نظرة تحليليّة لوقائع الشوري











نظرة تحليليّة لوقائع الشوري



تبلورت وقائع الخلافة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي نحو مدهش وملفت للنظر، وانتهت بحادثة السقيفة واستخلاف أبي بکر، وادُّعي أنّ خلافته کانت موضع إجماع. ثمّ إنّه نصب عمر خليفةً من بعده، وهکذا فقد سنَّ سُنّة «الاستخلاف».

وفي الأيّام الأخيرة من حياة عمر، أخذ يفکّر- وهو علي فراش الموت- بمستقبل الاُمّة الإسلاميّة، وتدلّ النصوص التاريخيّة بکلّ جلاء علي أنّه کان يفکّر أيضاً بنوع من الاستخلاف أيضاً، وأنّه ذکر أسماء جماعة وقال لو أنّهم کانوا أحياءً لعهِدَ إليهم أمر الخلافة؛ منهم: معاذ بن جبل،[1] وأبو عبيدة الجرّاح،[2] وسالم مولي أبي حذيفة...[3] .

وعلي کلّ حال؛ فإنّ عمر کان يفکّر بالشوري؛ ولکن الشوري التي تضمن له تحقيق أهدافه بشکل أو آخر، علي أن لا يُتجاهل فيها أمر عليّ عليه السلام، علي اعتبار

[صفحه 128]

أنّ عليّاً لا يمکن تجاهله في مثل هذا الأمر، وهذه الحقيقة لم تکن خافية عن نظر عمر، ولهذا السبب؛ فإنّه حينما استدعي أحد الأنصار للتشاور معه في أمر الخلافة، فعدّد الأنصاري جماعة من المهاجرين ولم يُسَمِّ عليّاً، فقال عمر: فما لهم من أبي الحسن! فواللَّه إنّه لأحراهم إن کان عليهم أن يُقيمهم علي طريقة من الحقّ[4] .

وهکذا عيّن عمر جماعة للشوري قوامهم ستّة أشخاص، وقد انتقد کلَّ واحد منهم بصفة سيّئة فيه، إلّا عليّاً؛ فقد نسبه إلي المزاح! ولکنّه أکّد أيضاً أنّه أحراهم أن يُقيمهم علي سنّة نبيّهم[5] .

وسمّي عمر أعضاء الشوري الذين يجب أن يختاروا الخليفة من بينهم، وهم: عليّ عليه السلام، وعثمان بن عفان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد الرحمن بن عوف.

لم يکن عمر يحمل مشاعر طيّبة تجاه بني هاشم، ولا تجاه عليّ عليه السلام. وکان أکثر حنکة وذکاءً من أن يسمّي للشوري أشخاصاً يختارون عليّاً ولو علي سبيل الاحتمال[6] .

وقد رسم عمر طريقة عمل الشوري وموازناته؛ فهم يجب أن يجتمعوا في دار تحت مراقبة خمسين رجلاً من الأنصار حتي يختاروا رجلاً من بينهم؛ فإن اتّفق خمسة علي رجل وأبي واحد يُضرب عنقه، وإن اتّفق أربعة وأبي اثنان يُضرب عُنقاهما، فإن رضي ثلاثة منهم رجلاً، وثلاثة رجلاً، يجب عندئذ تحکيم

[صفحه 129]

عبداللَّه بن عمر؛ فإن لم يرضوا بحکمه، يجب قبول خيار الجهة التي فيها عبد الرحمن بن عوف[7] .

کانت المعادلة التي أرادها الخليفة واضحة تماماً. وکانت نتيجتها معروفة منذ البداية لکلّ لبيب. ولهذا السبب فقد حثّ ابن عبّاس عليّاً علي عدم الدخول في الشوري، لکنّ عليّاً قال: لا، بل أدخل معهم في الشوري؛ لأنّ عمر قد أهّلني الآن للخلافة، وکان قبل ذلک يقول: إنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال: إنّ النبوّة والإمامة لايجتمعان في بيت!! فأنا أدخل في ذلک لاُظهر للناس مناقضة فعله لروايته[8] .

ولکنّه أکّد بصريح القول أنّ عمر قد عدل- بهذا الترکيب- الخلافة عن بني هاشم، قائلاً: قد قُرن بي عثمان، ويجب اتّباع الأکثريّة؛ فسعد لا يخالف ابنَ عمّه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان، وهما لا يختلفان؛ فلو کان الآخران معي لم ينفعاني[9] .

تنحّي طلحة جانباً لصالح عثمان (علي أساس الرواية التي تقول إنّ طلحة قد حضر الشوري)، وتنحّي الزبير جانباً لصالح عليّ عليه السلام، وتنازل سعد عن حقّه لصالح عبد الرحمن. وأعلن عبد الرحمن أنّه أخرج نفسه من الخلافة، واقترح علي الآخرَين (عليّ عليه السلام وعثمان) أن يفوّض أحدهما حقّه للآخر، فسکتا. وذکر الطبري أنّ عبد الرحمن بقي ليالي متوالية يشاور رؤساء الجيش والأشراف، وکان لا يخلو بواحد منهم حتي يأمره بعثمان[10] حتي إذا انتهت الأيّام الثلاثة

[صفحه 130]

اجتمع الناس صباحاً في المسجد، فخرج إليهم عبد الرحمن وقال: إنّي نظرت في الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان أحداً[11] بينما صاح عمّار والمقداد مؤکّدَين علي انتخاب عليّ عليه السلام. وارتفعت الأصوات في المسجد، وصاح عمار: لماذا تُبعدون هذا الأمر عن أهل بيت الرسول؟![12] .

ثمّ إنّ عبد الرحمن بن عوف قال لعليّ عليه السلام: هل تعاهِد اللَّه علي العمل بکتاب اللَّه وسنّة نبيّه وسيرة أبي بکر وعمر؟ فقال: لا، ولکن أسير علي کتاب اللَّه وسنّة رسول اللَّه قدر وسعي.

ولمّا عرض هذا السؤال علي عثمان، قال: أعمل بالقرآن وسنّة رسول اللَّه وسيرة الشيخين. ثمّ کرّر عبد الرحمن سؤاله لعليّ عليه السلام، فأجابه عليه السلام کما أجابه من قبل، وأضاف لا حاجة مع کتاب اللَّه وسيرة نبيّه إلي سيرة أحد، ولکنّک تريد أن تزوي هذا الأمر عنّي[13] .

وهکذا اختار عبد الرحمن بن عوف عثمان للخلافة، وأجلسه علي مسند السلطة. وذُبح الحقّ مرّة اُخري علي مذبح الزيف والفتنة، ووجد الذين سلّوا سيف

[صفحه 131]

العداوة ضدّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله سنوات طويلة، أنّ الفرصة قد سنحت الآن في ظلّ الدعم الذي يوفّره لهم خليفة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، لکي يستأنفوا مواقفهم العدائيّة ضدّه.

ولمّا رأي عليّ عليه السلام الأمر علي هذه الشاکلة قال لعبد الرحمن:

«حبوته حبوَ الدهر، ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا، «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَي مَا تَصِفُونَ»[14] .

ثمّ قال له:

«واللَّه ما ولّيتَ عثمان إلّا ليردّ الأمر إليک»[15] .

وصاح المقداد:

«ما رأيت مثل ما اُوتي إلي أهل هذا البيت بعد نبيّهم! إنّي لأعجب من قريش أنّهم ترکوا رجلاً ما أقول أنّ أحداً أعلم ولا أقضي منه بالعدل. أما واللَّه لو أجد عليه أعواناً»[16] .ثمّ إنّ عماراً قال من شدّة حرصه علي الإسلام:


يا ناعيَ الإسلام قُم فانعَهُ
قد مات عرفٌ وأتي منکرُ[17] .


أوَلم يکن الأمر کذلک؟ أوَلم يُنعَ الاسلام من خلال تسلّط بني اُميّة؟!

أوَلم تنبعث الجاهليّة من جديد؟ فقد خرج عثمان في الليلة التي بويع له في

[صفحه 132]

يومها إلي صلاة العشاء وبين يديه شمعة، فلقيه المقداد، فقال: ما هذه البدعة؟![18] .

ولغرض تعميم وإکمال البحث نورد الملاحظات التالية:

1- ذکرنا أنّ عليّاً عليه السلام قال لعبد الرحمن بن عوف:

«واللَّه ما ولّيت عثمان إلّا ليردّ الأمر إليک».

ولم يُصرّح عليه السلام بمثل هذا الکلام إلّا انطلاقاً من معرفته بأحوال المتلاعبين بالسياسة ودعاة الفتن، لو کانت يومذاک ثمّةَ آذان واعية. وجاء الشاهد علي صدق کلام أميرالمؤمنين عليه السلام فيما نقله المؤرّخون؛ من أنّ عثمان بعدما اشتدّ عليه المرض دعا کاتباً، وأمره أن يکتب عهده بالخلافة من بعده لعبد الرحمن: فکتب بما أمره[19] .

2- لماذا لم يوافق الإمام عليه السلام علي شرط عبد الرحمن؟

لأنّه کانت قد مرّت حينذاک سنوات علي وفاة الرسول صلي الله عليه و آله، ووقعت فيها تغيّرات کثيرة، وصدرت أحکام کثيرة مناقضة لحکم الرسول صلي الله عليه و آله، وبُدّلت سنّته صلي الله عليه و آله في موارد کثيرة[20] .

فکيف کان يتسنّي للإمام عليه السلام قبول هذا الشرط؟ ولو أنّه قبله وتسلّم زمام الاُمور- علي فرض المحال- کيف کان يتسنّي له التوفيق بين تلک المتناقضات؟ وما کان عساه يفعل مع تلک التغييرات؟

هل کان الناس علي استعداد لقبول إعادة الحقائق إلي مسارها الأوّل؟ فقد

[صفحه 133]

أثبت عهد خلافة الإمام عليّ عليه السلام عدم استعداد الناس لقبول عودة الحقائق إلي مسارها الأوّل، مع أنّ الکثير من المسائل قد تجلّت بکلّ وضوح يومذاک، ومع أنّ الناس قد أقبلوا بأنفسهم عليه، غير أنّه کان يواجه صعوبة في کثير من القرارات، والمثال الواضح علي ذلک «صلاة التراويح».

ولو عرضنا هذا السؤال من زاوية اُخري وقلنا: لماذا لم يقبل الإمام شرط عبد الرحمن؟ نلاحظ هنا أنّه عليه السلام کان أمام معادلتين:

الاُولي: قبول الشرط وإقامة حکومة العدل الإسلامي.

الثانية: عدم قبول الشرط؛ لأنّه لم يکُن حقّاً، مع التضحية بهذا المنصب الخطير.والوجه الآخر للسؤال هو: هل کان عبد الرحمن يعقد له البيعة لو أنّه قبل ذلک الشرط؟

يمکن القول بجزم- من خلال الأخبار التي نقلناها عن الشوري، وما کان فيها من تدبير، وکذلک من خلال کلام الإمام عليه السلام مع عبد الرحمن- بأنّ الجواب هو السلب طبعاً. وقد أدرک عليّ عليه السلام بعمق نظره الخاصّ بأنّ کلّ هذه التمهيدات التي اتُّخذت جاءت لتبرير قرار متّخذ مسبقاً. ولو أنّ الإمام وافق علي الشرط؛ فإنَّ عثمان کان يوافق عليه أيضاً، وفي مثل هذه الحالة کان عبد الرحمن سيلجأ إلي ذريعة اُخري، کأن يقول مثلاً- کما مرّ علينا- بأنَّ رؤساء الجيش، وزعماء القبائل يميلون إلي عثمان، وتکون النتيجة هي انتخاب عثمان أيضاً، وستکون نتيجة القبول بهذا الشرط هي إضفاء الشرعيّة من قِبَل عليّ عليه السلام علي قرارات الشيخين، وحاشا أن ينخدع عليّ- الذي يخترق بصره الحجب السطحيّة ويري الحقائق- بمثل هذه المشاهد.

[صفحه 134]

3- کانت معادلة الشوري واضحة مسبقاً ولهذا السبب أمر عمر بضرب عنق کلّ مَن يعارض، وبعد البيعة لعثمان من قِبَل ابن عوف وسائر أعضاء الشوري، ظلّ عليٌّ واقفاً ولم يبايِع، فقال له ابن عوف: بايِع وإلّا ضربتُ عنقک! فخرج من الدار وتبعه أصحاب الشوري وقالوا: بايِع وإلّا جاهدناک![21] وهذا ما جعل الشريف المرتضي يقول بألم:

«فأيّ رضيً هاهنا؟!... وکيف يکون مختاراً من تهدّد بالقتل وبالجهاد»[22] .

4- التطميع بالخلافة

الملاحظة الأخيرة في هذا المضمار هي أنّ عمر أجَّج بعمله هذا نار الطمع بالخلافة في قلوب أعضاء الشوري. وقد أشار الشيخ المفيد إلي هذا المعني بقوله: إنّ سعد بن أبي وقّاص ما کان يري نفسه شيئاً أمام عليّ عليه السلام، إلّا أنّ وجوده في الشوري بعث في نفسه شعوراً بالأهليّة للخلافة. ونقل ابن أبي الحديد أيضاً هذا التحليل عن اُستاذه. وکان طلحة أيضاً يستدلّ بوجوده في الشوري علي مجابهته لعليّ[23] وأشار معاوية أيضاً إلي هذا المعني في إحدي محاوراته[24] .

وعلي کلّ حال؛ فإنّ عمر قد دأب مرّة اُخري من خلال الشوري التي أوجدها علي طمس «حقّ الخلافة» وسحق حرمتها. وسلّط بني اُميّة علي رقاب الاُمّة

[صفحه 135]

فاقترفوا کلّ تلک المفاسد. وعمل من خلال غرسه لروح التطلّع إلي الخلافة في نفوس أشخاص مثل طلحة والزبير، علي تمهيد الأجواء لنشوب الصراعات اللاحقة. ونحن نؤکّد من خلال استقراء تلک الحادثة وکيفيّة تبلور وقائعها بأنَّ الحقّ هو ما جاء في تحليل مجرياتها إجمالاً، ليس إلّا... واللَّه من وراء القصد.

[صفحه 137]



صفحه 128، 129، 130، 131، 132، 133، 134، 135، 137.





  1. الطبقات الکبري: 590:3، تاريخ المدينة: 881:3، الإمامة والسياسة: 42:1.
  2. تاريخ الطبري: 227:4، الطبقات الکبري: 412:3، تاريخ المدينة: 881:3، الفتوح: 325:2.
  3. تاريخ الطبري: 227:4، الطبقات الکبري: 343:3، تاريخ المدينة: 881:3، الفتوح: 86:2.
  4. المصنّف لعبد الرزّاق: 9761:446:5، الأدب المفرد: 582:176.
  5. المصنّف لعبد الرزّاق: 9762:447:5، تاريخ المدينة المنوّرة: 880:2؛ نثر الدرّ: 49:2.
  6. کلام عمر مع ابن عبّاس في هذا الصدد له مغزاه. انظر تاريخ الطبري: 223:4.
  7. تاريخ الطبري: 229:4، الإمامة والسياسة: 43:1.
  8. شرح نهج البلاغة: 189:1.
  9. الإرشاد: 285:1؛ تاريخ الطبري: 229:4، شرح نهج البلاغة: 191:1.
  10. تاريخ الطبري: 231:4، تاريخ المدينة: 928:3، يقول عبد العزيز الدوري: «وتخبرنا المصادر أيضاً أنّ عبد الرحمن استشار أشراف الناس وأمراء الأجناد، وحاول معرفة رأي عامّة الناس... فوجدهم يشيرون عليه بعثمان، وهذا يوحي بدعاية واسعة نظّمها بنو اُميّة لمرشّحهم، وقد کان بنو اُميّة يسعون لاستعادة نفوذهم بالتدريج منذ فتح مکّة، ونجحوا في ذلک نجاحاً کبيراً خلال فترة الخليفتين الأوّلين». مقدّمة في تاريخ صدر الإسلام: 50.
  11. المصنّف لعبد الرزّاق 9775:477:5.
  12. تاريخ الطبري: 2333:4، شرح نهج البلاغة: 194:12 وانظر أيضاً الأمالي للمفيد: 7:114، تاريخ المدينة: 929:3.
  13. تاريخ اليعقوبي: 162:2؛ شرح نهج البلاغة: 188:1 و ج 262:12، البدء والتاريخ: 192:5.
  14. يوسف: 18.
  15. تاريخ الطبري: 233:4، تاريخ المدينة: 930:3.
  16. تاريخ الطبري: 233:4، تاريخ المدينة: 931:2.
  17. البدء والتاريخ: 192:5، شرح نهج البلاغة: 266:12.
  18. تاريخ اليعقوبي: 163:2.
  19. تاريخ المدينة: 1029:3، تاريخ دمشق: 178:15؛ تاريخ اليعقوبي: 169:2.
  20. راجع کتاب «النصّ والاجتهاد» للعلّامة السيّد شرف الدين.
  21. أنساب الأشراف: 128:6، شرح نهج البلاغة: 55:9 و ج 265:12، الإمامة والسياسة: 176:1؛ الصراط المستقيم: 117:3.
  22. شرح نهج البلاغة: 265:12.
  23. الإمامة والسياسة: 95:1. راجع: القسم السادس/وقعة الجمل/جهود الإمام لمنع القتال/مناقشات الإمام وطلحة.
  24. العقد الفريد: 289:3، تاريخ دمشق: 197:19.