الثورة علي عثمان











الثورة علي عثمان



قام عثمان بن عفّان من بين أعضاء الشوري التي کان عمر بن الخطّاب قد شکّلها، فتربّع علي أريکة الحکم. وأرسي دعائم حکومته منذ البداية علي قواعد مخالفة للسيرة النبويّة[1] وکانت ممارساته، سواءً في تعامله مع الناس والصحابة، أم کانت في موقفه من أحکام الدين مَدْعاةً لاحتجاج الأمّة عليه، فوُصِم بمعارضة السنّة النبويّة وانتهاک حُرمة الدين. وکان منقاداً لبِطانةِ سقيمة الفکر زائغة النهج قد حاقت به، فلم تدعه يأخذ الخطر المُحْدِق به مأخذ الجدّ، ولا يکترث بالاحتجاجات والانتقادات الموجّهة إليه.

تدلّ النصوص المذکورة في الصفحات المتقدّمة علي اتّساع نطاق الشذوذ في حکومة عثمان، کما تدلّ علي زيغه عن الحقّ وإلغائه للمعايير السليمة. ويري بعض المؤرّخين أنّ السنين الستّ الاُولي من حکومته کانت هادئة لم تطرأ فيها

[صفحه 198]

حادثة تُذکَر ولم يعترض عليها أحدٌ يومئذٍ، ثمّ حدثت تبدّلات متنوّعة،[2] ولکن هذا الرأي لم يکن صحيحاً، إذ بدأ عثمان انحرافه منذ الأيّام الاُولي لتبلور حکومته، بإرجاعه الحکم بن العاص ومروان، وتسليطهما علي الاُمّة، وزاد في ذلک أيضاً بتأمير أقاربه علي الأمصار، وإسرافه الفاضح من بيت المال. فأثار عمله هذا صحابة النبيّ صلي الله عليه و آله منذ البداية، بَيْد أنّ المعارضة العامّة والنهوض والتحرّک الجماعي ضدّه حدثت في السنين الستّ الأخيرة من حکومته[3] .

في سنة (33 ه ) أقدم عثمان علي نفي ثلّة من کبار أهل الکوفة وصالحيهم، وکان فيهم بعض الصحابة أيضاً[4] وبعد مدّة ثار الکوفيّون في سنة (34 ه ) مطالبين بعزل سعيد بن العاص والي الکوفة، فلم يُصغِ عثمان إلي طلبهم، فحالوا دون دخوله مدينتهم مقاوِمين. فاضطرّ عثمان بعدئذ إلي عزله راضخاً لمطالبهم- وکان سعيد من أقربائه- وعيّن مکانه أبا موسي الأشعري الذي کان يرتضيه أهل الکوفة. وفي تلک السنة تراسل الصحابة وخطّطوا للثورة علي عثمان طاعنين بتصرّفاته الشاذّة. وممّا جاء في مراسلاتهم قولهم:

«إن کنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد».

وبلّغ أميرالمؤمنين عليه السلام عثمان احتجاجات الصحابة، ووعظه باُسلوب ليّن لعلّه يثوب إلي رشده، ويغيّر منهجه في الحکم، ويستقيم علي الطريقة، لکنّه لم يستجب وخطب خطبة شديدة اللهجة عنّف فيها المعترضين ولجأ فيها إلي التهديد.

[صفحه 199]

وکتب طلحة وبعض الصحابة الآخرين کتاباً إلي أهل مصر (وغيرها من الأمصار الإسلاميّة) يَدْعونهم فيها إلي الثورة علي عثمان. وفي أعقاب هذه الدعوة وسواها، ونتيجةً لجميع ضروب الشذوذ، وعدم اعتناء عثمان باحتجاجات الناس وانتقاداتهم تقاطر علي المدينة جماعات مختلفة من مصر، والکوفة، والبصرة، وحاصروا عثمان يؤازرهم عدد من الصحابة، وطالبوه بکلّ حزم أن يعتزل الحکم. وکان لعائشة، وطلحة بن عبيد اللَّه، وعمرو بن العاص دور مهمّ في إلهاب الثورة عليه. وقالت عائشة قولها المشهور فيه إبّان تلک الأحداث:

«اقتلوا نعثلاً، قتل اللَّه نعثلاً».

وتناقلت الألسن قولها هذا، واشتهر في الآفاق بعد ذلک التاريخ.

ويبدو أنّ عثمان قد أفاق بعدئذٍ من نومه الثقيل الذي کانت بطانته قد فرضته عليه من قبل، وشعر بالخطر. من هنا، طلب من الإمام عليه السلام أن يصرف الثوّار عن أهدافهم، وعاهده علي تغيير سياسته، والعمل کما يريدون، فتکلّم الامام عليه السلام معهم وأقنعهم بفکّ الحصار عنه، ووعدهم عثمان بتلبية طلباتهم وألّا يکرّر النهج الذي کان قد سلکه من قبل وأن يعمل بکتاب اللَّه تعالي، وسنّة نبيّه صلي الله عليه و آله...

وخطب عثمان خطبة أعلن فيها صراحةً توبته من فعلاته السابقة، وقال أمام الحشد الغفير من المسلمين: «أستغفر اللَّه ممّا فعلتُ وأتوب إليه».

وقال نادماً، وهو غارق في حيرته:

«فواللَّه، لئن ردّني الحقّ عبداً لَأستنّ بسنّة العبد، ولَأذلنّ ذلّ العبد، ولَأکوننّ کالمرقوق...».

وانتهي الحصار، وعاد المصريّون إلي بلادهم مع واليهم الجديد محمّد بن

[صفحه 200]

أبي بکر، وعزم سائر المسلمين علي الرجوع إلي مدائنهم، وآبَ أهل المدينة إلي دورهم وحياتهم اليوميّة...

لکن المؤسف أنّ هذه التوبة لم تدم طويلاً، فقد تدخّلت البطانة الأمويّة المريضة الفکر والعمل- لا سيّما مروان- وجعلته يعدل عن قراره، وافتعلت ضجّة ضيّقت عليه الأرض بما رحبت، فتراجع ونقض جميع وعوده، والثوّار لمّا يصلوا إلي أمصارهم بعد. وکان هذا التغيّر في الموقف علي درجة من القبح حتي صاحت نائلة زوجته قائلةً:

«إنّهم واللَّه قاتلوه ومؤثّموه، إنّه قال مقالةً لا ينبغي أن ينزع عنها».

وحين کان المصريّون في طريق عودتهم إلي مصر- بعد وعود عثمان- تفطّنوا في أحد المواضع إلي أنّ غلاماً لعثمان متوجّه إلي مصر أيضاً، فشکّوا فيه واستوقفوه، فاستبان أنّه رسوله إلي مصر، وفتّشوه فوجدوا عنده حکم عثمان إلي واليه علي مصر عبداللَّه بن سعد بن أبي سرح يأمره فيه بقتل عدد من الثوّار.

وکان الکتاب بخطّ کاتب عثمان وعليه ختمه، وعندئذٍ عاد الثوّار إلي المدينة وحاصروا عثمان مرّة أخري... فلم يُجْدِ نفعاً حينئذٍ کلام وسيط، ولم تُقبل توبة... واستغاث عثمان هذه المرّة بمعاوية يستنجده لإنقاذه بشکل من الأشکال. بَيْد أنّ معاوية الذي کان متعطّشاً للسلطة والتسلّط وجد الفرصة مؤاتية لرکوب الموجة والقفز علي أريکة الحکم. من هنا لم يُسارع إلي إغاثة عثمان والذبّ عنه وإنقاذه حتي يقتل، ومن ثمّ يتربّع علي العرش بذريعة المطالبة بدمه.

ودام الحصار أربعين يوماً. وفيها طلب عثمان من الإمام عليه السلام مرّتين أن يخرج

[صفحه 201]

من المدينة، فاستجاب عليه السلام لذلک. کما طلب منه في کلّ منهما أن يرجع، وفعل عليه السلام أيضاً. وأعان کبار الصحابة الثوّار في هذا الحصار. والقلّة الباقية منهم کانوا إمّا مؤيّدين لعثمان، أو لم يبدوا معارضة علنيّة له.

وهکذا قُتل عثمان في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة سنة (35 ه ) بفعل اقتحام الثوّار داره- بعد أن کان أحدهم قد قُتل بسيف مروان. وسنتحدّث في بداية الفصول القادمة عن العوامل التي مهّدت لثورة المسلمين علي عثمان ومقتله.



صفحه 198، 199، 200، 201.





  1. راجع: مبادئ الثورة علي عثمان/العفو عن قاتل الهرمزان وابنة أبي لؤلؤة.
  2. تاريخ الإسلام للذهبي: 431:3.
  3. تاريخ اليعقوبي: 163:2.
  4. راجع: مبادئ الثورة علي عثمان/تسيير جماعة من صلحاء الاُمّة.