نفي أبي ذر











نفي أبي ذر



1159- شرح نهج البلاغة: إنّ أبا ذرّ لمّا دخل علي عثمان، قال له: لا أنعم اللَّه بک عيناً يا جُنَيْدِب! فقال أبو ذرّ: أنا جُنيدب، وسمّاني رسولُ اللَّه صلي الله عليه و آله عبدَ اللَّه، فاخترتُ اسمَ رسول اللَّه الذي سمّاني به علي اسمي.

فقال عثمان: أنت الذي تزعم أنّا نقول: إنّ يد اللَّه مغلولة؛ وإنّ اللَّه فقير ونحن أغنياء!

فقال أبو ذرّ: لو کنتم لا تزعمون لأنفقتم مالَ اللَّه علي عباده! ولکنّي أشهد لَسمعتُ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً جعلوا مالَ اللَّه دولاً، وعبادَ اللَّه خولاً، ودينَ اللَّه دخلاً[1] .

فقال عثمان لمن حضره: أسَمِعتموها من نبي اللَّه؟! فقالوا: ما سمعناه. فقال عثمان: ويلک يا أبا ذرّ! أتکذب علي رسول اللَّه!

فقال أبو ذرّ لمن حضر: أما تظنّون أنّي صدقت! قالوا: لا واللَّه ما ندري.

فقال عثمان: ادعُوا لي عليّاً. فدُعيَ، فلمّا جاء قال عثمان لأبي ذرّ: اقصُص عليه حديثک في بني أبي العاص! فحدّثه، فقال عثمان لعليٍّ: هل سمعتَ هذا من

[صفحه 172]

رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؟

فقال عليّ عليه السلام: لا، وقد صدق أبو ذرّ.

قال عثمان: بمَ عرفت صدقه؟

قال: لأنّي سمعتُ رسولَ اللَّه صلي الله عليه و آله يقول: ما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء من ذي لَهجةٍ أصدق من أبي ذرّ[2] .

فقال جميع من حضر من أصحاب النبيّ صلي الله عليه و آله: لقد صدق أبو ذرّ. فقال أبو ذرّ: اُحدّثکم أنّي سمعت هذا من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ثمّ تتّهمونني!! ما کنتُ أظنّ أنّي أعيش حتي أسمع هذا من أصحاب محمّد[3] .

1160- تاريخ اليعقوبي: بلغ عثمان أنّ أبا ذرّ يقع فيه، ويذکر ما غُيّر وبُدّل من سنن رسول اللَّه، وسنن أبي بکر وعمر، فسيّره إلي الشام إلي معاوية.

وکان يجلس في المسجد، فيقول کما کان يقول، ويجتمع إليه الناس، حتي کثر من يجتمع إليه، ويسمع منه. وکان يقف علي باب دمشق- إذا صلّي صلاة الصبح فيقول: جاءت القطار تحمل النار، لعن اللَّه الآمرين بالمعروف والتارکين له، ولعن اللَّه الناهين عن المنکر والآتين له.

[صفحه 173]

وکتب معاوية إلي عثمان: إنّک قد أفسدتَ الشام علي نفسک بأبي ذرّ. فکتب إليه: أن احمله علي قَتَب[4] بغير وطاءٍ. فقدِم به إلي المدينة، وقد ذهب لحم فخذيه....

فلم يُقِم بالمدينة إلّا أياماً، حتي أرسل إليه عثمان: واللَّه لتخرجنّ عنها!

قال: أتُخرجني من حرم رسول اللَّه؟! قال: نعم، وأنفک راغم.

قال: فإلي مکّة؟ قال: لا.

قال: فإلي البصرة؟ قال: لا.

قال: فإلي الکوفة؟ قال: لا ولکن إلي الرَّبَذة التي خرجتَ منها، حتي تموت بها. يا مروان، أخرِجه، ولا تدَع أحداً يُکلّمه حتي يخرج[5] .

1161- مروج الذهب- في ذکر ما طُعن به علي عثمان-: ومن ذلک ما فعل بأبي ذرّ؛ وهو أنّه حضر مجلسَه ذات يوم، فقال عثمان: أرأيتم من زکّي ماله، هل فيه حقّ لغيره؟ فقال کعب: لا، يا أميرالمؤمنين.

فدفع أبو ذرّ في صدر کعب، وقال له: کذبتَ يابن اليهودي، ثمّ تلا: «لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَکُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ»[6] الآية. فقال عثمان: أترون بأساً أن نأخذ مالاً من بيت مال المسلمين فنُنفقه فيما ينوبنا من اُمورنا، ونعطيکموه؟ فقال کعب: لا بأس بذلک.

فرفع أبو ذرّ العصا، فدفع بها في صدر کعب، وقال: يابن اليهودي ما أجرأک

[صفحه 174]

علي القول في ديننا!

فقال له عثمان: ما أکثر أذاک لي! غيِّبْ وجهک عنّي؛ فقد آذيتنا. فخرج أبو ذرّ إلي الشام.

فکتب معاوية إلي عثمان: إنّ أبا ذرّ تجتمع إليه الجموع، ولا آمن أن يُفسدهم عليک، فإن کان لک في القوم حاجة فأحمله إليک.

فکتب إليه عثمان بحمله. فحمله علي بعير، عليه قَتَب يابس، معه خمسة من الصقالبة[7] يطيرون[8] به، حتي أتوا به المدينة، وقد تسلّخت بواطن أفخاذه، وکاد أن يتلف، فقيل له: إنّک تموت من ذلک. فقال: هيهات، لن أموت حتي اُنفي. وذکر جوامع ما ينزل به بعدُ، ومن يتولّي دفنه.

فأحسن إليه في داره أيّاماً، ثمّ دخل إليه فجلس علي رکبتيه، وتکلّم بأشياء، وذکر الخبر في ولد أبي العاص: «إذا بلغوا ثلاثين رجلاً اتّخذوا عباد اللَّه خوَلاً»... وکان في ذلک اليوم قد أتي عثمان بترکة عبد الرحمن بن عوف الزهري من المال، فنثرت البِدَر حتي حالت بين عثمان وبين الرجل القائم، فقال عثمان: إنّي لأرجو لعبد الرحمن خيراً؛ لأنّه کان يتصدّق، ويقري الضيف، وترک ما ترون. فقال کعب الأحبار: صدقت يا أميرالمؤمنين، فشال أبو ذرّ العصا، فضرب بها رأس کعب، ولم يشغله ما کان فيه من الألم، وقال: يابن اليهودي تقول لرجل

[صفحه 175]

مات وترک هذا المال: إنّ اللَّه أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة، وتقطع علي اللَّه بذلک! وأنا سمعت النبيّ صلي الله عليه و آله يقول: «ما يسرّني أن أموت وأدع ما يَزِن قيراطاً»!!

فقال له عثمان: وارِ عنّي وجهک. فقال: أسير إلي مکّة؟ قال: لا واللَّه. قال: فتمنعني من بيت ربّي أعبده فيه حتي أموت؟ قال: إي واللَّه.

قال: فإلي الشام؟ قال: لا واللَّه.

قال: البصرة؟ قال: لا واللَّه، فاختَر غير هذه البلدان.

قال: لا واللَّه، ما أختار غير ما ذکرت لک، ولو ترکتني في دار هجرتي ما أردتُ شيئاً من البلدان، فسيّرني حيث شئت من البلاد.

قال: فإنّي مسيّرک إلي الرَّبَذة. قال: اللَّه أکبر! صدق رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؛ قد أخبرني بکلّ ما أنا لاقٍ.

قال عثمان: وما قال لک؟! قال: أخبرني بأنّي اُمنع عن مکّة والمدينة، وأموت بالرَّبَذة، ويتولّي مواراتي نفر ممّن يَرِدون من العراق نحو الحجاز.

وبعث أبو ذرّ إلي جمل له، فحمل عليه امرأته، وقيل: ابنته. وأمر عثمان أن يتجافاه الناس حتي يسير إلي الرَّبَذة.

فلمّا طلع عن المدينة- ومروان يُسيّرُ[ه] عنها- طلع عليه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ومعه ابناه الحسن والحسين، وعقيل أخوه، وعبداللَّه بن جعفر، وعمّار بن ياسر.

فاعترض مروان، فقال: يا عليّ، إنّ أميرالمؤمنين قد نهي الناس أن يصحبوا أبا ذرّ في مسيره ويشيّعوه، فإن کنت لم تدرِ بذلک فقد أعلمتُک!

فحمل عليه عليّ بن أبي طالب بالسوط، وضرب بين اُذني راحلته، وقال:

[صفحه 176]

تَنَحَّ، نحّاک اللَّه إلي النار. ومضي مع أبي ذرّ فشيّعه، ثمّ ودَّعه وانصرف.

فلمّا أراد عليٌّ الانصراف بکي أبو ذرّ، وقال: رحمکم اللَّه أهل البيت، إذا رأيتک يا أبا الحسن وولدک ذکرتُ بکم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله.

فشکا مروانُ إلي عثمان ما فعل به عليّ بن أبي طالب، فقال عثمان: يا معشر المسلمين! من يعذرني من عليّ؟ ردَّ رسولي عمّا وجّهته له، وفعل کذا، واللَّه لنعطينّه حقّه!

فلمّا رجع عليٌّ استقبله الناس، فقالوا له: إنّ أميرالمؤمنين عليک غضبان؛ لتشييعک أبا ذرّ. فقال عليّ: «غَضبُ الخيلِ علي اللُّجُم».

فلمّا کان بالعشي جاء إلي عثمان، فقال له: ما حملک علي ما صنعتَ بمروان! ولِمَ اجترأتَ عليّ، ورددتَ رسولي وأمري؟!

قال: أمّا مروان؛ فإنّه استقبلني يردّني، فرددتُه عن ردّي. وأمّا أمرک فلم أردّه. قال عثمان: ألم يبلغک أنّي قد نهيتُ الناس عن أبي ذرّ وعن تشييعه؟

فقال عليّ: أوَکلّ ما أمرتَنا به من شي ء نري طاعة اللَّه والحقّ في خلافه اتّبعنا فيه أمرک!! باللَّه لا نفعل.

قال عثمان: أقِد مروان.

قال: ومِمّ أقيده؟

قال: ضربت بين اُذني راحلته، وشتمتَه، فهو شاتمک وضارب بين اُذني راحلتک.

قال عليّ: أمّا راحلتي فهي تلک، فإن أراد أن يضربها کما ضربتُ راحلتَه

[صفحه 177]

فليفعل، وأمّا أنا فوَاللَّه لئن شتمني لأشتمنَّک أنتَ مثلَها بما لا أکذب فيه، ولا أقول إلّا حقّاً.

قال عثمان: ولِم لا يشتمک إذا شتمته؟!، فوَاللَّه ما أنت عندي بأفضل منه!

فغضب عليّ بن أبي طالب، وقال: ألي تقول هذا القول؟! وبمروان تعدلني!! فأنا واللَّه أفضل منک! وأبي أفضل من أبيک! واُمّي أفضل من اُمّک! وهذه نبلي قد نثلتها،[9] وهلُمّ فانثلْ بنبلک[10] .فغضب عثمان، واحمرّ وجهه، فقام ودخل داره. وانصرف عليّ، فاجتمع إليه أهل بيته، ورجال من المهاجرين والأنصار.

فلمّا کان من الغد واجتمع الناس إلي عثمان شکا إليهم عليّاً، وقال: إنّه يعيبني ويظاهر من يعيبني- يريد بذلک أبا ذرّ وعمّار بن ياسر وغيرهما-. فدخل الناس بينهما، حتي اصطلحا، وقال له عليٌّ: واللَّه، ما أردت بتشييع أبي ذرّ إلّا اللَّه تعالي[11] .

[صفحه 179]



صفحه 172، 173، 174، 175، 176، 177، 179.





  1. انظر في خصوص هذا الحديث: مسند ابن حنبل 11758:160:4، المستدرک علي الصحيحين 8478:527:4 تا 8480، مسند أبي يعلي 1147:52:2، المعجم الصغير: 135:2، المعجم الأوسط 7785:6:8؛ روضة الواعظين: 311.
  2. انظر في خصوص هذا الحديث: مسند ابن حنبل 21783:169:8، سنن الترمذي 3801:669:5 و ح 3802، سنن ابن ماجة 156:55:1، المستدرک علي الصحيحين 5461:385:3 و ح 5462؛ معاني الأخبار: 1:179، علل الشرائع: 1:177 و ح 2، الاحتجاج 139:616:1.
  3. شرح نهج البلاغة: 55:3، الرياض النضرة: 83:3 نحوه؛ الشافي: 295:4 وراجع تفسير القمّي: 52:1.
  4. القَتَب: رَحْلٌ صغير علي قدر السَّنام (الصحاح: 198:1).
  5. تاريخ اليعقوبي: 171:2.
  6. البقرة: 177.
  7. الصِّقلاب الشديد من الرؤوس. والصَّقالِبَة: جيلٌ حُمْر الألوان، صُهْب الشعور، تُتاخِم بلادهم بلادَ الخزر وبعض بلاد الروم بين بُلْغَر وقُسطنطينيّة، وقيل للرجل الأحمر صقلاب تشبيهاً بهم (تاج العروس: 147:2).
  8. في الطبعة المعتمدة «بطيرون» والتصحيح من طبعة قم/منشورات دار الهجرة.
  9. نَثَل کِنانته نثلاً: استخرج ما فيها من النبل (لسان العرب: 645:11).
  10. کذا، والظاهر أنّ الصحيح: «نبلَک».
  11. مروج الذهب: 348:2.