بدءُ تدفّق الاعتراض











بدءُ تدفّق الاعتراض



2607- تاريخ الطبري عن جندب الأزدي- في بيان مسير الإمام عليه السلام من صفّين إلي الکوفة-: ثمّ مضي عليّ غير بعيد، فلقيه عبد اللَّه بن وديعة الأنصاري، فدنا منه، وسلّم عليه وسايره.

فقال له: ما سمعت الناس يقولون في أمرنا؟

قال: منهم المعجب به، ومنهم الکاره له، کما قال عزّ وجلّ: «وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّکَ».[1] .

فقال له: فما قول ذوي الرأي فيه؟

قال: أمّا قولهم فيه فيقولون: إنّ عليّاً کان له جمع عظيم ففرّقه، وکان له حصن

[صفحه 227]

حصين فهدّمه، فحتّي متي يبني ما هدم، وحتي متي يجمع ما فرّق! فلو أنّه کان مضي بمن أطاعه- إذ عصاه من عصاه- فقاتل حتي يظفر أو يهلک إذاً کان ذلک الحزم.

فقال عليّ: أنا هدمت أم هم هدموا! أنا فرّقت أم هم فرّقوا! أمّا قولهم: إنّه لو کان مضي بمن أطاعه إذ عصاه من عصاه فقاتل حتي يظفر أو يهلک، إذاً کان ذلک الحزم؛ فواللَّه، ما غبي عن رأيي ذلک، وإن کنت لسخيّاً بنفسي عن الدنيا، طيّب النفس بالموت، ولقد هممت بالإقدام علي القوم، فنظرت إلي هذين قد ابتدراني- يعني الحسن والحسين- ونظرت إلي هذين قد استقدماني- يعني عبد اللَّه بن جعفر ومحمّد بن عليّ- فعلمت أنّ هذين إن هلکا انقطع نسل محمّد صلي الله عليه و آله من هذه الاُمّة، فکرهت ذلک، وأشفقت علي هذين أن يهلکا، وقد علمت أن لولا مکاني لم يستقدما- يعني محمّد بن عليّ وعبد اللَّه بن جعفر- وايم اللَّه، لئن لقيتهم بعد يومي هذا لألقينّهم وليسوا معي في عسکر ولا دار.[2] .

2608- الإمام عليّ عليه السلام- في جواب الخوارج المعترضين علي التحکيم قبل دخول الکوفة-: اللهمّ هذا مقامٌ من فَلَج[3] فيه کان أولي بالفلج يوم القيامة، ومن نَطِفَ[4] فيه أو غَلَّ فهو في الآخرة أعمي وأضلّ سبيلاً.

نشدتکم باللَّه! أتعلمون أنّهم حين رفعوا المصاحف، فقلتم: نُجيبهم إلي کتاب اللَّه، قلت لکم: إنّي أعلم بالقوم منکم، إنّهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إنّي

[صفحه 228]

صحبتهم وعرفتهم أطفالاً ورجالاً؛ فکانوا شرّ أطفال، وشرّ رجال، امضوا علي حقّکم وصدقکم، إنّما رفع القوم لکم هذه المصاحف خديعة ووهناً ومکيدة. فرددتم عليَّ رأيي، وقلتم: لا، بل نقبل منهم. فقلت لکم: اذکروا قولي لکم ومعصيتکم إيّاي؟

فلمّا أبيتم إلّا الکتاب، اشترطت علي الحَکَمَين أن يُحييا ما أحياه القرآن، وأن يُميتا ما أمات القرآن؛ فإن حکما بحکم القرآن فليس لنا أن نخالف حُکم من حَکَم بما في الکتاب، وإن أبيا فنحن من حکمهما بُرَآء.

فقال له بعض الخوارج: فخبّرنا أتراه عدلاً تحکيم الرجال في الدماء؟

فقال: إنّا لم نحکّم الرجال، إنّما حکّمنا القرآن، وهذا القرآن إنّما هو خطّ مسطور بين دفّتين لا ينطق، وإنّما يتکلّم به الرجال.

قالوا له: فخبّرنا عن الأجل؛ لِمَ جعلته فيما بينک وبينهم.

قال: ليتعلّم الجاهل، ويتثبّت العالم، ولعلّ اللَّه أن يُصلح في هذه الهدنة هذه الاُمّة. ادخلوا مصرکم رحمکم اللَّه.

ودخلوا من عند آخرهم.[5] .

2609- عنه عليه السلام- لمّا قال له رجل من أصحابه: نهيتنا عن الحکومة، ثمّ أمرتنا بها، فلم ندرِ أيّ الأمرين أرشد؟-: هذا جزاء من ترک العُقْدَة! أما واللَّه لو أنّي حين أمرتکم به حملتکم علي المکروه الذي يجعل اللَّه فيه خيراً، فإن استقمتم هديتکم، وإن اعوججتم قوّمتکم، وإن أبيتم تدارکتکم- لکانت الوثقي.

[صفحه 229]

ولکن بمن، وإلي من؟ اُريد أن اُداوي بکم وأنتم دائي؛ کناقش الشوکة بالشوکة وهو يعلم أنّ ضَلْعَها[6] معها! اللهمّ قد ملّت أطبّاءُ هذا الداء الدويّ، وکلّت النَّزَعة بأشطان الرَّکِيّ!

أين القوم الذين دُعوا إلي الإسلام فقبلوه، وقرؤوا القرآن فأحکموه، وهِيجوا إلي الجهاد فوَلِهوا وَلَهَ اللِّقاح إلي أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً، وصفّاً صفّاً. بعضٌ هلک، وبعضٌ نجا. لا يُبَشَّرون بالأحياء، ولا يُعَزَّون عن الموتي. مُرْهُ العيون من البکاء، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، علي وجوههم غبرة الخاشعين.

اُولئک إخواني الذاهبون. فحقّ لنا أن نظمأ إليهم، ونعضّ الأيدي علي فراقهم. إنّ الشيطان يُسنِّي لکم طُرُقَه، ويريد أن يَحُلّ دينکم عقدة عقدة، ويُعطيکم بالجماعة الفرقة، وبالفرقة الفتنة، فاصدفوا عن نزغاته ونَفَثاته، واقبلوا النصيحة ممّن أهداها إليهم، واعقِلوها علي أنفسکم.[7] [8] .

[صفحه 230]



صفحه 227، 228، 229، 230.





  1. هود: 118 و 119.
  2. تاريخ الطبري: 60:5، الکامل في التاريخ: 390:2؛ وقعة صفّين: 529 عن عبد الرحمن بن جندب.
  3. الفَلْج: الظَّفَر والفَوْز (لسان العرب: 347:2).
  4. نَطِف الرجل: اتُّهم بريبة، والنطف: التلطّخ بالعيب (الصحاح: 1434:4).
  5. الإرشاد: 270:1؛ تاريخ الطبري: 65:5 عن عمارة بن ربيعة، الکامل في التاريخ: 394:2 کلاهما نحوه.
  6. ضَلْعها: أي ميلها (النهاية: 96:3).
  7. قال ابن أبي الحديد ما ملخّصه: العُقدة: الرأي الوثيق. الدويّ: الشديد. النزَّعَة: جمع نازع؛ وهو الذي يستقي الماء. الأشطان: جمع شَطَن؛ وهو الحبل. الرَّکيّ: الآبار؛ جمع رَکيّة. الوَلَه: شدَّة الحبّ حتي يذهب العقل. اللِّقاح: الإبل ، والواحدة لقوح؛ وهي الحلوب. أخذو بأطراف الأرض: أي أخذوا علي الناس بأطراف الأرض؛ أي حصروهم. لا يبشّرون بالأحياء....: أي إذا ولد لأحدهم مولود لم يبشّر به. مَرهَت عينُ فلان: إذا فسدت لترک الکُحل. يُسنّي: يُسهّل. صدف عن الأمر: انصرف عنه. اعقلوها علي أنفسکم: أي اربطوها والزموها (شرح نهج البلاغة: 292:7 تا 296).
  8. نهج البلاغة: الخطبة 121، الاحتجاج: 99:438:1 وفيه إلي «الرَّکِيّ»، بحارالأنوار: 597:362:33 وراجع الاختصاص: 156.