التمرّد في الكوفة











التمرّد في الکوفة



1179- أنساب الأشراف: کتب عثمان إلي اُمرائه في القدوم عليه للذي رأي من ضجيج الناس وشکيّتهم، فقدم عليه معاوية من الشام، وعبداللَّه بن سعد بن أبي سرح من المغرب، وعبداللَّه بن عامر بن کريز من البصرة، وسعيد بن العاص من الکوفة....

واغتنم أهل الکوفة غيبة معاوية عن الشام فکتبوا إلي إخوانهم الذين بحمص مع هانئ بن خطّاب الأرحبي يدعونهم إلي القدوم، ويشجّعونهم عليه، ويعلمونهم أنّه لا طاعة لعثمان مع إقامته علي ما ينکر منه.

فسار إليهم هانئ بن خطّاب مُغِذّاً[1] للسير راکباً للفلاة، فلمّا قرؤوا کتاب أصحابهم أقبل الأشتر والقوم المسيَّرون حتي قدموا الکوفة، فأعطاه القُرّاء والوجوه جميعاً مواثيقهم وعهودهم أن لا يدعوا سعيد بن العاص يدخل الکوفة

[صفحه 202]

والياً أبداً... وقام مالک بن الحارث الأشتر يوماً فقال: إنّ عثمان قد غيّر وبدّل، وحضّ الناس علي منع سعيد من دخول الکوفة.

فقال له قبيصة بن جابر بن وهب الأسدي- من ولد عميرة بن جدار-: يا أشتر! دام شترک، وعفا أثرک، أطلت الغيبة، وجئت بالخيبة، أتأمرنا بالفرقة والفتنة ونکث البيعة وخلع الخليفة؟

فقال الأشتر: يا قبيصة بن جابر! وما أنت وهذا، فواللَّه ما أسلم قومک إلّا کرهاً، ولا هاجروا إلّا فقراً، ثمّ وثب الناس علي قبيصة فضربوه وجرحوه فوق حاجبه.

وجعل الأشتر يقول: لا حُرَّ بوادي عَوْف،[2] من لا يذُد عن حوضه يُهَدَّم[3] ثمّ صلّي بالناس الجمعة وقال لزياد بن النضر: صلِّ بالناس سائر صلواتهم، والزم القصر، وأمر کميل بن زياد فأخرج ثابت بن قيس بن الخطيم الأنصاري من القصر، وکان سعيد بن العاص خلّفه علي الکوفة حين شخص إلي عثمان.

وعسکر الأشتر بين الکوفة والحيرة وبعث عائذ بن حملة في خمسمائة إلي أسفل کَسْکَر[4] مسلحة[5] بينه وبين البصرة، وبعث جمرة بن سنان الأسدي في خمسمائة إلي عين التمر[6] ليکون مسلحة بينه وبين الشام، وبعث هانئ بن

[صفحه 203]

أبي حيّة بن علقمة الهمداني ثمّ الوادعي إلي حلوان[7] في ألف فارس ليحفظ الطريق بالجبل، فلقي الأکراد بناحية الدَّيْنَوَر[8] وقد أفسدوا، فأوقع بهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة.

وبعث الأشتر أيضاً يزيد بن حجيّة التيمي إلي المدائن وأرض جُوْخا[9] وولّي عروة بن زيد الخيل الطائيّ ما دون المدائن، وتقدّم إلي عمّاله أن لايجبوا درهماً، وأن يسکّنوا الناس، وأن يضبطوا النواحي.

وبعث مالک بن کعب الأرحبي في خمسمائة فارس ومعه عبداللَّه بن کباثة- أحد بني عائذ اللَّه بن سعد العشيرة بن مالک بن اُدد بن زيد- إلي العُذيب ليلقي سعيد بن العاص ويردّه، فلقي مالک بن کعب الأرحبي سعيداً فردّه وقال: لا واللَّه، لا تشرب من ماء الفرات قطرة، فرجع إلي المدينة.

فقال له عثمان: ما وراءک؟

قال: الشرّ.

فقال عثمان: هذا کلّه عمل هؤلاء؛ يعني عليّاً والزبير وطلحة.

وأنهب الأشتر دار الوليد بن عقبة وکان فيها مال سعيد ومتاعه حتي قُلعت أبوابها. ودخل الأشتر الکوفة فقال لأبي موسي: تولَّ الصلاة بأهل الکوفة وليتولَّ حذيفة السواد والخراج.

[صفحه 204]

وکتب عثمان إلي الأشتر وأصحابه مع عبد الرحمن بن أبي بکر، والمسوَر بن مخرمة يدعوهم إلي الطاعة، ويعلمهم أنّهم أوّل من سنّ الفرقة، ويأمرهم بتقوي اللَّه ومراجعة الحقّ والکتاب إليه بالذي يحبّون.

فکتب إليه الأشتر: من مالک بن الحارث إلي الخليفة المبتلي الخاطئ الحائد عن سنّة نبيّه، النابذ لحکم القرآن وراء ظهره.

أمّا بعد، فقد قرأنا کتابک فانْهَ نفسک وعمّالک عن الظلم والعدوان وتسيير الصالحين نسمحْ لک بطاعتنا، وزعمت أنّا قد ظلمنا أنفسنا وذلک ظنّک الذي أرداک، فأراک الجور عدلاً، والباطل حقّاً، وأمّا محبّتنا فأن تنزع وتتوب وتستغفر اللَّه من تجنّيک علي خيارنا، وتسييرک صلحاءنا، وإخراجک إيّانا من ديارنا، وتوليتک الأحداث علينا، وأن تولّي مصرنا عبداللَّه بن قيس أبا موسي الأشعري وحذيفة فقد رضيناهما، واحبس عنّا وليدک وسعيدک ومن يدعوک إليه الهوي من أهل بيتک إن شاء اللَّه، والسلام.

وخرج بکتابهم يزيد بن قيس الأرحبي، ومسروق بن الأجدع الهمداني، وعبداللَّه بن أبي سبرة الجعفي- واسم أبي سبرة يزيد- وعلقمة بن قيس أبو شبل النخعي، وخارجة بن الصلت البرجمي- من بني تميم- في آخرين.

فلمّا قرأ عثمان الکتاب قال: اللهمّ إنّي تائب، وکتب إلي أبي موسي وحذيفة: أنتما لأهل الکوفة رضيً، ولنا ثقة، فتولّيا أمرهم، وقوما به بالحقّ، غفر اللَّه لنا ولکما.

فتولّي أبو موسي وحذيفة الأمر وسکّن أبو موسي الناس[10] .

[صفحه 205]

1180- مروج الذهب: لمّا اتّصلت أيّام سعيد [بن العاص] بالکوفة ظهرت منه اُمور منکرة، فاستبدّ بالأموال، وقال في بعض الأيّام أو کتب به عثمان: إنّما هذا السواد قَطين[11] لقريش.

فقال له الأشتر- وهو مالک بن الحارث النخعي-: أتجعل ما أفاء اللَّه علينا بظلال سيوفنا ومراکز رماحنا بستاناً لک ولقومک؟

ثمّ خرج إلي عثمان في سبعين راکباً من أهل الکوفة فذکروا سوء سيرة سعيد بن العاص، وسألوا عزله عنهم.

فمکث الأشتر وأصحابه أيّاماً لا يخرج لهم من عثمان في سعيد شي ء، وامتدّت أيّامهم بالمدينة، وقدم علي عثمان اُمراؤه من الأمصار، منهم: عبداللَّه ابن سعد بن أبي سرح من مصر، ومعاوية من الشام، وعبداللَّه بن عامر من البصرة، وسعيد بن العاص من الکوفة، فأقاموا بالمدينة أيّاماً لا يردّهم إلي أمصارهم، وکراهة أن يردّ سعيداً إلي الکوفة، وکره أن يعزله،حتي کتب إليه من بأمصارهم يشکون کثرة الخراج وتعطيل الثغور.

فجمعهم عثمان وقال: ما ترون؟

فقال معاوية: أمّا أنا فراضٍ بي جندي.

وقال عبداللَّه بن عامر بن کريز: ليکفک امرؤ ما قبله أکفِک ما قبلي.

وقال عبداللَّه بن سعد بن أبي سرح: ليس بکثير عزل عامل للعامّة وتولية غيره.

[صفحه 206]

وقال سعيد بن العاص: إنّک إن فعلت هذا کان أهل الکوفة هم الذين يولّون ويعزلون، وقد صاروا حلقاً في المسجد ليس لهم غير الأحاديث والخوض، فجهّزهم في البعوث حتي يکون همّ أحدهم أن يموت علي ظهر دابّته.

قال: فسمع مقالته عمرو بن العاص فخرج إلي المسجد، فإذا طلحة والزبير جالسان في ناحية منه، فقالا له: تعالَ إلينا، فصار إليهما، فقالا: ما وراءک؟ قال: الشرّ، ما ترک شيئاً من المنکر إلّا أتي به وأمره به.

وجاء الأشتر فقالا له: إنّ عاملکم الذي قمتم فيه خطباء قد ردّ عليکم وأمر بتجهيزکم في البعوث وبکذا وبکذا.

فقال الأشتر: واللَّه، لقد کنّا نشکو سوء سيرته وما قمنا فيه خطباء، فکيف وقد قمنا؟! وايمُ اللَّه علي ذلک، لولا أنّي أنفدت النفقة وأنضيت الظهر لسبقته إلي الکوفة حتي أمنعه دخولها.

فقالا له: فعندنا حاجتک التي تقوم بک في سفرک.

قال: فأسلفاني إذاً مائة ألف درهم.

قال: فأسلفه کلّ واحد منهما خمسين ألف درهم، فقسمها بين أصحابه، وخرج إلي الکوفة فسبق سعيداً، وصعد المنبر وسيفه في عنقه ما وضعه بعد.

ثمّ قال: أمّا بعد؛ فإنّ عاملکم الذي أنکرتم تعدّيه وسوء سيرته قد رُدّ عليکم، وأمر بتجهيزکم في البعوث، فبايِعوني علي أن لا يدخلها، فبايعه عشرة آلاف من أهل الکوفة، وخرج راکباً متخفّياً يريد المدينة أو مکّة، فلقي سعيداً بواقصة فأخبره بالخبر، فانصرف إلي المدينة.

وکتب الأشتر إلي عثمان: إنّا واللَّه ما منعنا عاملک الدخول لنفسد عليک

[صفحه 207]

عملک، ولکن لسوء سيرته فينا وشدّة عذابه، فابعث إلي عملک من أحببت.

فکتب إليهم: انظروا من کان عاملکم أيّام عمر بن الخطّاب فولّوه، فنظروا فإذا هو أبو موسي الأشعري، فولّوه[12] .



صفحه 202، 203، 204، 205، 206، 207.





  1. أغذّ: إذا أسرع في السَّير (النهاية: 347:3).
  2. أي أنّه يقهر من حلّ بواديه، فکلّ من فيه کالعبد له لطاعتهم إيّاه (مجمع الأمثال: 194:3).
  3. إشارة إلي قول زهير بن أبي سلمي في معلّقته:


    ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه
    يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلم.

  4. هي کورة واسعة قصبتها واسط التي بين الکوفة والبصرة (معجم البلدان: 461:4).
  5. المَسْلَحة: قوم في عدّة بموضع رصد قد وکِّلوا به بإزاء ثغر، واحدهم مسلحيّ (لسان العرب: 487:2).
  6. هي بلدة قريبة من الأنبار غربيّ الکوفة (معجم البلدان: 176:4).
  7. حُلْوَان: من مدن العراق المهمّة بعد الکوفة والبصرة وواسط وبغداد وسامرّاء. وهي آخر مدن العراق، ومنها يُصعد إلي الجبال، وبينها وبين بغداد خمس مراحل. فتحت سنة 16 أو 19 للهجرة (راجع تقويم البلدان: 307).
  8. الدَّيْنَوَر: بلدة من بلاد الجبل عند قرميسين، وبينها وبين الموصل أربعون فرسخاً (تقويم البلدان: 415).
  9. هواسم نهر عليه کورة واسعة في سواد بغداد، وهو بين خانقين وخوزستان (معجم البلدان: 179:2).
  10. أنساب الأشراف: 156:6، ولمزيد الاطّلاع علي مسيّري الکوفة وقصّتهم راجع الفتوح: 384:2 تا 402.
  11. القَطِين: تُبّاع المَلکِ ومماليکه، والخدم والحشَمَ (لسان العرب: 343:13).
  12. مروج الذهب: 346:2.