ابوالاسود الدؤلي وعمرو











ابوالاسود الدؤلي وعمرو



قدم أبوالاسود[1] الدؤلي علي معاوية بعد مقتل علي رضي الله عنه وقد إستقامت لمعاوية البلاد، فأدني مجلسه، وأعظم جائزته، فحسده عمرو بن العاص فقدم علي معاوية فاستأذن عليه في غير وقت الاذن له فقال له معاوية: يا أبا عبدالله؟ ما أعجلک قبل وقت الاذن فقال: يا أميرالمؤمنين؟ أتيتک لامر قد أوجعني وارقني وغاظني، وهو من بعد ذلک نصيحة لامير المؤمنين. قال: وما ذاک؟ يا عمرو؟ قال: يا أميرالمؤمنين؟ إن أبا الاسود رجل مفوه له عقل وأدب، من مثله للکلام يذکر؟ وقد أذاع بمصرک من الذکر لعلي، والبغض لعدوه وقد خشيت عليک أن يتري[2] في ذلک حتي يؤخذ لعنقک، وقد رأيت أن ترسل إليه، وترهبه، وترعبه، وتسبره، وتخبره، فإنک من مسألته علي إحدي خبرتين، إما أن يبدي لک صفحته فتعرف مقالته، وإما أن يستقبلک فيقول ما ليس من رأيه، فيحتمل ذلک عنه فيکون لک في ذلک عاقبة صلاح إنشاء الله تعالي. فقال له معاوية: إني إمرؤ والله لقل ما ترکت رأيا لرأي إمرئ قط إلا کنت فيه بين أن أري ما أکره وبين بين، ولکن إن أرسلت إليه فسألته فخرج من مسآءلتي بأمر لا أجد عليه مقدما ويملاني غيظا لمعرفتي بما يريد، وإن الامر فيه أن يقبل ما أبدي من لفظه فليس لنا أن نشرح عن صدره وندع ما وراء ذلک يذهب جانبا. فقال عمرو: أنا صاحبک يوم رفع المصاحف بصفين، وقد عرفت رأي ولست أري خلافي و ما آلوک خيرا، فأرسل إليه ولا تفرش مهاد العجز فتتخذه وطيئا.

فأرسل معاوية إلي أبي الاسود فجاء حتي دخل عليه فکان ثالثا فرحب به معاوية وقال: يا أبا الاسود؟ خلوت أنا وعمرو فتناجزنا[3] في أصحاب محمد صلي الله عليه وآله وقد أحببت أن أکون من رأيک علي يقين. قال: سل يا أميرالمؤمنين؟ عما بدالک. فقال: يا

[صفحه 147]

أبا الاسود؟ أيهم کان أحب إلي رسول الله صلي الله عليه وآله؟ فقال: أشدهم حبا لرسول الله صلي الله عليه وآله وأوقاهم له بنفسه. فنظر معاوية إلي عمرو وحرک رأسه، ثم تمادي في مسألته فقال: يا أبا الاسود؟ فأيهم کان أفضلهم عندک؟ قال أتقاهم لربه وأشدهم خوفا لدينه. فاغتاظ معاوية علي عمرو، ثم قال: يا أبا الاسود؟ فأيهم کان أعلم؟ قال: أقولهم للصواب وأفصلهم للخطاب. قال: يا أبا الاسود؟ فأيهم کان أشجع؟ قال: أعظمهم بلاء، وأحسنهم عناء، وأصبرهم علي اللقاء. قال: فأيهم کان أوثق عنده؟ قال من أوصي إليه فيما بعده. قال: فأيهم کان للنبي صلي الله عليه وآله صديقا؟ قال: أولهم به تصديقا. فأقبل معاوية علي عمرو و قال: لاجزاک الله خيرا، هل تستطيع أن ترد مما قال شيئا؟ فقال أبوالاسود: إني قد عرفت من أين اتيت، فهل تأذن لي فيه؟ فقال: نعم. فقل ما بدالک. فقال يا أميرالمؤمنين، إن هذا الذي تري هجا رسول الله صلي الله عليه وآله بأبيات من الشعر فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: أللهم؟ إني لا أحسن أن أقول الشعر فالعن عمرا بکل بيت لعنة. أفتراه بعد هذا نائلا فلاحا؟ أو مدرکا رباحا؟ وأيم الله ان امرءا لم يعرف إلا بسهم اجيل عليه فجال لحقيق أن يکون کليل اللسان ضعيف الجنان، مستشعرا للاستکانة، مقارنا للذل والمهانة، غير ولوج فيما بين الرجال، ولا ناظر في تسطير المقال، إن قالت الرجال أصغي، وإن قامت الکرام أقعي[4] متعيص لدينه لعظيم دينه، غير ناظر في ابهة الکرام ولا منازع لهم، ثم لم يزل في دجة ظلماء مع قلة حياء، يعامل الناس بالمکر والخداع، والمکر والخداع في النار. فقال عمرو: يا أخا بني الدؤل؟ والله إنک لانت الذليل القليل، ولولا ما تمت به من حسب کنانة لاختطفتک من حولک اختطاف الاجدل الحدية[5] غير أنک بهم تطول، وبهم تصول، فلقد استطبت مع هذا لسانا قوالا، سيصير عليک وبالا، و أيم الله انک لاعدي الناس لامير المؤمنين قديما وحديثا، وما کنت قط بأشد عداوة له منک الساعة، وانک لتوالي عدوه، وتعادي وليه، وتبغيه الغوائل، ولئن أطاعني ليقطعن عنه لسانک، وليخرجن من رأسک شيطانک، فأنت العدو المطرق له إطراق الافعوان[6] في أصل الشجرة.

[صفحه 148]

فتکلم معاوية فقال: يا أبا الاسود؟ أغرقت في النزع ولم تدع رجعة لصلحک. و قال لعمرو: فلم تغرق کما أغرقت ولم تبلغ ما بلغت، غير انه کان منه الابتداء والاعتداء، والباغي أظلم، والثالث أحلم، فانصرفا عن هذا القول إلي غيره وقوما غير مطرودين، فقام عمرو وهو يقول:


لعمري لقد أعيي القرون التي مضت
لغش ثوي بين الفؤاد کمين


وقام أبوالاسود وهو يقول:


ألا إن عمرا رام ليث خفية[7] .
وکيف ينال الذئب ليث عرين


تاريخ إبن عساکر 7 ص 104 -106



صفحه 147، 148.





  1. ظالم بن عمرو التابعي الکبير المتوفي سنة 69 وهو ابن خمس وثمانين سنة.
  2. تري تريأ في الامر: تراخي فيه.
  3. ناجزه: خاصمه. والمناجزة في الحرب المبارزة.
  4. أقعي الکلب: جلس علي استه.
  5. الاجدل: الصقر. والحداة بکسر الحاء: طائر من الجوارح. والعامة تسميه الحدية.
  6. الافعوان بضم الاول: ذکر الافعي.
  7. الخفية: الغيضة الملتفة.