دور المتغلغلين











دور المتغلغلين



ينبغي في الختام ألّا نغفل عن نقطةٍ في تحليل فتنة الخوارج واستقصاء جذورها، وتتمثّل هذه النقطة في دور المتغلغلين بخاصّة «القاسطين» في انحراف «المارقين»، مع تذکيرنا بصعوبة العثور علي وثائق تاريخيّة لإثبات هذا الموضوع نتيجةً للسرّيّة الموجودة في هذا المجال بشکل طبيعيّ، بَيْد أنّنا يتسنّي لنا أن نبلغ ما نصبوا إليه إلي حدٍّما عبر قرائن معيّنة، ومن هذه القرائن التي يمکن أن تساعد الباحث في هذا الحقل: دراسة دور الأشعث بن قيس في هذه الفتنة.[1] .

إنّ التأمّل في النصوص التاريخيّة، لاسيّما فيما ذکره کتاب «وقعة صفّين» الثمين حول الأشعث وموقفه في ذروة القتال يوم صفّين وما بعده لا يدع مجالاً للشکّ في أنّه لم يرتبط بالإمام عليه السلام ولم يُوالِه قطّ، وأنّه کان عنصراً متغلغلاً عميلاً لمعاوية في جيشه عليه السلام، ويعود ذلک إمّا لإقالته عن ولاية آذربايجان،[2] وعزله عن

[صفحه 290]

رئاسة قبيلته،[3] أو لتقلّباته الاعتقاديّة واضطراب عقائده الدينيّة، ممّا دفع ابن أبي الحديد أن يقول:

«کلّ فسادٍ کان في خلافة عليّ عليه السلام وکلّ اضطراب حدث فأصله الأشعث».[4] .

وکان الأشعث متّهماً بارتباطه بمعاوية، وهو نفسه کان منتبهاً إلي هذه النقطة، حذِراً منها، وکان يحاول ألّا يعمل ما يفضحه ويکشف للناس حقيقته، وقد راودته فکرة التوجّه إلي معاوية بعد عزله، فمنعه قومه من ذلک.[5] وارتباطاته مع معاوية، وحواره مع رُسُله إليه دليل علي نفاقه.[6] .

وعندما احتدم القتال، وتضعضع جيش معاوية، ولاحت في الاُفق بشائر آيات النصر لجيش الإمام عليه السلام، خطب الأشعث بقبيلته، وأفزعهم ذاکراً ترمّل النساء ويُتم الأطفال، فبان وهن عجيب في صفوفهم.[7] ولمّا رفع أصحاب معاوية المصاحف بمکيدة ابن العاص، خطب الأشعث وأکره الإمام عليه السلام علي قبول التحکيم.[8] وحينما وافق الإمام علي التحکيم، واختار مالک الأشتر أو عبد اللَّه بن عبّاس ممثّلاً عنه، عمل الأشعث بکلّ ماله من قوّة للحيلولة دون ذلک.[9] ولمّا کُتِب نصّ التحکيم رفعه أمام الجيش، فصاح بعض الأفراد قائلين: لا حکم إلّا

[صفحه 291]

للَّه.[10] و بعد أن انکشفت أسرار المؤامرة قليلاً هبّ أولئک المخدوعون فاتّهموا عليّاً عليه السلام بالإثم، وطلبوا منه أن يتوب. وعندما أراد عليه السلام أن يُخمد نار الفتنة باُسلوب لطيف، ويُعبّئ الناس نحو الشام واصل الأشعث إثارته للفتنة، وحاول أن يُرجع المخدوعين الذين کانوا عازمين علي الذهاب مذعنين بالحقّ إلي موضعهم الأوّل، فزاد بذلک إيقاد الفتنة.[11] .

وهکذا زرع الأشعث بذرة الفتنة، واتّخذ سبيله مع أشخاص کثيرين، وخرج من جيش الإمام عليه السلام، وقصد الکوفة.

وکان الأشعث ملوّث النفس، سقيم الفکر، ذا موقفٍ معادٍ، واستطاع أن يمارس دوراً خبيثاً مؤثّراً في إثارة الفتنة إبّان حرب النهروان. وکان يتّخذ المواقف من منطلق الأهواء، والميول المادّية، والعصبيّات القَبَليّة متلبّساً برداء المعايير الإلهيّة والإنسانيّة، وحريّ بالذکر أيضاً أنّ الإمام عليه السلام عندما اختار عبد اللَّه بن عبّاس للتحکيم قال الأشعث: لا واللَّه، لا يحکم فيها مُضريّان حتي تقوم الساعة، ولکن اجعله رجلاً من أهل اليمن إذ جعلوا رجلاً من مُضَر، فقال عليّ: إنّي أخاف أن يُخدع يمنيُّکم؛ فإنّ عمراً ليس من اللَّه في شي ء إذا کان له في أمرٍ هوي.

فقال الأشعث: واللَّهِ لأنْ يحکما ببعض ما نکره وأحدُهما من أهل اليمن، أحبُّ إلينا من أن يکون بعض ما نحبّ في حکمهما وهما مُضَريّان.

وهکذا فالعصبيّة القبليّة والعريکة الجاهليّة التي کان عليها الأشعث وعدد من

[صفحه 292]

أصحابه هي التي أوقدت فتنة النهروان بعد تلک الأحداث، ممّا أدّي إلي أن يُقرَن رجل أحمق غير واعٍ کأبي موسي الأشعري اليمني إلي رجل محتال ماکر مثير للفتن کعمرو بن العاص، ويبدّل من بعدها مجري التاريخ الإسلامي!

[صفحه 293]



صفحه 290، 291، 292، 293.





  1. راجع: القسم السادس عشر:الأشعث بن قيس.
  2. وقعه صفّين: 21.
  3. وقعة صفّين: 137 تا 139.
  4. شرح نهج البلاغة: 279:2 وليُتأمّل في تتمّة کلام ابن أبي الحديد.
  5. وقعة صفّين: 21.
  6. وقعة صفّين: 408، تاريخ اليعقوبي: 188:2.
  7. وقعه صفّين: 481.
  8. وقعة صفّين: 482.
  9. وقعة صفّين: 499.
  10. وقعة صفّين: 512.
  11. شرح نهج البلاغة: 280:2.