خير الوجود و ثوريه الحياه











خير الوجود و ثوريه الحياه



لشد ما رايناه يجعل ثوريه الحياه کلامن خير الوجود، و خير الوجود کلامن ثوريه الحياه!

و قالت الثوره: انا الهادمه البانيه!

و ليس من حق الوجود العادل الا ان يکون خيرا کريما. و ليس من طبيعته الاالعطاء. و هو لاياخذ ما يعطيه الاليعود الي بذله طيبا جديدا. و خير الوجود کيان من کيانه و جوهر من جوهره. و عهد علي به هو هذا العهد. و احساسه بخيره هو احساسه بعد له لايقل و لايزيد. و علي ذلک تحدث عن هذا الخير فاکثر الحديث و قد روينا من اقواله في خير الوجود شيئا غير قليل. و لعل ما رويناه من تلک الروائع الصادقه نستطيع تلخيصه الان بکلمه قالها و کانه يوجز بها مذهبه المومن بخير الوجود: «و ليس الله بما سئل باجود منه بما لم يسال». فاذا عرفنا ان لفظه «الله» تعني في اقصي ما تعينه عند القدماء من اصحاب الاصاله الذهنيه و الروحيه: مرکز الوجود و الروابط الکونيه، عرفنا اي خير شامل عميم هو خير الوجود الذي يمنحک ما تسال ضمن شروط، ثم يعطيک فوق ما تسال، ثم يزيد!

و لما کان الانسان الذي يحسب انه جرم صغير، ممثلالهذا العالم الاکبر علي ما يقول ابن ابي‏طالب، فلابد ان يکون هو ايضا صوره عن الوجود بخيره کما هو صوره عنه بعدله. فاذا اعطاک الوجود فوق ما تساله من خيره، يکون قد بداک لحاجه في طبيعته الي ان يکون خيرا. و اذا کنت صوره عنه، فانت احوج الي اصطناع الخير من اهل الحاجه

[صفحه 67]

اليه. و هذا ما يوکده علي بقوله هذا: «اهل المعروف الي اصطناعه احوج من اهل الحاجه اليه!» و هذا ما يوکده ايضا في عباره يرجع اليها کلما تحدث عن اصطناع الخير بين الناس: «و الفضل في ذلک للبادي‏ء».

و اذ نتقل الي النظر في الخير و معناه علي صعيد العلاقات بين الناس، امکننا ان نجري آراء ابن ابي‏طالب في المجاري التاليه:

اولا، الخير بين الناس يکمن في ان يتعاونوا و يتساندوا، و ان يعمل واحدهم من اجل نفسه و الاخرين سواء بسواء، و الايکون في هذا العمل رياء من جانب هذا و لااکراه من جانب ذاک لکي «يعمل في الرغبه لافي الرهبه» علي حد ما يقول علي، ثم ان يضحي بالقليل و الکثير توفيرا لراحه الاخرين و اطمئنان الخلق بعضهم الي بعض، و ان تاتي هذه التضحيه مبادره لابعد سوال و لابعد قسر و اجبار. و کل ما من شانه ان ينفع و يفيد، سواء اکان ذلک علي صعيد مادي او روحي، کان خيرا.

ثانيا، يري علي ان الخير لا ياتي الا عملا اولا، ثم قولا، لان الانسان يجب ان يکون واحدا کالوجود الواحد، و ان يساند بعضه بعضا وفاء لهذه القاعده، فان قال فعل، و ان فعل قال. و من روائع ابن ابي‏طالب کلمه قالها في رجل يرجو الله في امر و لايعمل من اجل هذا الرجاء: «يدعي بزعمه انه يرجو الله! کذب و العظيم! ما باله لايتبين رجاءه في عمله، فکل من رجا عرف رجاوه في عمله!» اما اذا عملت خيرا، فمن حقک عند ذاک ان تقول خيرا: «قل خيرا و افعل خيرا!»

ثالثا، يفسح علي في المجال امام قوي الخير لان تنطلق ابعد ما يکون الانطلاق، و ذلک بان يجعل قبول التوبه عن الشر قاعده يعمل بها. فاذا اثم المرء مسيئا الي الاخرين، فان في التوبه بابا يلجه من جديد الي عالم الخير اذا شاء. يقول علي: «اقبل عذر من اعتذر اليک، و اخر الشر ما استطعت». و يعرف التاريخ مقدار الاساءه التي لحقت بعلي عن طريق ابي‏موسي الاشعري، و يعرف کذلک ان عليا لاينزع الاعن مذهبه ايه کانت الظروف و الصعوبات، لذلک نراه يبعث الي ابي‏موسي قائلا: «اما بعد، فانک امروء ضللک الهوي، و استدرجک الغرور، فاستقل الله يقلک عثرتک، فان من استقال الله اقاله!»

[صفحه 68]

رابعا، يومن علي بان قوي الخير في الانسان تتداعي و يشد بعضها بعضا شدا مکينا. فاذا وجد في انسان جانب من الخير فلابد من ارتباطه بجوانب اخري منه، و لابد من ظهور هذه الجوانب عند المناسبات. و في هذه النظره اشاره صريحه الي ان الوجود واحد متکافي‏ء عادل خير سواء اکان وجودا عاما کبيرا، او وجودا خاصا مصغرا يتمثل بالانسان: «اذا کان في رجل خله رائقه فانتظروا اخواتها!»

خامسا، و مثل هذه العدوي الخيره بين الخلال الرائقه، عدوي مماثله تنتقل من الخير الي الشر بين الناس و الناس: «جالس اهل الخير تکن منهم!» و «اطلبوا الخير و اهله».

سادسا، الايمان العميق بان في طاقه الانسان ايا کان ان ينهج نهج الخير، و انه ليس من انسان اجدر من انسان آخر بهذا النهج: «و لايقولن احدکم ان احدا اولي بفعل الخير مني!»

سابعا، علي المرء الايستکثر من فعل الخير کثيرا. بل ان ما يفعله من خير يظل قليلامهما کان کثيرا لان في الاکتفاء بقدر من الخير جحودا بخير الوجود العظيم و انکارا لطاقه الانسان الذي ينطوي فيه العالم الاکبر. يقول علي في اهل الخير: «و لايرضون من اعمالهم القليل، و لايستکثرون الکثير، فهم لانفسهم متهمون، و من اعمالهم مشفقون»[1].

ثامنا، لابد من الاشاره الي النظره العميقه التي يلقيها علي علي مفاهيم النزوع الانساني الي ما يجعل الناس، کل الناس، في نعيم.

فاذا نحن نظرنا في آثار معظم المفکرين الذين اعاروا شوون الناس اهتمامهم، راينا ان لفظه «السعاده» هي التي تتردد في هذه الاثار، و ان مدلول هذه اللفظه انما، هو بالذات، مدار ابحاثهم و غايه ما يريدون. اما علي فقد استبدل بلفظه «السعاده» هذه ما هو ابعد مدي، و اعمق معني، و ارحب افقا، و اجل شانا في ما يجب ان تتصف به الطبيعه الانسانيه و تصبو اليه. لقد استبدل ب« السعاده» هذه، لفظه «الخير» فما کان يوجه القلوب اليها بل اليه. لان في السعاده ما هو محصور في نطاق الفرد، و لان الخير ليس

[صفحه 69]

بمحصور في مثل هذا النطاق. فالخير اذن اعظم! ثم ان الخير يحتوي السعاده و لاتحتويه، فهو اشمل! اضف الي ذلک ان بعض الناس قد يسعدون بما لايشرف الانسان، و انهم قد يسعدون بما يوذي الاخرين، و انهم قد يتفهون و يترهلون و هم يحسبون انهم بذلک سعداء. اما الخير فهو غير السعاده اذ يکون معدنها هذا المعدن. فهو السعاده منوطه بسعاده الناس جميعا. و هو الرضي عن احوال الجسد و العقل و الضمير! لذلک اکثر علي من استخدام هذا اللفظ في دعوته الحاره الي کل ما يرفع من شان الانسان!

و لم اعثر في آثار ابن ابي‏طالب علي لفظه «السعاده» الامره واحده. ولکنه لايخرج بمعناها الذي يقصد عن مفهوم الخير بما يحملها من حدوده و معانيه. اما العباره التي وردت فيها لفظه «السعاده» فهي هذه: «من سعاده الرجل ان تکون زوجته صالحه و اولاده ابرارا و اخوانه شرفاء و جيرانه صالحين و رزقه في بلده». فانظر کيف ربط سعاده المرء بسعاده المحيطين به من افراد عائلته ثم بسعاده اخوانه و جيرانه جميعا. بعد ذلک ناط سعاده هذا الرجل بسعاده بلاده مستندا الي انها بلاد تنتج الرزق لجميع ابنائها و هو واحد منهم!

تاسعا، ان خير الوجود و خير الانسان يستلزمان، بالضروره، الثقه بالضمير الانساني ثقه تجعله حکما اخيرا في ما يضر و ينفع. و لنا في هذا الموضوع راي نفصله نقول:

من روائع ابن ابي‏طالب ما يخاطب به العقل وحده. و منها ما يخاطب به الضمير. و اکثرها مما يتوجه به الي العقل و الضمير مجتمعين. اما تلک التي يخاطب بها العقل، فقل انها الغايه في الاصاله، و انها نتيجه محتومه لنشاط العقل الذي لاحظ و دقق و تمرس بخير الزمان و شره، و عرف من التجارب کل ما يکشف له عن الحقائق و يجليها، فاذا هي مصوغه علي قواعد هندسيه ذات حدود و ابعاد لشده ما ترتبط بالحقائق، و مظهره في اروع اطار فني لشده ما ترتبط بالجماليه التعبيريه، مما يجعلها، من حيث الماده و الشکل، في اصول الادب الکلاسيکي العربي.

و في هذا النوع من الحکم الموجهه الي العقل، نري عليا يصور تارکا للناس ان يحکموا بما يرون. فياخذوا اذا شاووا او يترکوا. لذلک لانري في هذا النوع من الحکم صيغ الطلب. انما نري حکما صيغت بقالب خبري خالص جرد من صور الامر و النهي جميعا.

[صفحه 70]

حکما تتبلور فيها طبائع الصديق و العدو، و المحسن و المسي‏ء، و الاحمق و العاقل، و البخيل و الکريم، و الصادق و المنافق، و الظالم و المظلوم، و المعوز و المتخم، و صاحب الحق و صاحب الباطل، و مفهوم الخلق السليم و الخلق السقيم، و شوون الجاهل و العالم، و الناطق و الصامت، و الارعن و الحليم، و صفات الطامع و القانع، و احوال العسر و اليسر، و تقلبات الزمان و ما لها من اثر في اخلاق الرجال، و ما الي ذلک من امور لاتحصي في فصل او باب.

اما تلک التي يخاطب بها الضمير، و العقل و الضمير مجتمعين، فاليک ما هي و ما حولها:

من الثابت ان الذين راوا في الانظمه و التشريعات وحدها سلامه الانسان و کفايه المجتمع، قد اخطاوا خطا عظيما. فان هذه الانظمه و التشريعات التي تعلن عن حقوق الانسان و تامر برعايتها و المحافظه عليها، لايضبطها في النتيجه، کما لايخلص في اکتشافها و ابتداعها، الاعقل سليم و نفس مهذبه و ضمير راق. فان دنيا الناس هذه يرتبط کل ما فيها، ضمن حدود معينه طبعا، باخلاق القيمين علي دساتيرها و انظمتها، و بمدي الخير الذي يتسع في نفوسهم او يضيق، بقدر ما يرتبط بضمير الجماعه التي تولف ميدان هذه الانظمه و الدساتير و تبرر وجودها. هذا، مع الاعتراف بان الانظمه الاجتماعيه الحديثه تتفاوت تفاوتا عظيما في سماحها للقيمين عليها بمسايرتها او بالخروج عليها. و ذلک بحکم طبيعتها و بنسبه ما تحويه اصولها من امکانات التنفيذ. اما الانظمه و الدساتير القديمه، فقد کانت اکثر تاثرا باخلاق القيمين عليها المشرفين علي اقامه ما تقتضيه من حدود. و لذلک اسباب ليست من موضوع حديثنا هذا.

و بالرغم من ان الانظمه و التشريعات الصالحه من شانها ان توجه الناس و تفرض عليهم ما يودي الي نفعهم فرضا، فان هذا التوجيه و هذا الفرض يظلان خارج حدود القيمه الانسانيه ان لم يوافقهما العمل النابع من الوجدان بالذات. و في مذهبنا ان کل عمل ياتيه الانسان لابد انه فاقد الدف‏ء الانساني، و هو اثمن و اعظم ما يوافق الصنيع الانساني، ان لم يحمل و هج الضمير و عبق النفس و اراده العطاء علي غير قسر و اکراه. و لاتنجح الانظمه

[صفحه 71]

و التشريعات في اقامه العلاقات الانسانيه الابمقدار ما يمکنها ان تتوجه الي العقل و الضمير فتقنعهما بالخير، فتخلق الانسجام الرائع بين اتاحه الفرصه للعمل النافع و اراده العامل في وحده تکفل للفرد و للجماعه الصعود في طريق الحضاره.

و ما يصدق، بهذا الصدد، في نطاق الافراد و الجماعات، يصدق کذلک في تاريخ المفکرين و المشترعين و العلماء و المکتشفين و من اليهم. فانک لتري، اذا انت استعرضت تاريخ هولاء الذين خدموا الانسان و الحضاره، ان العقل الذي دلهم علي الطريق الصحيح في کل ميدان، لم يکن وحده في تاريخهم. فالعقل بارد، جاف، لايتعرف الاالي الارقام و الاقسام و الوجوه ذات الحدود. فهو لذلک يدلک علي الطريق ولکنه لايشدک الي سلوکه و لايدفعک في سهله و وعره. اما الدافع، فالضمير السليم و العاطفه الحاره. فما الذي حمل مارکوني علي العزله القاسيه و الانفراد الموحش الکئيب، ان لم يکن الضمير الذي يحسن له الانصراف عن مباهج الحياه الي کابه الوحده في سبيل الحضاره و الانسان؟ و ان لم يکن العاطفه التي تغمر هذا الضمير السليم بالحراره و الدف‏ء فلايفتر ابدا.

و ما يقال في مارکوني يقال في باستور، و غاليليو، و غاندي، و بتهوفن، و بوذا، و افلاطون، و غيتي، و في غيرهم من اصحاب المرکب الانساني القريب من الکمال.

و الدليل الايجابي علي هذه الحقيقه يستتبع دليلاسلبيا لزياده الايضاح. فهذا ادولف هتلر، و جانکيزخان، و هولاکو، و الحجاج بن يوسف الثقفي، و قيصر بورجيا بطل کتاب «الامير» المشووم لمکيا فيللي،[2] و بعض علماء الذره المعاصرين الذين يوافقون

[صفحه 72]

علي تجربتها علي الادميين، الم يتميز هولاء جميعا بعقول واسعه و مدارک قد تهون امامها مدارک الاخرين؟ و مع ذلک، فما کان من شانهم الاالتقتيل و التدمير و الاعتداء علي مقدسات الحضاره و مخلفات الجهود الانسانيه، و علي کرامه الحياه و الاحياء و خير الوجود!

ذلک ان عقولهم لم تواکبها الضمائر السليمه و العواطف الکريمه! فحيث لاضمير و لاعاطفه، لانفع من العقل، بل قل انه الي المضره اقرب.

و لااريد هنا التفصيل بين مختلف قوي الانسان من عاطفه و ضمير و عقل و ما اليها، فهي و لاشک تتفاعل و تتعاون. غير ان ما اردته بالعقل هو القوه التي تعقل الامور علي صعيد يربط السبب بالنتيجه و يحکم بين العله و المعلول، فيدور في نطاق من الارقام و الحدود التي لاتتاثر، بحد ذاتها، بالبيئه الانسانيه الخاصه و العامه. و علي هذا الضوء اجزت هذا التفصيل.

اذن، فالعقل المکتشف لابد لصاحبه من ضمير و عاطفه يدفعانه في طريق الخير. و ما يصح بهذا الشان في المشترع يصح في المشترع له. فالافراد الذين يطلب اليهم ان يسيروا علي هذا النظام الخير او ذاک، لابد لهم من اقتناع وجداني، الي جانب الاقتناع العقلي المجرد، يدفعهم في طريق التهذيب الانساني الرفيع، لبناء المجتمع الصالح. لابد لهم من التمرس بالفضائل الاخلاقيه التي تحيط الانظمه و التشريعات بحصون رفيعه منيعه. لابد لهم من ان يکونوا خيرين!

لذلک راح علي يحرک في الافراد عواطف الخير علي ما راينا، و يوقظ فيهم ما غشته الايام من الضمائر السليمه. و يعمل علي انمائها و ينصح برعايتها.

توجه علي الي الضمائر بتوصياته و خطبه و عهوده و اقواله جميعا. لانه لم يفته ان لتهذيب الخلق شانا في رعايه النظم العادله، و في بث الحراره في المعاملات بين الناس. و لم يفته کذلک، ان هذا التهذيب يطلب لذاته بما هو من القيم الانسانيه، کما يطلب لحمايه العداله الاجتماعيه و سننها بما هو ضبط لوازع و توجيه لاخري. و قد ساعده في ذلک ما اوتي من مقدره خارقه ينفذ بها الي اعماق الناس افرادا و جماعات، فيدرک ميولهم و اهواءهم، و يعرف طباعهم و اخلاقهم، فيزن خيرها و شرها، ثم يصور، و يطور، و يامر و ينهي، علي ضوء ثقته الراسخه بالضمير الانساني الذي يتوجه اليه.

[صفحه 73]

کانت ثقه ابن ابي‏طالب بالضمير الانساني ثقه العظماء الذين تالف فيهم العقل النير و القلب الزاخر بالدف‏ء الانساني، النابض بالحب العميق الذي لا يعرف حدودا.

کانت ثقته بهذا الضمير ثقه بوذا و بتهوفن و روسو و غاندي و سائر العظماء الذين مدهم القلب بنور يخبو لديه کل نور. و علي اساس هذه الثقه ارسي ابن ابي‏طالب حکمه و امثاله، و علي اساسها تترابط الافکار و التوجيهات التي يخاطب بها و جدانات الناس.

و اذا کان للامام علي مثل هذه الثقه بنواحي الخير في الناس، علي ما مني به علي ايديهم من نکبات و فواجع، فانه يابي الا ان يلقي بذور هذه الثقه في قلوبهم جميعا. فهو يعرف «ان في ايدي الناس حقا و باطلا، و کذبا و صدقا». ولکن الاولي بالمرء ان يفتح عينيه و قلبه علي نواحي الخير هذه، فلعلها هي التي تنمو دون نواحي الشر. و لعل التعليم بالمثل و السيره يکون اجل و اجدي. و قد طالما کرر علي وصاياه بضروره هذه الثقه بالضمير الانساني، و في جمله ما يقوله: «من ظن بک خيرا فصدق ظنه». و يقول في مکان آخر: «لا تظنن بکلمه خرجت من احد سوءا و انت تجد لها في الخير محتملا» و «ليس من العدل القضاء بالظن علي الثقه» و «و اذا استولي الصلاح علي الزمان و اهله ثم اساء رجل الظن برجل لم تظهر منه خزيه، فقد ظلم» و «اسوا الناس حالا من لم يثق باحد لسوء ظنه، و لم يثق به احد لسوء فعله!»

و قد اخطا دارسو الامام علي ساعه راوا انه متشائم بالناس شديد التشاوم، متبرم بهم کثير التبرم. و ساعه احتجوا لرايهم هذا باقوال له يهاجم بها ابناء زمانه بشده و عنف. اما راينا نحن فعلي العکس من ذلک تماما. راينا ان عليا لم ينقض ثقته بالانسان ساعه واحده و ان نقضها ببعض الناس في بعض الظروف. فمن عرف طاقه ابن ابي‏طالب علي احتمال المکاره تاتيه من الناس، و جلده العجيب في مقاساه الاهوال الناجمه عن الغدر و الخيانه و الفجور في الکثير من خصومه و انصاره، ثم ما کان من اموره معهم جميعا اذ ياخذهم بالرفق و العطف ما امکنه ان يرفق و ان يعطف، اقول: من عرف ذلک ادرک ان عليا عظيم التفاول بحقيقه الانسان، و بفطرته التي اضلها المجتمع في بعض احواله. لا يختلف في ذلک عن اخيه العظيم روسو.

[صفحه 74]

و اذا کان له في ذم اهل الخيانه و الغدر و الظلم قول کثير، فما ذاک الا لانه يعترف، ضمنا، ان الانسان ممکنا اصلاحه و لو طال علي ذلک الزمن. فان المتفائل وحده هو الذي يزجر المسي‏ء کما يثيب المحسن املا منه بتقويم الاعوجاج في الخلق و المسلک. و لو لم يکن لابن ابي‏طالب مثل هذا الامل، لما استطاع احتمال ما لا يحتمل من مکاره الدهر التي جرها عليه المسيئون، و لما صبر علي ما يکره! و هو ان قال في الدنيا و اهلها: «فانما اهلها کلاب عاويه و سباع ضاريه، يهر بعضها بعضا، و ياکل عزيزها ذليلها، و يقهر کبيرها صغيرها»، فانما يقول ذلک لانه قاسي من غدر الغادرين و فجور الفاجرين ما آلمه و آذاه. فوبخهم هذا التوبيخ الموجع ايثارا منه لمن لا يفجر و لا يغدر و لا يکون کلبا عاويا و لا سبعا ضاريا و لا عزيزا ياکل ذليلا او کبيرا يقهر صغيرا! يقول ذلک ثم يحارب السبع الضاري و العزيز الظالم و الکبير الجائر کما يحارب الطبيب الجراثيم ايثارا منه لسلامه البدن و الروح، بل ايثارا منه للحياه علي الموت، و تفاولا بحسن النجاه!

اذن، فالامام علي، و هو الذي يحترم الحياه: اعظم ما خلق الله، و يحترم الناس الاحياء: اجمل نماذج هذه الحياه، عظيم الثقه بالخير الانساني. عظيم التفاول بالانسان يريده حرا کما يجب ان يکون!

و لولا هذه الثقه و هذا التفاول لما کان من امره مع الناس ما کان، و لما قال: «لا تظنن بکلمه خرجت من احد سوءا و انت تجد لها في الخير محتملا!» ثم لما توجه الي الضمير الفردي و الجماعي بوصاياه التي تجمع عمق الفهم و حراره العاطفه الي سمو الغايه و نبل المقصد. هذه الوصايا التي ارادها حصنا منيعا للاخلاق العامه، و العاطفه الانسانيه، و ترکيز العمل النافع علي اسس الايجابيه في العقل و الضمير. و استنادا الي هذه الثقه بالضمير الانساني، و تحصينا للعمل الخير الشريف، نراه يقيم علي الناس ارصادا من انفسهم و عيونا من جوارحهم فيخاطبهم قائلا: «اعلموا ان عليکم رصدا من انفسکم و عيونا من جوارحکم و حفاظ صدق يحفظون اعمالکم و عدد انفاسکم!»

و استنادا الي هذه الثقه بخير الوجود و عدله، و الي عظمه الحياه و الاحياء، يخاطب علي ابن ابي‏طالب ابناء زمانه بما يوقظهم علي ان الحياه حره لا تطيق من القيود الا ما کان

[صفحه 75]

سببا في مجراها و واسطه لبقائها و قبسا من ضيائها و ناموسا من نواميسها. و انها لا يطيب لها البقاء في مهد الامس. فعليهم الا يحاولوا غلها و تقييدها و الا اسنت و انقلبت الي فناء. فالحياه جميله، کريمه، حره، خيره کالوجود ابيها، تحفظ نفسها بقوانينها الثابته لا بما يريد لها المتشائمون من قوانين.

و هي متجدده ابدا، متطوره ابدا، لا ترضي عن تجددها و تطورها بديلا و هما اسلوب تنهجه في فتوحاتها التي تستهدف خيرا اکثر و بقاء اصلح. و ملاحظه ابن ابي‏طالب الدقيقه العميقه للحياه و نواميسها و هي اعظم موجودات الوجود الخير، مکنت في نفسه الايمان بثوريه الحياه المتطلعه ابدا الي الامام، المتحرکه ابدا في اتجاه الخير الاکثر. و ثوريه الحياه اصل تحرکها و سبب تطورها من حسن الي احسن. و لهذا کانت الحياه حره غير مقيده الا بشروط وجودها. و ثوريه الحياه اصل تحرک المجتمع الانساني و سبب تطوره. و لولا هذه الخاصه لکانت الحياه شيئا من الموت و الاحياء اشياء من الجماد.

آمن ابن ابي‏طالب بثوريه الحياه ايمانا اشبه بالمعرفه، او قل هو المعرفه. فترتب عليه ايمان عظيم بان الاحياء يستطيعون ان يصلحوا انفسهم و ذلک بان يماشوا قوانين الحياه. و يستطيعون ان يکونوا اسياد مصائرهم و ذلک بان يخضعوا لعبقريه الحياه. و قد سبق ان قلنا في حديث مضي ان ثوريه الحياه الصق مزايا الحياه بها و اعظمها دلاله علي امکاناتها العظيمه. و هي تستلزم من المومنين بها ان يعملوا علي اساس من الثقه المطلقه بالتطور المحتوم، و ان ينبهوا الخواطر اليه، و ان يستخدموا الدليل و البرهان في زجر المحافظين عن کل تصرف غبي يتوهم اصحابه انهم يستطيعون الوقوف في وجه الحياه الثائره المتطوره بثورتها.

بهذه الثقه و بهذا الايمان خاطب ابن ابي‏طالب الانسان بقوله: «فانک اول ما خلقت جاهلا ثم علمت، و ما اکثر ما تجهل من الامر، و يتحير فيه رايک، و يضل فيه بصرک، ثم تبصره بعد ذلک!» ففي هذا القول اعتراف بان الحياه متطوره، و ان التعلم انما هو الانتفاع بما تخزن الحياه من عبقريتها في صدور ابنائها، علي ما قلنا سابقا. و فيه ايمان بالقابليه الانسانيه العظيمه للتقدم، او قل للخير. و ما دعوته الحاره الي المعرفه التي تکشف کل

[صفحه 76]

يوم عن جديد، و تبني کل يوم جديدا، الا دليل عن الايمان بثوريه الحياه الخيره و امکانات الاحياء. فالمعرفه لديه کشف و فتح لا يهدآن.

و هو بهذا الايمان و هذه الثقه يخاطب ابناء زمانه يقول: «لا تقسروا اولادکم علي اخلاقکم، فانهم مخلوقون لزمان غير زمانکم». فلولا تفاوله العظيم بان في الحياه جمالا، و بان في الناس قابليه التطور الي الخير، لما اطلق هذا القول الذي يوجز علمه بثوريه الحياه، و يوجز تفاوله بامکانات الانسان المتطور مع الحياه، کما يوجز روح التربيه الصحيحه، و يخلص کل جيل من الناس من اغلال العرف و العاده التي ارتضاها لنفسه جيل سابق.

و لا بن ابي‏طالب في هذا المعني قول کثير منه هذه الايات الخالده التي يمجد بها العمل بوصفه حقيقه و ثوره و خيرا: «من ابطا به عمله لم يسرع به نسبه» و «قيمه کل امري‏ء ما يحسنه» و «اعلموا ان الناس ابناء ما يحسنون» و «لکل امري‏ء ما اکتسب».

و من اقواله ما يدفع به المرء الي ان يطلب التقدم بالعمل، و الا يحجم او يتراجع اذا هو اخفق کثيرا او قليلا، لان الوجود الخير لا يحرم ابناءه ما يستحقون. و اذا هو حرمهم فبعض الحرمان لا کله. و قد يسوي الامر في دفعه ثانيه من الطلب بواسطه العمل. و من قوله في ذلک هذه الايه: «من طلب شيئا ناله او بعضه». و اظن ان القاري‏ء فطن الي روح هذه العباره التي تتالق و کانها انبثاق عن کلمه المسيح الشهيره: «اقرعوا اقرعوا يفتح لکم».

و لعل اجمل ما في المذهب العلوي بهذا الشان، ان صاحبه کان يوحد ثوريه الحياه و خير الوجود نصا کما کان يوحدهما روحا و معني. فلشد ما نراه يوحد معني التطور، او ثوريه الحياه، بمعني خير الوجود توحيدا لا يجعل هذا شيئا من تلک، و لا تلک شيئا من هذا، بل يجعل ثوريه الحياه کلا من خير الوجود، و خير الوجود کلا من ثوريه الحياه. و ان في آياته هذه لدليلا کريما علي صحه ما نقول فليس فيها ما يحتاج الي شرح او تعليق. و اليک نموذجا عنها: «العاقل من کان يومه خيرا من امسه» و «من کان

[صفحه 77]

غده شرا من يومه فهو محروم» و «من اعتدل يوماه فهو مغبون». و اخيرا اليک هذه الرائعه التي تجمع کل ما نحن بصدده الان، الي دف‏ء الحنان العميق، الي جمال الفن الاصيل، الي اشراک الايام باحاسيس البشر:

«ما من يوم يمر علي ابن آدم الا قال له: انا يوم جديد، و انا عليک شهيد، فقل في خيرا و اعمل خيرا فانک لن تراني بعد ابد!»

و لسوف نسوق في هذا الکتاب روائع لابن ابي‏طالب ستبقي ما بقي الانسان الخير. و انها لطائفه تولف نهجا في الاخلاق الکريمه، و الاحلام العظيمه، و التهذيب الانساني الرفيع الذي اراده انبثاقا عن ثوريه الحياه و خير الوجود!

بيروت جورج جرداق

[صفحه 81]


صفحه 67، 68، 69، 70، 71، 72، 73، 74، 75، 76، 77، 81.








  1. من اعمالهم مشفقون: خائفون من التقصير فيها.
  2. مکيافيللي: نابغه ايطالي عاش في عصر الرسام العظيم رافاييل، و کان صديقا له و معينا. و قد دفعه عقله الفذ و خلقه الکريم الي مهاجمه اساليب الظلم و البربريه عند حکام التاريخ، فالف کتابه الشهير «الامير» الذي يصف فيه وقاحه اولئک الحکام، و شخصياتهم المبتذله، بطريقه غير مباشره اذ دفع الي الناس صوره عن شخصيه الامير الذي يخلو من کل ضمير و کل عقل و کل ذوق و يلجا لشتي و سائل العنف في التقتيل و الترويع و التشريد و سائر الفظائع تثبيا لمرکزه... مشيرا الي ان امارات التاريخ و العصر الذي هم فيه انما «ترکزت» علي هذا الاسلوب السمج. و قد اخذ مکيافيللي صفات «الامير» في کتابه هذا من شخصيه قيصر بورجيا ابن اسکندر بورجيا، صاحب المظالم المعروفه. و يطلق علي المبدا القائل باللجوء الي هذا الاسلوب توسلاالي الحکم ثم الي ترکيزه، اسم المکيافيليه، نسبه لمکيافيللي صاحب الکتاب.