جهود الإمام للحيلولة دون الفتنة











جهود الإمام للحيلولة دون الفتنة



1202- تاريخ الطبري عن عبداللَّه بن محمّد عن أبيه: لمّا کانت سنة أربع وثلاثين کتب أصحاب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بعضهم إلي بعض: أن أقدموا؛ فإن کنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد. وکثر الناس علي عثمان ونالوا منه أقبح ما نِيل من أحد، وأصحاب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يرون ويسمعون؛ ليس فيهم أحد ينهي ولا يذبّ إلّا نُفَير، منهم: زيد بن ثابت، وأبو اُسَيد الساعدي، وکعب بن مالک، وحسّان بن ثابت.

فاجتمع الناس، وکلّموا عليّ بنَ أبي طالب، فدخل علي عثمان، فقال:

الناس ورائي، وقد کلّموني فيک، واللَّه ما أدري ما أقولُ لک، وما أعرِف شيئاً تَجهلُه، ولا أدلّک علي أمر لا تَعرفه؛ إنّک لتَعلم ما نعلم، ما سبقناک إلي شي ء

[صفحه 217]

فنُخبرَک عنه، ولا خلوْنا بشي ء فنُبلغَکَه، وما خُصِصنا بأمر دونک، وقد رأيتَ وسمعتَ، وصحبتَ رسولَ اللَّه صلي الله عليه و آله، ونلتَ صهره، وما ابن أبي قُحافة بأولي بعمل الحقّ منک، ولا ابنُ الخطّاب بأولي بشي ء من الخير منک، وإنّک أقرب إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله رَحِماً، ولقد نلتَ من صهر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ما لم ينالا، ولا سَبَقاک إلي شي ء.

فاللَّهَ اللَّهَ في نفسک؛ فإنّک واللَّه ما تُبصَّر من عمي، ولا تُعلَّم من جهل، وإنّ الطريق لواضح بيّن، وإنّ أعلام الدين لقائمة.

تعلم يا عثمان أنّ أفضل عباد اللَّه عند اللَّه إمامٌ عادل، هُدِي وهَدي، فأقام سنّةً معلومة، وأمات بدعةً متروکة، فواللَّه إنّ کلاًّ لبَيِّن، وإنّ السُّنن لقائمة لها أعلام، وإنّ البدَع لقائمةٌ لها أعلام، وإنّ شرّ الناس عند اللَّه إمامٌ جائر، ضلّ وضُلّ به، فأمات سنّة معلومة، وأحيا بدعةً متروکة، وإنّي سمعت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول:

«يؤتي يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصيرٌ ولا عاذر، فيُلقي في جهنّم، فيدور في جهنّم کما تدور الرحا، ثمّ يَرتطم في غَمرةِ جهنّم».

وإنّي اُحذّرک اللَّه، واُحذّرک سطوته ونقماته؛ فإنّ عذابه شديد أليم، واُحذّرک أن تکون إمام هذه الاُمّة المقتول؛ فإنّه يقال: يُقتل في هذه الاُمّة إمام، فيُفتح عليها القتل والقتال إلي يوم القيامة، وتُلبَّس اُمورُها عليها، ويترکهم شِيَعاً، فلا يُبصرون الحقّ؛ لعلوّ الباطل، يموجون فيها مَوجاً، وَيمرُجون[1] فيها مَرجاً.

فقال عثمان: قد واللَّهِ علمتُ، ليقولُنّ الذي قلتَ، أما واللَّهِ لو کنتَ مکاني ما عنّفتک، ولا أسلَمتک، ولا عبتُ عليک، ولا جئتُ مُنکَراً أن وصلتُ رَحماً،

[صفحه 218]

وسدَدْت خَلّة، وآويت ضائعاً، وولّيْت شبيهاً بمن کان عُمر يولِّي.

أنشدک اللَّه يا عليّ، هل تعلم أنّ المغيرة بن شعبة ليس هناک؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنّ عمر ولّاه. قال: نعم، قال: فلِمَ تلومني أن ولّيتُ ابن عامر في رحمه وقرابته؟ قال عليّ: ساُخبرک أنّ عمر بن الخطاب کان کلّ من ولّي فإنّما يطأ علي صماخه إن بلغه عنه حرف جلبه، ثمّ بلغ به أقصي الغاية، وأنت لا تفعل، ضعفت ورفقت علي أقربائک. قال عثمان: هم أقرباؤک أيضاً. فقال عليّ: لعمري إنّ رحمهم منّي لقريبة ولکنّ الفضل في غيرهم.

قال عثمان: هل تعلم أنّ عمر ولّي معاوية خلافته کلّها؟ فقد ولّيته. فقال عليّ: أنشدک اللَّه هل تعلم أنّ معاوية کان أخوف من عمر من يَرْفأ غلام عمر منه؟ قال: نعم. قال عليّ: فإنّ معاوية يقتطع الاُمور دونک وأنت تعلمها، فيقول للناس: هذا أمر عثمان فيبلغک ولا تغيّر علي معاوية.

ثمّ خرج عليّ من عنده وخرج عثمان علي أثره فجلس علي المنبر، فقال:

أمّا بعد؛ فإن لکلّ شي ء آفة، ولکلّ أمر عاهة، وإنّ آفة هذه الاُمّة وعاهة هذه النعمة عيّابون طعّانون يُرونکم ما تحبّون ويُسِرّون ما تکرهون، يقولون لکم وتقولون، أمثالُ النعام يتّبعون أوّل ناعق، أحبّ مواردها إليها البعيد، لا يشربون إلّا نَغَصاً، ولا يَرِدون إلّا عَکَراً، لا يقوم لهم رائد وقد أعيتهم الاُمور وتعذّرت عليهم المکاسب.

ألا فقد واللَّه عبتم عليّ بما أقررتم لابن الخطّاب بمثله، ولکنّه وطئکم برجله، وضربکم بيده، وقمعکم بلسانه، فدِنتم له علي ما أحببتم أو کرهتم، ولنتُ لکم، وأوطأت لکم کتفي، وکففت يدي ولساني عنکم، فاجترأتم عليّ، أما واللَّه لأنا

[صفحه 219]

أعزّ نَفَراً، وأقرب ناصراً، وأکثر عدداً وأقمن،[2] إن قلتُ: هلمّ، اُتي إليّ، ولقد أعددت لکم أقرانکم وأفضلت عليکم فضولاً، وکشرت لکم عن نابي، وأخرجتم منّي خلقاً لم أکن اُحسنه، ومنطقاً لم أنطق به، فکفّوا عليکم ألسنتکم وطعنکم وعيبکم علي ولاتکم؛ فإنّي قد کففت عنکم من لو کان هو الذي يکلّمکم لرضيتم منه بدون منطقي هذا. ألا فما تفقدون من حقّکم؟ واللَّه ما قصّرت في بلوغ ما کان يبلغ من کان قبلي، ومن لم تکونوا تختلفون عليه، فَضَل فضلٌ من مال؛ فما لي لا أصنع في الفضل ما اُريد، فِلمَ کنت إماماً؟

فقام مروان بن الحکم فقال: إن شئتم حکّمنا واللَّه بيننا وبينکم السيف، نحن واللَّه وأنتم کما قال الشاعر:


فَرَشْنا لکم أعراضَنا فنبَتْ بکم
مَعارسُکُم تَبنُون في دِمَنِ الثَّري


فقال عثمان: اسکت لا سکتّ، دعني وأصحابي، ما منطقُک في هذا! ألم أتقدّم إليک ألّا تنطق. فسکت مروان ونزل عثمان[3] .

1203- نهج البلاغة: من کلام له عليه السلام لمّا اجتمع الناس إليه وشکَوا ما نقموه علي عثمان وسألوه مخاطبته لهم واستعتابه لهم، فدخل عليه فقال:

إنّ الناس ورائي، وقد استسفروني بينک وبينهم، وواللَّه ما أدري ما أقول لک! ما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدلّک علي أمر لا تعرفه، إنّک لتعلم ما نعلم. ما سبقناک

[صفحه 220]

إلي شي ء فنخبرَک عنه، ولا خلونا بشي ء فنبلّغَکَهُ. وقد رأيتَ کما رأينا، وسمعتَ کما سمعنا، وصحبت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله کما صحبنا.

وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطّاب بأولي بعمل الحقّ منک، وأنت أقرب إلي أبي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وَشِيْجةَ رحمٍ منهما، وقد نلت من صِهْرِه ما لم ينالا.

فاللَّهَ اللَّهَ في نفسک! فإنّک- واللَّه- ما تُبصّر من عمي، ولا تُعلّم من جهل، وإنّ الطرق لواضحة، وإن أعلام الدين لقائمة. فاعلم أنّ أفضل عباد اللَّه عند اللَّه إمام عادل، هُديَ وهدي، فأقام سنّة معلومة، وأمات بِدْعة مجهولة. وإنّ السنن لنيّرة، لها أعلام، وإنّ البدع لظاهرة، لها أعلام. وإنّ شرّ الناس عند اللَّه إمام جائر ضَلّ وضُلّ به، فأمات سنّة مأخوذة، وأحيا بدعة متروکة.

وإنّي سمعت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول: «يؤتي يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيُلقي في نار جهنّم، فيدور فيها کما تدور الرَّحا، ثمّ يَرْتَبِط في قعرها».

وإنّي أنشدک اللَّه ألّا تکون إمام هذه الاُمّة المقتول؛ فإنّه کان يقال: يقتل في هذه الاُمّة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلي يوم القيامة، ويَلبِسُ اُمورها عليها، ويبثّ الفتن فيها، فلا يبصرون الحقّ من الباطل، يموجون فيها موجاً، ويمرُجون فيها مَرْجاً. فلا تکوننّ لمروان سيّقة[4] يسوقک حيث شاء بعد جلال السنّ وتَقَضّي العمر.

فقال له عثمان: کلّمِ الناسَ في أن يؤجّلوني، حتي أخرج إليهم من مظالمهم.

[صفحه 221]

فقال عليه السلام: ما کان بالمدينة فلا أجلَ فيه، وما غاب فأجلُه وصول أمرک إليه[5] .

1204- شرح نهج البلاغة عن ابن عبّاس: شهدت عتاب عثمان لعليّ عليه السلام يوماً، فقال له في بعض ما قاله:

نشدتک اللَّه أن تفتح للفرقة باباً! فلعهدي بک وأنت تطيع عتيقاً وابن الخطّاب طاعتَک لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ولست بدون واحد منهما، وأنا أمسّ بک رَحِماً، وأقرب إليک صهراً، فإن کنت تزعم أنّ هذا الأمر جعله رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لک فقد رأيناک حين توفّي نازعت ثمّ أقررت، فإن کانا لم يرکبا من الأمر جدَداً[6] فکيف أذعنت لهما بالبيعة، وبخعت بالطاعة؟! وإن کانا أحسنا فيما وليا، ولم اُقصّر عنهما في ديني وحسبي وقرابتي، فکن لي کما کنت لهما.

فقال عليّ عليه السلام: أمّا الفرقة، فمعاذ اللَّه أن أفتح لها باباً، واُسهّل إليها سبيلاً، ولکنّي أنهاک عمّا ينهاک اللَّه ورسوله عنه، وأهديک إلي رشدک. وأمّا عتيق وابن الخطّاب، فإن کانا أخذا ما جعله رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لي، فأنت أعلم بذلک والمسلمون، وما لي ولهذا الأمر وقد ترکته منذ حين! فأمّا أن لا يکون حقّي بل المسلمون فيه شرع فقد أصاب السهم الثُّغْرة،[7] وأمّا أن يکون حقّي دونهم فقد ترکته لهم، طبت به نفساً، ونفضت يدي عنه استصلاحاً.

وأمّا التسوية بينک وبينهما، فلستَ کأحدهما؛ إنّهما وليا هذا الأمر، فَظَلَفا[8] .

[صفحه 222]

أنفسهما وأهلهما عنه، وعُمْتَ فيه وقومک عوم السابح في اللُّجّة،[9] فارجع إلي اللَّه أبا عمرو، وانظر هل بقي من عمرک إلّا کَظِمْ ء الحمار؟![10] فحتّي متي وإلي متي؟!

أ لا تنهي سفهاء بني اُميّة عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم؟! واللَّه لو ظلم عامل من عمّالک حيث تغرب الشمس لکان إثمه مشترکاً بينه وبينک.

فقال عثمان: لک العتبي، وأفعل وأعزل من عمّالي کلّ من تکرهه ويکرهه المسلمون. ثمّ افترقا، فصدّه مروان بن الحکم عن ذلک، وقال: يجترئ عليک الناس؛ فلا تعزل أحداً منهم![11] .



صفحه 217، 218، 219، 220، 221، 222.





  1. مَرِج الأمرُ: التبسَ والختلطَ (لسان العرب: 365:2).
  2. يقال: قَمَنٌ وقَمِنٌ وقمين: أي خليق وجدير (النهاية: 111:4).
  3. تاريخ الطبري: 336:4، الکامل في التاريخ: 275:2، أنساب الأشراف: 174:6 نحوه، البداية والنهاية: 168:7؛ الجمل: 187 تا 190 عن ابن دأب.
  4. السَّيِّقَةُ: ما استاقهُ العدوُّ من الدوابّ (لسان العرب: 167:10).
  5. نهج البلاغة: الخطبة 164؛ العقد الفريد: 309:3 نحوه.
  6. رکب فلان جُدّةً من الأمر: إذا رأي فيه رأياً (لسان العرب: 108:3).
  7. الثُّغْرة: هي نُقرة النحر فوق الصدر (النهاية: 213:1).
  8. ظَلَف: أي کفّ ومنع (النهاية: 159:3).
  9. لُجَّة البحر: معظمهُ (النهاية: 233:4).
  10. ظِم ء الحمار: أي لم يبق من عمره إلّا اليسير، يقال: إنّه ليس شي ء من الدوابّ أقصر ظِمأً من الحمار (لسان العرب: 116:1).
  11. شرح نهج البلاغة: 15:9.