واجترأ.