التطرّف الديني في اصطلاح الحديث











التطرّف الديني في اصطلاح الحديث



ذکرنا أنّ الإسلام دينٌ وسطٌ يرفض الإفراط، والتطرّف، والخروج عن الاعتدال، ولنا أن نلمس هذه الحقيقة في التعاليم الدينيّة بعناوين متنوّعة. منها: إنّنا نلحظ أنّ الإفراط والتطرّف وردا في لسان الأحاديث والروايات تحت عنوان «التعمّق»، قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله:

«إيّاکم والتعمّق في الدين! فإنّ اللَّه تعالي قد جعله سهلاً، فخذوا منه ما تطيقون؛ فإنّ اللَّه يحبّ مادام من عمل صالح وإن کان يسيراً».[1] .

ونُلقي فيما يأتي نظرة عابرة علي هذه المفردة مستهدين بما ذکره أرباب المعاجم.

قال الخليل بن أحمد الفراهيدي: المُتَعَمِّق: المبالغ في الأمر المنشود فيه الذي يُطلب أقصي غايته.[2] .

[صفحه 262]

وجاء في «لسان العرب»: المُتَعَمِّق: المبالغ في الأمر المتشدّد فيه الذي يطلب أقصي غايته.[3] .

ونجد هذا المعني أيضاً في کلام المحدّثين؛ فقد ذهبوا في شرح روايات جمّة إلي أنّ التعمّق هو الإغراق في الخروج عن الاعتدال، والإفراط في مقابل الاعتدال.[4] .

إنّ التنقيب عن مواضع استعمال «التعمّق» في المعاجم والأحاديث الإسلاميّة المنقولة في مصادر الفريقين لا يُريب الباحث في أنّ المراد من هذه الکلمة في الثقافة الإسلاميّة ليس إلّا الإفراط، والتطرّف، والخروج عن الاعتدال. وعلي أيّ حال لو لم يکن إلّا الحديث الذي أوردناه آنفاً لکفي به برهاناً علي ما نقول.

وکان النبيّ صلي الله عليه و آله يوصي أصحابه دائماً ألّا يتجاوزوا حدّ الاعتدال في اُمور الدين، ولا يُحرجوا أنفسهم، ولا يفقدوا حماسهم ونشاطهم في العبادة، وأن يُراعوا حدود السنّة، ولأنّ المجال هنا يضيق عن ذکر جلّ وصاياه وتعاليمه التربويّة المليئة بالدروس والعبر، الجديرة بالقراءة والتأمّل. فإننا نذکر نزداً يسيراً منها:

«ألا وإنّ لکلّ عبادة شِرّة، ثمّ تصير إلي فترة، فمن صارت شرّة عبادته إلي سنّتي فقد اهتدي، ومن خالف سنّتي فقد ضلّ، وکان عمله في تباب، أما إنّي

[صفحه 263]

اُصلّي وأنام، وأصوم وأفطر، وأضحک وأبکي؛ فمن رغب عن منهاجي وسنّتي فليس منّي».[5] .

وکان صلي الله عليه و آله ينظر في مرآة الزمان إلي أفراد من اُمّته يناهضون الحقّ لإفراطهم وتطرّفهم، ويصرّون علي موقفهم إصراراً سُرعان ما يُبعدهم عن الدين وحقائقه، ولذا قال في حقّهم: «إنّ أقواماً يتعمّقون في الدين يمرقون کما يمرق السهم من الرميّة».

وقال مشيراً إلي علامات هؤلاء: «إنّ فيکم قوماً يعبدون ويدأبون يعني يُعجبون الناس وتُعجبهم أنفسهم، يمرقون من الدين کما يمرق السهم من الرميّة».

فالتعمّق هو التطرّف والإفراط، وإذا ما جُعل ميزاناً لأفعال الآخرين فلا يُنتج إلّا الحکم الجائر؛ فيري الحقّ دوماً في جانبه، وليس للآخرين حظٌّ منه، وهذا النوع من الرؤي هو الذي يسبّب الفرقة، ويستبتع الزيغ ويوجِد الشقاق، وبالتالي فيصبح دغامة للکفر، وحسبنا في المقام کلام أميرالمؤمنين عليه السلام في بيان هذه الحقيقة، وأنّ التعمّق أحد اُسس الکفر، إذ يقول:

«والکفر علي أربع دعائم: علي التعمّق، والتنازع، والزيغ، والشقاق؛ فمن تعمّق لم يَنُب إلي الحقّ».[6] .

ومثل هؤلاء المتعمّقين بتماديهم في ظنونهم وأوهامهم، وإغراقهم في أفکارهم، ومن ثمّ أساليبهم المفرطة، لا يجدون مجالاً للإنابة إلي الحقّ، ومن

[صفحه 264]

هنا لا ينقادون للإسلام، وهل الإسلام إلّا التسليم للحقّ، والإقرار به، والخضوع له بعد فهمه؟

والمؤسف أنّ مشکلة الخوارج الکبري قد تمثّلت في توجّهاتهم المتطرّفة المفرطة اللامتناهية، لذلک آلَ أمرهم إلي حکمهم بالکفر علي کلّ من لا يري رأيهم ولا يعمل عملهم!



صفحه 262، 263، 264.





  1. کنز العمّال: 5348:35:3 نقلاً عن أبي القاسم بن بشران في أماليه عن عمر، الجامع الصغير: 2933:452:1.
  2. کتاب العين: 579.
  3. لسان العرب: 271:10، النهاية: 299:3.
  4. قال المجلسي في بيان ما روي عن الإمام الکاظم عليه السلام: «لا تعمّق في الوضوء»: أي بإکثار الماء، أو بالمبالغة کثيراً في إيصال الماء زائداً عن الإسباغ المطلوب». بحارالأنوار: 258:80 وراجع وسائل الشيعة: 434:1 «باب استحباب صفق الوجه بالماء قليلاً عند الوضوء وکراهة المبالغة في الضرب، والتعمّق في الوضوء» وصحيح البخاري: 2661:6 «باب ما يکره من التعمّق والتنازع في العلم والغلوّ في الدين والبِدع».
  5. الکافي: 1:85:2 وراجع کنز العمّال: 44439:276:16.
  6. نهج البلاغة: الحکمة 31، الکافي: 1:392:2 عن سليم بن قيس، الخصال: 74:232 عن الأصبغ بن نباتة، تحف العقول: 166 کلّها نحوه، روضة الواعظين: 53 وفيه «ينسب» بدل «ينب».