حبّ الدنيا











حبّ الدنيا



يمکن أن نعدّ حبّ الدنيا وتأثير مغرياتها العامل الثاني لانحراف الخوارج، مهما تعدّدت أشکال هذا الحبّ ومؤشّراته. وهذا الموضوع في الحقيقة أهمّ عامل في زيغ التيّارات الثلاثة: الناکثين والقاسطين والمارقين. وقد تعرّض الإمام عليه السلام إلي هذه الحقيقة في کلام عميق له قال فيه:

«فلمّا نهضتُ بالأمر نکثت طائفة، ومرَقَت اُخري، وقَسَط آخرون، کأنّهم لم يسمعوا کلام اللَّه حيث يقول: «تِلْکَ الدَّارُ الْأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي

[صفحه 276]

الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَ الْعَقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».[1] بلي واللَّه، لقد سمعوها ووَعَوْها، ولکنّهم حَلِيَت الدنيا في أعينهم، وراقهم زِبرِجُها.[2] .

ولعلّ ما جاء في التاريخ حول الخوارج يجعل التصديق بهذا الموضوع عسيراً بعض العُسر، ذلک أنّ قوماً اتّخذوا الزهد شعاراً لهم، وظهروا بمظهر العازفين عن الدنيا، وأتعبوا أنفسهم في العبادة، وجاوزوا حدّ الاعتدال فيها، ورغبوا عن مادّيات هذه الحياة، وکانوا يُبلون بلاءً حسناً في ميادين القتال، کيف يکون لحبّ الدنيا من معنيً بالنّسبة إليهم؟! وهنا ينبغي أن نقول: «هاهنا ألف مسألة هي أدقّ من الشعرة».[3] فللإقبال علي الدنيا معالم ووجوه، ذلک أنّ منهم مَن يتشدّد فيها علي نفسه حيناً، ويعنُف بها؛ لکي يکون مشهوراً محبوباً بين الناس، ويذيع صيته، ويتحدّث المتحدّثون باسمه! أجل:


کلّ من في الوجود يطلب صيداً
إنّما الإختلاف في الشبکاتِ


وليس للمرء أن يُخلِصَ دخيلته فيها ما لم يَخلَصْ من حبالة النفس وفخّ الشيطان، ومن الواضح أنّ الإقبال علي الدنيا- إذا کان في قالب التديّن ولباس أهل الآخرة- أخطر بکثيرٍ ممّا إذا کان في قالب حبّ الدنيا واللهث وراءها، وفي زيّ الإتراف. ذلک أنّ من العسير إدراک هذه الحقيقة من وراء ذلک الظاهر.

ولنا أن نلمس هذه الحقيقة بوضوح في تصوير شامل للإمام أميرالمؤمنين عليه السلام يتحدّث فيه عن أصناف الناس في عصره، قال عليه السلام:

[صفحه 277]

«ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامَنَ من شخصه، وقارَبَ من خَطوه، وشمّر من ثوبه، وزخرف من نفسه للأمانة، واتّخذ ستر اللَّه ذريعة إلي المعصية».[4] .

ومن الصعب تمييز النماذج الماثلة لطلّاب الدنيا بخاصّة طلّابها الذين عليهم مسحة التوجه إلي الآخرة، فهذا اللون من التوجّه لا يظهر إلّا عند محطّات الاختبار وفي منعطفات الحياة الوعرة، وهناک تنجلي جوهرة الباطن، ونِعمَ ما قاله الإمام عليه السلام في هذا المجال:

«في تقلّب الأحوال علم جواهر الرجال».[5] .

إن إدراک الحقيقة المستخفية وراء حجاب الرياء والتدليس أمر لا يهتدي إليه کلّ أحد؛ فهو يتطلّب بصيرة عميقة ثاقبة کبصيرة مالک الأشتر، حتي يتسنّي أن يُري حبّ الدنيا کامناً وراء السجدات الطويلة والنزعات الخادعة ببريق قداستها المفتعلة. لقد کان مالک علي مشارف النصر في صفّين، وتقدّم حتي اقترب من خيمة طلّاب السلطة، لکنّه اُکره علي التقهقر تحت ضغط «القرّاء». وحين عاد خاطبهم بحرقة وألم، فقال لهم:

«يا أصحاب الجباه السُّود! کنّا نظنّ صلاتکم زهادةً في الدنيا، وشوقاً إلي لقاء اللَّه عزّوجلّ، فلا أري فرارکم إلّا إلي الدنيا من الموت، ألا قبحاً يا أشباه النِّيْب الجلّالة».[6] .

[صفحه 278]

وهذا اللون من طلب الدنيا وضروب حبّها والرکون إليها ورد أيضاً في کلام تربويّ للإمام زين العابدين وسيّد الساجدين عليه السلام يبعث علي التذکير والتنبيه، فلنقرأه معاً:

«إذا رأيتم الرجل قد حَسُن سمته وهديه، وتماوَتَ في منطقه، وتخاضَع في حرکاته، فرويداً لا يغرّنّکم؛ فما أکثر من يعجزه تناول الدنيا ورکوب المحارم منها لضعف نيّته، ومهانته، وجُبن قلبه؛ فنَصَبَ الدين فخّاً لها، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره؛ فإن تمکّن من حرامٍ اقتحمه. وإذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام فرويداً لا يغرّنّکم؛ فإنّ شهوات الخلق مختلفة؛ فما أکثر من ينبو عن المال الحرام وإن کثر، ويحمل نفسه علي شوهاء قبيحة فيأتي منها محرّماً، فإذا وجدتموه يعفّ عن ذلک فرويداً لا يغرّکم حتي تنظروا ما عقده عقله، فما أکثر مَنْ ترک ذلک أجمع، ثمّ لا يرجع إلي عقل متين، فيکون ما يفسده بجهله أکثر ممّا يصلحه بعقله، فإذا وجدتم عقله متيناً، فرويداً لا يغرّکم حتي تنظروا: أمَع هواه يکون علي عقله، أو يکون مع عقله علي هواه ؟ وکيف محبّته للرئاسات الباطلة وزهده فيها؟ فإنّ في الناس من خسر الدنيا والآخرة بترک الدنيا للدنيا، ويري أنّ لذّة الرئاسة الباطلة أفضل من لذّة الأموال والنِّعم المباحة المحلّلة، فيترک ذلک أجمع طلباً للرئاسة الباطلة، حتي إذا قيل له: اتّقِ اللَّه، أخذته العزّة بالإثم، فحسبه جهنّم، ولبئس المهاد؛ فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أوّل باطل إلي أبعد غايات الخسارة، ويمدّه ربّه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يُحلّ ما حرّم اللَّه، ويُحرّم ما أحلّ اللَّه، لا يُبالي ما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد شقي من أجلها، فاُولئک الذين غضب اللَّه عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً مُهيناً.

ولکن الرجل کلّ الرجل نِعْمَ الرجل هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر اللَّه، وقواه

[صفحه 279]

مبذولة في رضي اللَّه، يري الذلّ مع الحقّ أقرب إلي عزّ الأبد من العزّ في الباطل، ويعلم أنّ قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه إلي دوام النعيم في دارٍ لا تبيد ولا تنفد، وأنّ کثير ما يلحقه من سرّائها إن اتّبع هواه يؤدّيه إلي عذاب لا انقطاع له ولا زوال، فذلکم الرجل نِعْم الرجل، فبه فتمسّکوا، وبسنّته فاقتدوا، وإلي ربّکم به فتوسّلوا؛ فإنّه لا تردّ له دعوة، ولا تخيب له طلبة».[7] .

[صفحه 281]



صفحه 276، 277، 278، 279، 281.





  1. القصص: 83.
  2. نهج البلاغة: الخطبة 3، الإرشاد: 289:1، الاحتجاج: 105:457:1، الطرائف: 418.
  3. ترجمة لمثل فارسي.
  4. نهج البلاغة: الخطبة 32، بحارالأنوار: 54:5:78.
  5. نهج البلاغة: الحکمة 217.
  6. تاريخ الطبري: 50:5، الکامل في التاريخ: 387:2؛ وقعة صفّين: 491.
  7. الاحتجاج: 192:159:2، التفسير المنسوب إلي الإمام العسکري عليه السلام: 27:53 کلاهما عن الإمام الرضا عليه السلام، بحارالأنوار: 10:84:2.