رسالة الإمام لابنه الحسن في حاضرين











رسالة الإمام لابنه الحسن في حاضرين[1]



.

2606- الإمام الباقر عليه السلام: لمّا أقبل أميرالمؤمنين عليه السلام من صفّين کتب إلي ابنه الحسن عليه السلام:

[صفحه 216]

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

مِن الوالد الفانِ، المقرّ للزمان، المدبر العمر، المستسلم للدهر. الذامّ للدنيا، الساکن مساکن الموتي، والظاعن عنها غداً.

إلي المولود المؤمِّل ما لا يُدرَک، السالک سبيل من قد هلک، غرض الأسقام، ورهينة الأيّام، ورَميّة المصائب، وعبد الدنيا، وتاجر الغرور، وغريم المنايا، وأسير الموت، وحليف الهموم، وقرين الأحزان، ونُصب الآفات، وصريع الشهوات، وخليفة الأموات.

أمّا بعد، فإنّ فيما تبيّنتُ من إدبار الدنيا عنّي، وجموح الدهر عليَّ، وإقبال الآخرة إليَّ، ما يزَعُني[2] عن ذکر من سوايَ، والاهتمام بما ورائي، غير أنّي حيثُ تفرّد بي دون هموم الناس همُّ نفسي، فصدفني رأيي، وصرفني عن هواي، وصرّح لي محضُ أمري، فأفضي بي إلي جدٍّ لا يکون فيه لعبٌ، وصدقٍ لا يشوبه کذبٌ. ووجدتک بعضي، بل وجدتک کلّي حتي کأنّ شيئاً لو أصابک أصابني، وکأنّ الموت لو أتاک أتاني، فعناني من أمرک ما يعنيني من أمر نفسي، فکتبت إليک مستظهراً به إن أنا بقيتُ لک أو فنيتُ.

فإنّي اُوصيک بتقوي اللَّه- أي بُنيَّ- ولزوم أمره، وعمارة قلبک بذکره، والاعتصام بحبله. وأيُّ سببٍ أوثق من سببٍ بينک وبين اللَّه إن أنت أخذت به؟!

أحي قلبک بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوّهِ باليقين، ونوّرهُ بالحکمة، وذلّلهُ بذکر الموت، وقرّره بالفناء، وبصّرهُ فجائع الدنيا، وحذّره صولة الدهر وفحش تقلّب الليالي والأيّام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذکّره بما أصاب من کان

[صفحه 217]

قبلک من الأوّلين، وسِرْ في ديارهم وآثارهم، فانظر فيما فعلوا وعمّا انتقلوا، وأين حلّوا ونزلوا! فإنّک تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة، وحلّوا ديار الغربة، وکأنّک عن قليل قد صرت کأحدهم. فأصلح مثواک، ولا تبع آخرتک بدنياک، ودع القول فيما لا تعرف، والخطاب فيما لم تُکلّف. وأمسک عن طريق إذا خفت ضلالته فإنّ الکفّ عند حيرة الضلال خير من رکوب الأهوال. وأمر بالمعروف تکن من أهله، وأنکر المنکر بيدک ولسانک، وباين مَن فَعلَه بجهدک. وجاهد في اللَّه حقّ جهاده، ولا تأخُذْک في اللَّه لومة لائم. وخُض الغمرات للحقّ حيث کان، وتفقّه في الدين، وعوّد نفسک التصبّر علي المکروه ونعم الخُلق التصبّر! وألْجِئ نفسک في الاُمور کلّها إلي إلهک، فإنّک تُلجئها إلي کهف حريزٍ، ومانعٍ عزيزٍ. وأخلص في المسألة لربّک، فإنّ بيده العطاء والحرمان، وأکثر الاستخارة، وتفهّم وصيّتي، ولا تذهبنّ عنها صفحاً، فإنّ خير القول ما نفع. واعلم أنّه لا خير في علمٍ لا يُنفع، ولا ينتفع بعلمٍ لا يحقّ تعلّمه.

أي بُنيَّ، إنّي لمّا رأيتني قد بلغت سنّاً، ورأيتني أزداد وهناً، بادرتُ بوصيّتي إليک، وأوردتُ خصالاً منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن اُفضي إليک بما في نفسي، وأن أنقص في رأيي کما نُقِصتُ في جسمي، أو يسبقني إليک بعض غلبات الهوي وفِتن الدنيا، فتکون کالصّعب النفور. وإنّما قلب الحدث کالأرض الخالية ما اُلقي فيها من شي ءٍ قبلته. فبادرتک بالأدب قبل أن يقسو قلبک ويشتغل لبّک؛ لتستقبل بجدّ رأيک من الأمر ما قد کفاک أهل التجارب بغيته وتجربته، فتکون قد کُفيت مؤونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة، فأتاک من ذلک ما قد کنّا نأتيه، واستبان لک ما رُبّما أظلم علينا منه.

أي بُنيَّ، إنّي وإن لم أکن عُمّرتُ عمر من کان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم،

[صفحه 218]

وفکّرتُ في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتي عُدتُ کأحدهم، بل کأنّي بما انتهي إليّ من أمورهم قد عمّرتُ مع أوّلهم إلي آخرهم، فعرفت صفو ذلک من کدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لک من کلّ أمر نخيله[3] وتوخّيت لک جميله وصرفت عنک مجهوله، ورأيت حيث عناني من أمرک ما يعني الوالد الشفيق، وأجمعت عليه من أدبک أن يکون ذلک وأنت مقبل العمر ومقتبل الدهر، ذو نيّةٍ سليمةٍ ونفسٍ صافيةٍ، وأن أبتدِئک بتعليم کتاب اللَّه وتأويله، وشرائع الإسلام وأحکامه، وحلاله وحرامه، لا اُجاوز ذلک بک إلي غيره. ثمّ أشفقتُ أن يلتبس عليک ما اختلف الناس فيه من أهوائِهم مثل الذي التبس عليهم، فکان إحکام ذلک علي ما کرهت من تنبيهک له أحبّ إليّ من إسلامک إلي أمرٍ لا آمن عليک به الهلکة، ورجوت أن يوفّقک اللَّه فيه لرشدک، وأن يهديک لقصدک، فعهدت إليک وصيّتي هذه.

واعلم يا بُنيَّ، أنّ أحبّ ما أنت آخذٌ به إليّ من وصيّتي تقوي اللَّه والاقتصار علي ما فرضه اللَّهُ عليک، والأخذ بما مضي عليه الأوّلون من آبائک، والصالحون من أهل بيتک، فإنّهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم کما أنت ناظرٌ، وفکّروا کما أنت مفکّرٌ، ثمّ ردّهم آخر ذلک إلي الأخذ بما عرفوا والإمساک عمّا لم يکلّفوا، فإن أبت نفسک أن تقبل ذلک دون أن تعلم کما علموا فليکن طلبک ذلک بتفهّم وتعلّم، لا بتورّط الشبهات وغلوِّ الخصومات. وابدأقبل نظرک في ذلک بالاستعانة بإلهک والرغبة إليه في توفيقک، وترک کلّ شائبةٍ أولجتک في شبهةٍ، أو أسلمتک إلي ضلالةٍ. فإذا أيقنت أن قد صفا قلبک فخشع، وتمّ رأيک فاجتمع، وکان همّک في ذلک همّاً واحداً فانظر فيما فسّرتُ لک، وإن أنت لم يجتمع لک ما تحبّ من

[صفحه 219]

نفسک، وفراغ نظرک وفکرک، فاعلم أنّک إنّما تخبط العشواء،[4] وتورّط الظلماء. وليس طالب الدين من خبط أو خلط، والإمساک عن ذلک أمثل.

فتفهّم يا بُنيَّ وصيّتي، واعلم أنّ مالِک الموت هو مالِک الحياة، وأنّ الخالق هو المميت، وأنّ المفني هو المعيد، وأنّ المبتلي هو المعافي، وأنّ الدنيا لم تکن لتستقرّ إلّا علي ما جعلها اللَّه عليه من النعماء، والابتلاء، والجزاء في المعاد أو ما شاء ممّا لا نعلم، فإن أشکل عليک شي ءٌ من ذلک فاحمله علي جهالتک به، فإنّک أوّل ما خُلقتَ خُلقتَ جاهلاً ثمّ علمتَ. وما أکثر ما تجهل من الأمر ويتحيّر فيه رأيک، ويضلّ فيه بصرک! ثمّ تبصره بعد ذلک، فاعتصم بالذي خلقک ورزقک وسوّاک، وليکن له تعبّدک وإليه رغبتک ومنه شفقتک.

واعلم يا بُنيَّ أنّ أحداً لم يُنبِئ عن اللَّه کما أنبأ عنه الرسول صلي الله عليه و آله فارضَ به رائداً، وإلي النجاة قائداً، فإنّي لم آلُکَ نصيحةً. وإنّک لن تبلغ في النظر لنفسک- وإن اجتهدت- مبلغ نظري لک.

واعلم يا بُنيَّ أنّه لو کان لربّک شريک لأتتک رسله، ولرأيت آثار ملکه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولکنّه إلهٌ واحدٌ کما وصف نفسه، لا يضادّهُ في ملکه أحدٌ، ولا يزول أبداً ولم يزل. أوّلٌ قبل الأشياء بلا أوّليّةٍ، وآخرٌ بعد الأشياء بلا نهايةٍ. عظم عن أن تثبت ربوبيّته بإحاطة قلب أو بصر. فإذا عرفت ذلک فافعل کما ينبغي لمثلک أن يفعله في صغر خطره، وقلّة مقدرته، وکثرة عجزه؛ وعظيم حاجته إلي ربّه في طلب طاعته، والرهبة من عقوبته، والشفقة من سُخطه؛ فإنّه لم يأمرک إلّا بحَسنٍ، ولم ينهک إلّا عن قبيحٍ.

[صفحه 220]

يا بُنيَّ، إنّي قد أنبأتک عن الدنيا وحالها وزوالها وانتقالها، وأنبأتک عن الآخرة وما اُعدّ لأهلها فيها، وضربت لک فيهما الأمثال؛ لتعتبر بها وتحذو عليها. إنّما مثل من خبر الدنيا کمثل قومٍ سفرٍ نبا بهم منزلٌ جديبٌ، فأمّوا منزلاً خصيباً وجناباً مريعاً، فاحتملوا وعثاء الطريق وفراق الصديق، وخشونة السفر، وجشوبة المطعم؛ ليأتوا سعة دارهم ومنزل قرارهم، فليس يجدون لشي ءٍ من ذلک ألماً، ولا يرون نفقةً مغرماً، ولا شي ء أحبُّ إليهم ممّا قرّبهم من منزلهم، وأدناهم من محلّهم.

ومثلُ من اغترّ بها کمثل قومٍ کانوا بمنزلٍ خصيبٍ فنبا بهم إلي منزل جديب، فليس شي ءٌ أکره إليهم ولا أفظع عندهم من مفارقة ما کانوا فيه إلي ما يهجمون عليه ويصيرون إليه.

يا بُنيَّ، اجعل نفسک ميزاناً فيما بينک وبين غيرک، فأحبب لغيرک ما تُحبّ لنفسک، واکره له ما تکره لها، ولا تَظلم کما لا تُحبّ أن تُظلم، وأحسن کما تُحبّ أن يُحسن إليک، واستقبح من نفسک ما تستقبح من غيرک، وارض من الناس بما ترضاهُ لهم من نفسک، ولا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تحبّ أن يقال لک.

واعلم أنّ الإعجاب ضدّ الصواب، وآفةُ الألباب. فاسع في کدحک، ولا تکن خازناً لغيرک. وإذا أنت هُديتَ لقصدک فکن أخشع ما تکون لربّک.

واعلم أنّ أمامک طريقاً ذا مسافةٍ بعيدة ومشقّةٍ شديدة، وأنّه لا غني لک فيه عن حُسن الارتياد. قدّر بلاغک من الزاد مع خفّة الظهر، فلا تحملنّ علي ظهرک فوق طاقتک، فيکون ثقل ذلک وبالاً عليک. وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لک زادک إلي يوم القيامة فيوافيک به غداً حيث تحتاج إليه فاغتنمه وحمِّلهُ إيّاه،

[صفحه 221]

وأکثر من تزويده وأنت قادرٌ عليه، فلعلّک تطلبه فلا تجده. واغتنم من استقرضک في حال غناک؛ ليجعل قضاءه لک في يوم عُسرتک.

واعلم أنّ أمامک عقبةً کؤوداً،[5] المُخفّ فيها أحسنُ حالاً من المثقل، والمبطئ عليها أقبح حالاً من المسرع، وأنّ مهبطک بها لا محالة علي جنّة أو علي نار. فارتد لنفسک قبل نزُلک ووطّي المنزل قبل حلولک، فليس بعد الموت مُستعتبٌ، ولا إلي الدنيا منصرفٌ.

واعلم أنّ الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لک في الدعاء وتکفَّل لک بالإجابة، وأمرک أن تسأله ليعطيک وتسترحمه ليرحمک، ولم يجعل بينک وبينه من يحجبه عنک، ولم يُلجئک إلي من يشفع لک إليه، ولم يمنعک إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلک بالنقمة، ولم يعيّرک بالإنابة، ولم يفضحک حيث الفضيحة بک أولي، ولم يُشدّد عليک في قبول الإنابة، ولم يُناقشک بالجريمة، ولم يؤيسک من الرحمة. بل جعل نزوعک عن الذنب حسنةً، وَحَسَبَ سَيّئتک واحدةً، وَحَسَبَ حسنتک عشراً، وفتح لک باب المتاب. فإذا ناديته سمع نداءک، وإذا ناجيته علم نجواک، فأفضيت إليه بحاجتک، وأبثثته ذات نفسک، وشکوت إليه همومک، واستکشفته کروبک، واستعنته علي اُمورک، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر علي إعطائه غيُره من زيادة الأعمار وصحّة الأبدان وسعة الأرزاق. ثمّ جعل في يديک مفاتيح خزائنه بما أذن لک من مسألته، فمتي شئت استفتحت بالدّعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب[6] رحمته. فلا يُقنّطنّک إبطاء إجابته، فإنّ العطيّة علي قدر النيّة. وربّما اُخّرت عنک الإجابة ليکون ذلک أعظم لأجر

[صفحه 222]

السائل وأجزل لعطاء الآمل. وربّما سألت الشي ء فلا تُؤتاه واُوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً، أو صُرِف عنک لما هو خيرٌ لک. فلربّ أمرٍ قد طلبته فيه هلاک دينک لو اُوتيتَه. فلتکن مسألتک فيما يبقي لک جماله ويُنفي عنک وباله، فالمال لا يبقي لک ولا تبقي له.

واعلم أنّک إنّما خلقت للآخرة لا للدّنيا، وللفناء لا للبقاء، وللموت لا للحياة، وأنّک في منزل قلعة[7] ودار بُلغة[8] وطريق إلي الآخرة، وأنّک طريد الموت الذي لا ينجو منه هاربه، ولابدّ أنّه مدرکه، فکن منه علي حذرٍ أن يدرکک وأنت علي حال سيّئةٍ، قد کنت تُحدّث نفسک منها بالتّوبة فيحول بينک وبين ذلک، فإذا أنت قد أهلکت نفسک.

يا بُنيَّ، أکثر من ذکر الموت، وذکر ما تهجم عليه، وتُفضي بعد الموت إليه، حتي يأتيک وقد أخذت منه حذرک، وشددت له أزرک، ولا يأتيک بغتةً فيبهَرک. وإيّاک أن تغترّ بما تري من إخلاد أهل الدنيا إليها، وتکالبهم عليها، فقد نبّأک اللَّه عنها، ونعت لک نفسها، وتکشّفت لک عن مساويها، فإنّما أهلها کلابٌ عاويةٌ، وسباعٌ ضاريةٌ، يهرّ بعضها بعضاً، ويأکل عزيزُها ذليلَها، ويقهر کبيرُها صغيرَها. نَعَمٌ مُعقّلَةٌ، واُخري مهملةٌ، قد أضلّت عقولها ورکبت مجهولها. سروحُ عاهةٍ بوادٍ وعثٍ،[9] ليس لها راعٍ يُقيمها، ولا يُسيمها. سلکت بهم الدنيا طريق العمي، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدي، فتاهوا في حيرتها، وغرقوا في نعمتها، واتّخذوها ربّاً، فلعبت بهم ولعبوا بها ونسوا ماوراءها.

[صفحه 223]

رويداً يُسفر الظلام، کأن قد وردت الأظعان، يوشک من أسرع أن يلحق! واعلم أنّ من کانت مطيّته الليل والنهار فإنّه يُسار به وإن کان واقفاً، ويقطع المسافة وإن کان مقيماً وادعاً.

واعلم يقيناً أنّک لن تبلغ أملک ولن تعدو أجلک، وأنّک في سبيل من کان قبلک. فخفّض في الطلب، وأجمل في المکتسب فإنّه رُبَّ طلبٍ قد جرّ إلي حرب، فليس کلّ طالبٍ بمرزوق، ولاکلّ مُجملٍ بمحروم. وأکرم نفسک عن کلّ دنيّةٍ وإن ساقتک إلي الرغائب، فإنّک لن تعتاض بما تبذل من نفسک عوضاً. ولا تکن عبد غيرک وقد جعلک اللَّه حرّاً. وما خير خيرٍ لا يُنال إلّا بشرٍّ، ويسرٍ لا يُنالُ إلّا بعسرٍ.

وإيّاک أن توجف بک مطايا الطمع، فتوردک مناهل الهلکة. وإن استطعت ألّا يکون بينک وبين اللَّه ذُو نعمةٍ فافعل، فإنّک مدرکٌ قسمک وآخذٌ سهمک. وإنّ اليسير من اللَّه سبحانه أعظم وأکرم من الکثير من خلقه وإن کان کلٌّ منه.

وتلافيک ما فرط من صمتک أيسر من إدراکک ما فات من منطقک، وحفظ ما في الوعاء بشدّ الوکاء،[10] وحفظ ما في يديک أحبّ إليّ من طلب ما في يد غيرک. ومرارة اليأس خيرٌ من الطلب إلي الناس. والحرفة مع العفّة خيرٌ من الغني مع الفجور. والمرء أحفظ لسرّه. ورُبّ ساعٍ فيما يضرّه! مَن أکثر أهجر. ومن تفکّر أبصر. قارن أهل الخير تکن منهم. وباين أهل الشرّ تَبِن عنهم. بئس الطعام الحرام! وظلم الضعيف أفحش الظلم! إذا کان الرفق خُرقاً کان الخُرق رفقاً. ربّما کان الدواء داءً. وربّما نصح غير الناصح، وغشّ المستنصح. وإيّاک واتّکالک علي

[صفحه 224]

المُني فإنّها بضائع الموتي، والعقل حفظُ التجارب. وخير ما جرّبت ما وعظک. بادر الفرصة قبل أن تکون غُصّةً. ليس کلّ طالب يُصيب، ولا کلّ غائب يؤوب. ومن الفساد إضاعة الزاد ومفسدة المعاد. ولکلّ أمرٍ عاقبةٌ. سوف يأتيک ما قُدّر لک. التاجر مخاطرٌ. ورُبَّ يسيرٍ أنمي من کثيرٍ! لا خير في مُعينٍ مَهينٍ ولا في صديقٍ ظنين. ساهل الدهر ما ذلّ لک قعوده. ولا تخاطر بشي ءٍ رجاء أکثر منه. وإياک أن تجمح بک مطيّة اللجاج. احمل نفسک من أخيک عند صرمه[11] علي الصلة، وعند صدوده علي اللطف والمقاربة، وعند جموده علي البذل، وعند تباعده علي الدنوّ، وعند شدّته علي اللين، وعند جرمه علي العذر حتي کأنّک له عبدٌ وکأنّه ذو نعمةٍ عليک. وإيّاک أن تضع ذلک في غير موضعه، أو أن تفعله بغير أهله. لا تتّخذنّ عدوّ صديقک صديقاً فتعادي صديقک. وامحض أخاک النصيحة حسنةً کانت أو قبيحةً. وتجرّع الغيظ[12] فإنّي لم أر جُرعةً أحلي منها عاقبةً ولا ألذّ مغبّةً! ولمن غالظک فإنّه يوشک أن يلين لک. وخذ علي عدوّک بالفضل فإنّه أحلي الظفرين. وإن أردت قطيعة أخيک فاستبق له من نفسک بقيّةً ترجع إليها إن بدا له ذلک يوماً ما. ومن ظنّ بک خيراً فصدّق ظنّه. ولا تُضيعنّ حقّ أخيک اتّکالاً علي ما بينک وبينه، فإنّه ليس لک بأخٍ من أضعت حقّه. ولا يکن أهلک أشقي الخلق بک. ولا ترغبنّ فيمن زهد فيک. ولا يکوننّ أخوک أقوي علي قطيعتک منک علي صلته. ولا تکوننّ علي الإساءة أقوي منک علي الإحسان. ولا يکبرنّ عليک ظلم من ظلمک فإنّه يسعي في مضرّته ونفعک. وليس جزاء من سرّک أن تسوءه.

[صفحه 225]

واعلم يا بُنيَّ، أنّ الرزق رزقان: رزقٌ تطلبه، ورزقٌ يطلبک فإن أنت لم تأته أتاک. ما أقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغني! إنّ لک من دنياک ما أصلحت به مثواک. وإن جزعت علي ما تفلّتَ من يديک فاجزع علي کلّ ما لم يصل إليک. استدلّ علي ما لم يکن بما قد کان، فإنّ الاُمور أشباهٌ. ولا تکوننّ ممّن لا تنفعه العظة إلّا إذا بالغتَ في إيلامه، فإنّ العاقل يتّعظ بالآداب والبهائم لا تتّعظ إلّا بالضرب. اطرح عنک واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين. من ترک القصد جار. والصاحبُ مناسب. والصديقُ من صدق غيبُه. والهوي شريک العناء. ربّ قريبٍ أبعد من بعيدٍ، وربّ بعيدٍ أقربُ من قريبٍ. والغريب من لم يکن له حبيب. من تعدّي الحقّ ضاق مذهبه. ومن اقتصر علي قدره کان أبقي له. وأوثق سببٍ أخذتَ به سببٌ بينک وبين اللَّه! ومن لم يُبالِک فهو عدوّک. قد يکون اليأس إدراکاً إذا کان الطمع هلاکاً. ليس کلّ عورة تظهر ولا کلّ فرصةٍ تصاب. وربّما أخطأ البصير قصده وأصاب الأعمي رشده. أخِّرِ الشرّ فإنّک إذا شئت تَعجّلتَه. وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل. من أمن الزمان خانه، ومن أعظمه أهانه. ليس کلّ من رمي أصاب. إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان. سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار. إيّاک أن تذکر في الکلام ما يکون مضحکاً وإن حکيت ذلک عن غيرک. وإيّاک ومشاورة النساء فإنّ رأيهنّ إلي أفنٍ[13] وعزمهنّ إلي وهنٍ. واکفُف عليهنّ من أبصارهنّ بحجابک إيّاهنّ فإنّ شدّة الحجاب أبقي عليهنّ، وليس خروجهنّ بأشدّ من إدخالک من لا يوثق به عليهن، وإن استطعت أن لا يعرفن غيرک فافعل. ولا تُملّک المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإنّ المرأة ريحانةٌ وليست بقهرمانةٍ ولا تَعْدُ بکرامتها نفسها، ولا تُطمعها

[صفحه 226]

في أن تشفع بغيرها. وإيّاک والتغاير في غير موضع غيرة فإنّ ذلک يدعو الصحيحة إلي السقم والبريئة إلي الريب. واجعل لکلّ إنسانٍ من خدمک عملاً تأخذه به فإنّه أحري أن لا يتواکلوا في خدمتک. وأکرم عشيرتک فإنّهم جناحک الذي به تطير، وأصلک الذي إليه تصير، ويدک التي بها تصول. استودع اللَّه دينک ودنياک، واساله خير القضاء لک في العاجلة والآجلة والدنيا والآخرة، والسلام.[14] .



صفحه 216، 217، 218، 219، 220، 221، 222، 223، 224، 225، 226.





  1. جاء في نهج البلاغة أنّ الإمام عليه السلام کتب هذا الکتاب في «حاضرين»، وهي بالقرب من صفّين في طريقها المؤدّي إلي الکوفة. لکن في کشف المحجّة- بعد أن ذکر طرق أهل السنّة في رواية هذه الوصيّةقال: إنّه کتبها في «قِنَّسْرين». وبما أنّ قنّسرين قرب حلب وليست في طريق صفّين إلي الکوفة بل هي في الطريق المعاکس له تماماً؛ فالظاهر أنّ هذا النقل غير صحيح. وقال ابن أبي الحديد: أمّا قوله: «کتبها إليه بحاضرين» فالذي کنّا نقرؤه قديماً: «کتبها إليه بالحاضِرَين» علي صيغة التثنية؛ يعني: حاضر حلب وحاضر قنّسرين، وهي الأرباض والنواحي المحيطة بهذه البلاد، ثمّ قرأناه بعد ذلک علي جماعة من الشيوخ بغير لام، ولم يفسّروه. ومنهم من يذکره بصيغة الجمع لا بصيغة التثنية، ومنهم من يقول: «بخناصرين»؛ يظنّونه تثنية «خناصرة»، أو جمعها (شرح نهج البلاغة: 52:16).
  2. وَزَعه يَزَعُه وَزْعاً: إذا کَفَّهُ ومَنَعَهُ (النهاية: 180:5).
  3. نخَلَ الشي ء يَنخُله نْخلاً: صَفَّاه واختارَه (لسان العرب: 651:11).
  4. عَشَا عن الشي ء: ضعفَ بصرُه عنه. وخبَطَه خبطَ عشواء: لم يتعمّده (لسان العرب: 57:15).
  5. العَقَبة الکَؤود: أي الشاقة (النهاية: 137:4).
  6. شآبيب: جمع شُؤبُوبٍ، وهو الدُّفْعةُ من المطَر وغيره (النهاية: 436:2).
  7. قُلعة: أي تَحَوُّل وارتحال (النهاية: 102:4).
  8. بُلْغةٌ: کِفايةٌ (لسان العرب: 419:8).
  9. الوَعْث: وهو الرَّمْلُ، والمشيُ فيه يَشْتدّ علي صاحبه ويَشُقُّ (النهاية: 206:5).
  10. الوِکاء: الخيْطُ الذي تُشَدُّ به الصُّرَّة والکيسُ وغيرها (النهاية: 222:5).
  11. الصَّرمُ: القطع البائن، والهِجْرانُ (لسان العرب: 334:12).
  12. الغَيْظ: الغَضَبُ، وقيل: هو أشدُّ من الغضب (لسان العرب: 450:7).
  13. الأَفْنُ: النقص. ورجل أفين ومأفون، أي ناقص العقل (النهاية: 57:1).
  14. کشف المحجّة: 220 عن عمر بن أبي المقدام، نهج البلاغة: الکتاب 31، تحف العقول: 68 کلاهما نحوه. والنصّ المذکور مع أنّه منقول أيضاً في نهج البلاغة وتحف العقول، لکننا آثرنا نقله من کشف المحجّة باعتباره أجمع وأکمل منهما، مضافاً إلي احتواء الموسوعة علي عدد غفير من النصوص المنقولة عن نهج البلاغة؛ فکان من الأفضل أن يتعرّف ويطّلع القارئ علي نصوص سائر الکتب الحديثية الاُخري.