نظرة تحليليّة في سبب إنكار موت النبيّ











نظرة تحليليّة في سبب إنکار موت النبيّ



ودّع النبيّ صلي الله عليه و آله الحياة إلي الرفيق الأعلي.

واهتزّت المدينة، وعلاها هياج وضجيج، وانتشر خبر وفاته بسرعة، فأقضّ المضاجع، وملأ القلوب غمّاً وهمّاً وحزناً. والجميع کانوا يبکون وينحبون، ويُعوِلون علي فقد نبيّهم وسيّدهم وکان الشخص الوحيد الذي کذّب خبر الوفاة بشدّة کما أسلفنا، وهدّد علي نشره، وحاول أن يحول دون ذلک هو عمر بن الخطّاب. وتکلّم معه العبّاس عمّ النبيّ فلم يقتنع.

وحين نظر المغيرة بن شعبة إلي وجه النبيّ صلي الله عليه و آله أقسم أنّه ميّت، لکنّ عمر قذفه بالکذب واتّهمه بإثارة الفتنة.

وکان أبو بکر في «السُّنْح» خارج المدينة، فأخبروه بوفاة النبيّ صلي الله عليه و آله، فجاء إلي المدينة ورأي عمر يتحدّث إلي الناس ويهدّدهم بألّا يصدّقوا ذلک ولا ينشروه.

وعندما رأي عمر أبابکر جلس[1] وذهب أبو بکر إلي الجنازة، وکشف عن

[صفحه 14]

الوجه الشريف، وخطب خطبةً قصيرةً ضمّنها قوله تعالي: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَبِکُمْ»[2] فهدأ عمر وسکن، وصدّق بالوفاة وقال بعد سماعه الآية: «أيقنتُ بوفاته؛ وکأنّي لم أسمع هذه الآية»![3] .

أتري أن عمر کان لا يعلم حقّاً أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله قد مات؟!

ذهب البعض إلي ذلک وقال: کان لا يعلم حقّاً. بعبارة اُخري: کان يعتقد أنّه لا يموت، بل هو خالد[4] ويتبيّن من هذا أنّ القائلين به غير واعين لِلُّعَب السياسيّة وتهيئة الأجواء!

وذهب البعض الآخر إلي أنّه کان يعلم جيّداً أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله فارق الحياة، ولن يکون بعدها بين ظهراني المسلمين، لکنّ التفکير بالمصلحة، والتخطيط للمستقبل جعلاه يتّخذ هذا الموقف ليمهّد الأرضيّة من أجل التحرّک لإزالة منافسيه السياسيّين من الساحة. وتبنّي ابنُ أبي الحديد هذا الرأي، وذهب إلي أنّه فعل ذلک منعاً لفتنةٍ قد يثيرها الأنصار أو غيرهم حول الإمامة. کتب ابن أبي الحديد قائلاً:

«ونحن نقول: إنّ عمر أجلّ قدراً من أن يعتقد ما ظهر عنه في هذه الواقعة، ولکنّه لمّا علم أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قد مات، خاف من وقوع فتنةٍ في الإمامة وتقلّب أقوام عليها، إمّا من الأنصار أو غيرهم... فاقتضت المصلحة عنده تسکين الناس بأن أظهر ما أظهره من کون رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لم يمت... إلي أن جاء أبو بکر- وکان

[صفحه 15]

غائباً بالسُّنْح، وهو منزل بعيد عن المدينة- فلمّا اجتمع بأبي بکر قوي به جأشه، واشتدّ به أزره، وعظم طاعة الناس له وميلهم إليه، فسکت حينئذٍ عن تلک الدعوي التي کان ادّعاها»[5] .

نظراً إلي القرائن التاريخيّة، ومواقف هذين الرجلين، وسکوت عمر المطلق بعد وصول أبي بکر وکان قد أثار ما أثار من الضجيج واللغط، کلّ اولئک لا يَدَع مجالاً للشّک في أنّ موقف عمر کان تحرّکاً سياسيّاً للتمهيد من أجل الشي ء الذي امتنع بسببه من الذهاب مع جيش اُسامة، مخالفاً لنصّ نبوي صريح وأمر رسالي أکيد.وکان النبيّ صلي الله عليه و آله نفسه يتحدّث عن نهاية حياته، وأبلغ الجميع بذلک. وکان عمر قبل هذا الوقت وحين منع من کتابة الوصيّة يردّد شعار «حسبنا کتاب اللَّه»، أي: إنّ کلمة «حسبنا...» تتحقّق بعد وفاة النبيّ صلي الله عليه و آله ويمکن القول مبدئيّاً إنّ نصّ القرآن الکريم علي وفاته وعدم خلوده صلي الله عليه و آله يدلّ علي أنّ نفي وفاته لم يکن عقيدةً راسخةً يتبنّاها المؤمنون قطّ، وأوضح من ذلک کلّه کلام عمر نفسه عندما نصب أبا بکر في الخلافة وأجلسه علي عرشها، فقد صرّح بخطأ مقاله ووهنه قائلاً: «أمّا بعد، فإنّي قلتُ لکم أمس مقالةً لم تکن کما قلت. وإنّي واللَّه ما وجدتها في کتاب أنزله اللَّه ولا في عهد عهده إليّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ولکنّي کنتُ أرجو أن يعيش رسول اللَّه صلي الله عليه و آله- فقال کلمة يريد- حتي يکون آخرنا، فاختار اللَّه لرسوله الذي عنده علي الذي عندکم، وهذا الکتاب الذي هدي اللَّه به رسولکم، فخذوا به تهتدوا لما هدي له رسول اللَّه»[6] .

إنّ هذا کلّه يدلّ علي أنّه کان يمهّد الأرضيّة للقبض علي السلطة، ويهيّئ

[صفحه 16]

الاُمور لخلافة أبي بکر حتي يتسنّي له أن يحکم بعده. وما أبلغ کلام الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام حين قال له:

«أحلب حَلْباً لک شَطْره»[7] .



صفحه 14، 15، 16.





  1. کنز العمّال: 18775:246:7.
  2. آل عمران: 144.
  3. شرح نهج البلاغة: 195:12.
  4. شرح نهج البلاغة: 195:12.
  5. شرح نهج البلاغة: 42:2.
  6. الطبقات الکبري: 271:2.
  7. راجع: الهجوم علي بيت فاطمة بنت رسول اللَّه.