شقشقة هدرت











شقشقة هدرت



1080- الإمام عليّ عليه السلام- من خطبة له عليه السلام-: أما واللَّه لقد تقمّصها فلان،[1] وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحا، ينحدر عنّي السيل، ولا يرقي إليّ الطير؛ فسدلْتُ دونها ثوباً، وطويتُ عنها کشحاً، وطَفِقْتُ أرتَئي بين أن أصول بيدٍ جذّاء،[2] أو أصبر علي طخية[3] عمياء، يهرم فيها الکبير، ويشيب فيها الصغير، ويکدح فيها مؤمنٌ حتي يلقي ربّه!

فرأيتُ أنّ الصبر علي هاتا أحجي، فصبرتُ وفي العين قذًي،[4] وفي الحلق شجاً،[5] أري تُراثي نَهباً، حتي مضي الأوّل لسبيله، فأدلي بها إلي فلان بعده.

ثمّ تمثّل بقول الأعشي:

[صفحه 124]

شتّان ما يومي علي کُورِها[6] .
ويومُ حيَّان أخي جابِرِ


فياعجباً!! بينا هو يستقيلُها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته- لشدّ ما تشطَّرا ضَرْعَيْهَا!- فصيّرها في حوزةٍ خشناء يغلُظُ کلمها، ويخشنُ مسُّها، ويکثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها کراکب الصعبة إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحّم، فمُني الناس- لعمرُ اللَّه- بخبط وشماس، وتلوّن واعتراض؛ فصبرت علي طول المدّة، وشدّة المحنة؛ حتي إذا مضي لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم، فيا للَّه وللشوري! متي اعترض الريب فيَّ مع الأوّل منهم، حتي صرت اُقرن إلي هذه النظائر! لکنّي أسففت إذ أسفُّوا، وطرت إذ طاروا؛ فصغا رجل منهم لضِغنه، ومال الآخر لصهره، مع هنٍ وهنٍ، إلي أن قام ثالث القوم نافجاً حضنَيْه، بين نَثِيلهِ ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال اللَّه خضمة الإبل نبتة الربيع، إلي أن انتکث عليه فتله، وأجهز عليه عمله، وکبت به بطنته!

فما راعني إلّا والناس کعرف الضبع إليّ، ينثالون عليَّ من کلّ جانب، حتي لقد وطِئ الحسنان، وشقّ عطفاي، مجتمعين حولي کربيضة الغنم، فلمّا نهضت بالأمر نکثت طائفة، ومرقت اُخري، وقسط آخرون: کأنّهم لم يسمعوا اللَّه سبحانه يقول: «تِلْکَ الدَّارُ الْأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَ الْعَقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»[7] بلي! واللَّه لقد سمعوها ووَعَوْهَا ، ولکنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها!

أما والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ اللَّه علي العلماء ألّا يُقارّوا علي کظّة ظالم، ولا سغبِ

[صفحه 125]

مظلوم، لألقيتُ حبلها علي غاربها، ولسقيْتُ آخرها بکأسِ أوّلها، ولألفيتم دُنياکم هذه أزهد عندي من عفطة عَنْزٍ!

قالوا: وقام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلي هذا الموضع من خطبته، فناوله کتاباً- قيل: إنّ فيه مسائل کان يريد الإجابة عنها- فأقبل ينظر فيه، فلمّا فرغ من قراءته، قال له ابن عبّاس: يا أميرالمؤمنين، لو اطّردتْ خطبتُک من حيث أفضيت!

فقال: هيهات يابن عبّاس! تلک شقشقةٌ هدرت ثُمَّ قرّت!

قال ابن عبّاس: فواللَّه، ما أسفت علي کلام قطّ کأسفي علي هذا الکلام ألّا يکون أميرالمؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث أراد[8] .

راجع: القسم السابع/احتلال مصر/خطبة الإمام بعد قتل محمّد بن أبي بکر. ورسالة الإمام المفتوحة إلي اُمّة الإسلام.

[صفحه 127]



صفحه 124، 125، 127.





  1. قمصته قميصاً: إذا ألبسته، وأراد بالقميص الخلافة، وهو من أحسن الاستعارات (النهاية: 108:4).
  2. جَذَّاء: مقطُوعة، کني به عن قُصور أصحابه وتقاعُدِهم عن الغَزوِ، فإنّ الجندَ للأمير کاليد (النهاية: 250:1).
  3. الطَّخْيَة: الظلمةُ والغَيمُ (النهاية: 116:3).
  4. القَذي: ما يقع في العين والماء والشراب من تُراب أو تِبْن أو وسخ أو غير ذلک (النهاية: 30:4).
  5. ما يَنْشَبُ في الحَلْق من عظمٍ ونحوه فَيُغَصُّ به (مجمع البحرين: 932:2).
  6. الکُور بالضمّ: الرَّحل، وقيل: الرَّحل بأداته (لسان العرب: 154:5).
  7. القصص: 83.
  8. نهج البلاغة: الخطبة 3، الإرشاد: 287:1، معاني الأخبار: 1:361، علل الشرائع: 12:150، الأمالي للطوسي: 803:372، الاحتجاج: 105:452:1، المناقب لابن شهر آشوب: 204:2، نثر الدرّ: 274:1؛ تذکرة الخواصّ: 124 کلّها نحوه.