تمحيص هذين الرأيين











تمحيص هذين الرأيين



الرأي الأوّل يتبنّاه السُنّة وهو أمر مشهور لدي مؤرّخيهم. ولا شکّ في أنّ هذا الرأي لا يتّسم بالرصانة؛ فالتساؤلات التي اُثيرت هاهنا حول هذا الرأي لا يوجد عنها جواب، وهي کافية لإبطاله. کما أنّ المؤاخذات التي عرضها العلّامة العسکري وتأکيده علي تفرّد سيف بن عمر بذکر شخصيّة عبداللَّه بن سبأ ودوره في الأحداث المتعلّقة بمقتل عثمان، تعتبر مؤاخذات دامغة وکفيلة بتفنيد هذا الرأي.

ومن هنا لا يبقي مجال للشکّ في بطلان الرأي الذي يذهب إلي القول بأنّه شخصيّة بارعة قادرة علي اختلاق الأحداث والوقائع.

ذکرنا فيما سبق بأنّ أکثر من أکّد علي وهميّة وجود هذه الشخصيّة هو العلّامة العسکري. والرأي الذي أدلي به في هذا المجال يتطلّب مزيداً من التأمل. فالدور القيادي لعبداللَّه بن سبأ وتأثيره الاُسطوري في الوقائع لا أساس له من

[صفحه 299]

الصحّة. وهذا الکلام لا يعني طبعاً أنّ هذا الرجل لم يکن له أيّ وجود خارجي. ولو أنّ الأخبار التي نقلها سيف بن عمر تختصّ بهذا الرجل وحده لکان من الجائز تأکيد صحّة هذا الرأي. ولکن النکتة الجديرة بالتأمّل هي أنّ الکثير من النصوص التاريخيّة والحديثيّة- الواردة عن غير طريق سيف بن عمر- تحدّثت عن وجود شخص باسم «عبداللَّه بن سبأ».

أظهرت الکثير من النصوص عبداللَّه بن سبأ کشخصيّة مغالية. فقد ذکرت بعض المصادر بأنّ الإمام عليّ عليه السلام أحرقه لغلوّه فيه وتأليهه إيّاه:

1- توجد في کتاب رجال الکشّي خمس روايات عن عبداللَّه بن سبأ ومعتقداته، ثلاث منها ذات سند صحيح[1] .

2- جاءت في کتاب من لا يحضره الفقيه وتهذيب الأحکام رواية يسأل فيها عبداللَّه بن سبأ عن حکمة رفع اليدين أثناء الدعاء[2] .

3- ورد في کتاب الاعتقادات للشيخ الصدوق أنّ زرارة سأل الإمام الصادق عليه السلام: إنّ رجلاً من ولد عبداللَّه بن سبأ يقول بالتفويض[3] .

4- في رجال الطوسي اُشير إلي اسم عبداللَّه بن سبأ في عداد أصحاب الإمام عليّ عليه السلام وجاء فيه: عبداللَّه بن سبأ، الذي رجع إلي الکفر وأظهر الغلوّ[4] .

5- وفي کتاب الغيبة للطوسي اُشير إلي السبئيّة عند ذکر الاعتقاد بالإمام

[صفحه 300]

المهدي عليه السلام والتيّارات التي تنکر هذا المعتقد فقال: أليس قد خالف جماعة... وفيهم من قال من السبائيّة: هو عليّ عليه السلام لم يمت...[5] .

6- جاء في کتاب المحبّر لمحمّد بن حبيب النسّابة (م 245 ه ) في باب أبناء الحبشيّات: عبداللَّه بن سبأ صاحب السبائيّة[6] .

7- قال ابن قتيبة (م 276 ه ) في کتاب المعارف: السبئيّة من الرافضة، يُنسبون إلي عبداللَّه بن سبأ، وکان أوّل من کفر من الرافضة وقال: عليّ ربّ العالمين؛ فأحرقه عليّ وأصحابه بالنار[7] .

8- قتل أعشي همدان عام 83 ه علي يد الحجّاج. وقد قال أعشي همدان عن المختار وکرسيّه الذي کان يقدّسه ويدّعي أنّ عليّاً جالس عليه:


شهدتُ عليکم أنّکم سبائيّة
وأنّي بکم يا شرطة الشرک عارف[8] .


وهناک أخبار اُخري وردت في کتاب المقالات والفرق لسعد بن عبد الأشعري (م 301 ه )، وفي کتاب فرق الشيعة للنوبختي (م 310 ه )، وفي کتاب مقالات الإسلاميّين لعليّ بن إسماعيل (م 330 ه )، وفي کتاب التنبيه والرد لأبي الحسين الملطي (م 377 ه ) وفي کتاب الفرق بين الفِرَق لعبد القادر البغدادي (م 429 ه ) عن عبداللَّه بن سبأ أو فرقة السبئيّة[9] .

وبغضّ النظر عن طبيعة هذه الأخبار ودرجة اعتبارها فهي تنمّ من غير شکّ

[صفحه 301]

عن أنّ الأخبار المتعلّقة بعبداللَّه بن سبأ والسبئيّة لم يتفرّد بنقلها سيف بن عمر وحده أو الطبري وحده.

وخلاصة القول هي:

1- يُستفاد من المصادر الموجودة بأنّ شخصاً اسمه «عبداللَّه بن سبأ» کان موجوداً بين أصحاب الإمام عليّ عليه السلام.

2- هناک احتمال قوي بأنّه کان رجلاً مغالياً.

3- کان له أتباع استمرّوا علي الاعتقاد برأيه من بعده.

4- لا توجد أخبار مقبولة عن دوره ضدّ عثمان وتحريض الناس عليه سوي ما نقله سيف بن عمر الکذّاب.

5- سيف بن عمر رجل مختلق للأکاذيب والأساطير وغير موثوق، وقد وصفته المصادر الرجاليّة صراحة بالکذّاب.

6- لم يُشر أيّ من المؤرّخين إلي وجود طائفة باسم طائفة السبئيّة خلال أحداث عام 36 -30 ه.

7- من المؤکّد أنّ الدور الاُسطوري الذي نسبه سيف بن عمر إلي عبداللَّه بن سبأ کذب محض.

8- الدور القيادي لعبداللَّه بن سبأ في مقتل عثمان، وتأثّر الصحابة وعامّة المسلمين بآرائه کذب صريح. وحتي لو أنّ مؤرّخين معتبرين نقلوا تلک الأخبار ، لکان واقع المسلمين والصورة الناصعة للصحابة کفيلة بدحضها.

9- سبقت الإشارة إلي أنّ سيف بن عمر- کما جاء في أقوال علماء الرجال- کذّاب ومطعون فيه. ونضيف هنا أنّ سيف بن عمر حتي لو کان وجهاً مقبولاً، فإنّ

[صفحه 302]

هذه المنقولات غير قابلة للتصديق من حيث المضمون. فإنّ طرح الأحداث علي هذا النحو الساذج لا يمکن أن يُقنع مؤرّخاً بل ولا حتي إنساناً عاديّاً.

النکتة الاُخري هي أنّ هذه الأخبار قد صنعت من عبداللَّه بن سبأ وجهاً بارزاً ومؤثّراً إلّا أنّها بالغت في تصوير سلوک بعض الشخصيّات علي نحوٍ لا يمکن معه حتي للإنسان العادي ان يقوم بمثل ذلک السلوک، فما بالک بالشخصيّات البارزة ذات الوعي السياسي العالي؟!

10- ومهما يکن الحال فإنّ وجود مثل هذين الرأيين المتناقضين في الإفراط والتفريط أمر غير مستساغ؛ أي لا دوره الخارق مقبول، ولا القول بأنّه شخصيّة وهميّة. فقد کان شخصاً عاديّاً مع احتمال أن تکون له آراء مغالية.

نشير إلي أنّ العلّامة العسکري علي بيّنة من وجود هذه الأخبار. وقد طرحها علي بساط البحث وناقشها، ولابدّ أنّه اقتنع بعدم صحّتها. إلّا أنّ المجال لا يتّسع هنا لمناقشة هذه المباحث. بَيد أنّنا نظنّ بأنّ هذه الأخبار تنمّ عن وجود هذا الشخص، ولکنّه کان شخصاً عاديّاً عاش في المجتمع الإسلامي کأيّ مواطن آخر.



صفحه 299، 300، 301، 302.





  1. رجال الکشّي: 170:323:1 و ح 171 و ص 172:324 و ح 173 و174.
  2. من لا يحضره الفقيه: 955:325:1، تهذيب الأحکام: 1315:322:2.
  3. الاعتقادات: 37:100.
  4. رجال الطوسي: 718:75.
  5. الغيبة للطوسي: 154:192.
  6. المحبّر: 308.
  7. المعارف لابن قتيبة: 622.
  8. البداية والنهاية: 279:8.
  9. عبداللَّه بن سبأ وأساطير اُخري: 221:2 تا 231.