مجريات التحکيم
فاختار أهل الشام عمرو بن العاص، و فيه ما فيه من مزايا الذکاء و المکر و الخديعة و حب الدنيا و هو (ليس من الله في شي ء) علي حد تعبير الإمام علي (ع). أما الجبهة العراقية، فقد اختارت أبا موسي الأشعري بتأثير الأغبياء و أصحاب المصالح من جيش الإمام علي (ع) و کان أبو موسي رجلا کليل الحد قليل الذکاء فضلا عن کونه ممن اعتزل عليا (ع) في حربه لأعدائه[1] . و تشير بعض الروايات إلي أن التمزق في جيش الإمام (ع) بلغ ذروته حتي هدده بعض المتنفذين من جنده أن يفعلوا به ما فعلوا بعثمان أو يدفعوه إلي معاوية[2] . و عند اجتماع الحکمين في دومة الجندل تحاور ابن العاص و أبو موسي الأشعري في عدد من المسائل تتجه جميعا باتجاه الأنسب بولاية أمر المسلمين!! و قد ذکر ابن العاص مزايا لمعاوية بن أبي سفيان و نوه لأبي موسي إن اختار معاوية لولاية أمر الناس سيکافأ مکافأة لا نظير لها، غير أن أبا موسي فهم القصد من إيراد ابن العاص لموضوع المکافأة فرفض أبو موسي ذلک و أعلن انه لا يرتشي في دين الله و حکمه، فلما يئس ابن العاص من إقناع الأشعري بتلک الفکرة استغفله بخطوة جديدة حيث عرض عليه فکرة خلع الإمام علي (ع) و معاوية بن أبي سفيان معا، فلما استحسن أبو موسي تلک الفکرة عرض عليه ابن العاص أن يبدأ بخلع صاحبه و انه لا يستحسن أن يتقدم علي صاحب رسول الله (ص) في ذلک. فتقدم أبو موسي و خلع عليا (ع) من ولاية أمر المسلمين کما خلع معاوية معه، اما ابن العاص، فقد أعلن موافقته علي خلع علي (ع) و تثبيت صاحبه معاوية. و هکذا غدر عمرو بن العاص بالأشعري، فما کان من الأشعري إلا أن قنعه بالسوط لما رأي من سوء فعله و غدره. و هکذا استغفل أبو موسي الأشعري رغم تحذير عبد الله بن عباس له من غدر ابن العاص. و بعد أن عاد الوفدان، سلم ابن العاص علي معاوية بالخلافة و لم يسلم عليه بمثلها قبل ذلک و کان ذلک عام (37 ه). أما أمير المؤمنين (ع) فقد رأي أن خديعة ابن العاص، و غفلة أبي موسي الأشعري، قد سببتا انتهاء التحکيم بطريقة غير صحيحة و لا سليمة، حيث کان الخداع و عدم الجدية واضحا من ابن العاصـکما رأيناـلذا فقد دعا الإمام علي (ع) إلي استئناف الحرب مجددا و أصدر بيانا إلي الامة جاء فيه: «أيها الناس قد کنت أمرتکم بأمر في هذه الحکومة فخالفتموني و عصيتموني و لعمري إن المعصية تورث الندم فکنت أنا و أنتم کما قال أخو هوازن: أمرتکم أمري بمنعرج اللوي*فلم تستبينوا الرشد إلا ضحي الغدألا إن هذين الحکمين قد نبذا کتاب الله وراء ظهورهما فأماتا ما أحيا القرآن و أحييا ما أمات، و اتبع کل واحد منهما هواه بغير هدي من الله فحکما بغير بينة و لا سنة ماضية و کلاهما لم يرشدا فبرئا من الله و رسوله و صالح المؤمنين فاستعدوا للجهاد و تأهبوا للمسير و أصبحوا في مواقفکم»[3] . إلا أن الإمام (ع) رغم اصراره علي الحرب، فقد رأي من الضروري ان يطوق فتنة الخوارج أولا.
علي أثر البلبلة التي أثارتها في صفوف جيش الإمام (ع) عملية رفع المصاحف الخمسمائة من قبل الجيش الأموي، و ما نجم عنها من تصدع شديد في الجبهة العراقية التي يقودها الإمام علي (ع)، و بروز القوي المتسترة بالاستقامة في جيش الإمام (ع) و ضغطها باتجاه فرض القبول بالأمر الواقع علي الإمام (ع)، اضطر أمير المؤمنين (ع) للاستجابة لأمر التحکيم بين الجبهتين.