المستشارون الفاسدون











المستشارون الفاسدون



يؤدّي المستشارون دوراً حاسماً في إدارة الاُمور وبلورة الوقائع. والحقيقة هي أنّ المستشار يأخذ علي عاتقه دوراً تکميليّاً بل وأساسيّاً في إدارة دفّة الاُمور بالنسبة لمدير ذلک المجتمع.

وهکذا يتّضح أنّ اختيار المستشار يتّصف بحسّاسيّة فائقة. هذا من جانب، ومن جانب آخر هناک مسألة مهمّة؛ وهي کيفيّة استفادة القائد منهم، وکيفيّة إشارتهم عليه، ودرجة فهمهم، ومدي إخلاصهم للقائد.

ومن المؤسف أنّ عثمان کانت کلّ مواقفه في هذا المجال غير سويّة، وقد سبقت الاشارة إلي کيفيّة اختياره للأفراد، فالمقرّبين منه؛ أي بطانته، ما کانوا يحظون بمکانة اجتماعيّة ولا بوجاهةٍ دينيّة.

أضف إلي کلّ ذلک أنّ الخليفة کان شخصاً عديم الإرادة وضعيفاً أمام آراء بطانته، کما أنّ مستشاريه لم يکونوا علي فکر صائب؛ ولا هم من أهل الدين والتقوي.

ومن البديهي- والحال هذه- أنّ جميع آرائهم التي کانوا يفرضونها علي عثمان کانت تصبّ في صالح أهوائهم وفي اتّجاه الصدام مع الثائرين، وليس في صالح الاُمّة والخلافة والخليفة.

فالبطانة التي کانت مقرّبة من عثمان لم تکن علي علاقات طيّبة مع الأنصار، وليس لها مواقف حسنة مع المهاجرين. وهکذا فقد ساقت عثمان في اتّجاه انتهي بمقتله.

يقول شيخ سياستهم أبو سفيان الذي اشتهر صيت عدائه للإسلام في الآفاق:

[صفحه 279]

«إنّ الأمر أمرُ عالميّة، والملکَ ملکُ جاهليّة، فاجعل أوتاد الأرض بني اُميّة». حسناً، لقد فعل عثمان ذلک. ولکن إلي أين وصلوا به؟

لقد کانت جميع الأعمال التي تُفعل باسم عثمان، بيد مروان، وهو ذلک الشابّ الذي لم يکن يعرف شيئاً من تعاليم الإسلام، وکان طريد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله. وبعدما عاد من منفاه ووطأت قدمه أرض المدينة أفرغ ما في قلبه من حقد متراکم خلال تلک السنين، في ظلّ السلطة التي منحها إيّاه خليفة المسلمين، فأخذ يوجّه الإهانات لجميع المهاجرين والأنصار، وکان لعمله ذاک تأثير واضح في إثارتهم ضدّ عثمان.

أصبح الخليفة أداة طيّعة بيد مروان بن الحکم، سواء عندما أعلن توبته أمام الملأ، وأرغمه مروان علي نقض توبته، أم عندما وافق علي عزل والي مصر، لکنّه رضخ في أعقاب ذلک لإرادة مروان، وأصدر أمره بقتل ونفي وتعذيب الثوّار الوافدين من هناک.

لقد کان مروان هو الذي يُملي علي عثمان ما يريد، وکان يسعي في جرّه إلي اتّخاذ مواقف متزمّتة، حتي إنّ زوجته نائلة بنت الفرافصة قالت له:

«فإنّهم واللَّه قاتلوه ومؤثِّموه... وقد أطعت مروان يقودک حيث شاء».

وکان سائر مستشاري عثمان من هذا القبيل؛ فعندما جمعهم للتشاور معهم في أمر سخطِ الناس عليه، أشار عليه معاوية باستخدام القوّة ضدّهم لإسکاتهم، فيما أشار عليه عبداللَّه بن عامر قائلاً: «أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنک، وأن تجمّرهم في المغازي حتي يذلّوا لک، فلا يکون همّة أحدهم إلّا نفسه».

أمّا سعيد بن العاص فقد أشار عليه قائلاً:

«إنّ لکلّ قومٍ قادة متي تهلک يتفرّقوا، ولا يجتمع لهم أمر».

[صفحه 280]

وعرض عليه معاوية في هذا المجال أن يقتل عليّاً وطلحة والزبير.

فإذا وُجدت کلّ هذه القلوب الفاسدة والنفوس المريضة والتوجّهات الجائرة المثيرة للسخط، فما الداعي بعدئذٍ للتساؤل عن أسباب تبلور تلک الثورة؟

إنّ الشخص الوحيد الذي کان يُشير حينذاک علي عثمان باخلاص رغبة في صيانة هويّة الاُمّة الإسلاميّة، ويحذّره من عواقب الاُمور، ويسعي- رغم کلّ ما نزل به من ظلم- إلي أن لا تصل الاُمور إلي هذا الحدّ، هو الإمام عليّ عليه السلام. وياليت عثمان کان يُصغي لنصائحه ويَفي بالعهود التي قطعها علي نفسه للناس.

وللإمام عليّ عليه السلام کلام جميل عن موقفه أزاء تلک الأحداث، وعن موقف بطانة عثمان، جاء في بعض منه:

«واللَّه ما زلت أذبّ عنه حتي إنّي لأستحي، ولکنّ مروان ومعاوية وعبداللَّه بن عامر وسعيد بن العاص هم صنعوا به ما تري. فإذا نصحته وأمرته أن ينحّيهم استغشّني حتي جاء ما تري».

کانت هذه العوامل وعوامل اُخري غيرها هي التي دفعت إلي الثورة علي عثمان، ومهّدت للانتقاض ضدّ الحکومة المرکزيّة.

ذکر المسعودي في مروج الذهب أسباب السخط علي عثمان قائلاً:

«في سنة خمس وثلاثين کثر الطعن علي عثمان وظهر عليه النکير لأشياء ذکروها من فعله، منها: ما کان بينه وبين عبداللَّه بن مسعود، وانحراف هذيل عن عثمان من أجله. ومن ذلک ما نال عمّار بن ياسر من الفتق والضرب، وانحراف بني مخزوم عن عثمان من أجله. ومن ذلک فعل الوليد بن عقبة في مسجد الکوفة... ومن ذلک ما فعل بأبي ذرّ[1] .

[صفحه 281]

بينما ذکر اليعقوبي أسباب الثورة علي النحو الآتي:

«نقم الناس علي عثمان بعد ولايته بستّ سنين، وتکلّم فيه من تکلّم، وقالوا: آثر القرباء، وحمي الحِمي، وبني الدار، واتّخذ الضياع والأموال بمال اللَّه والمسلمين، ونفي أبا ذّر صاحب رسول اللَّه وعبد الرحمن بن حنبل، وآوي الحکم بن أبي العاص وعبداللَّه بن سعد بن أبي سرح طريدَي رسول اللَّه، وأهدر دم الهرمزان؛ ولم يقتل عبيد اللَّه بن عمر به، وولّي الوليد بن عقبة الکوفة، فأحدث في الصلاة ما أحدث، فلم يمنعه ذلک من إعاذته إيّاه. وأجاز الرجم؛ وذلک أنّه کان رجم امرأة من جهينة دخلت علي زوجها فولدت لستّة أشهر، فأمر عثمان برجمها. فلمّا اُخرجت دخل إليه عليّ بن أبي طالب فقال: إنّ اللَّه عزّ وجلّ يقول: «وَ حَمْلُهُ و وَ فِصَلُهُ و ثَلَثُونَ شَهْرًا»[2] وقال في رضاعه: «حَوْلَيْنِ کَامِلَيْنِ»،[3] فأرسل عثمان في أثر المرأة، فوُجدت قد رُجمت وماتت. واعترف الرجل بالولد»[4] .

وأشار الطبري في تاريخه إلي بعض من تلک العوامل، متجاهلاً العوامل الاُخري، قائلاً:

«قد ذکرنا کثيراً من الأسباب التي ذکر قاتلوه أنّهم جعلوها ذريعةً إلي قتله، فأعرضنا عن ذکر کثير منها لعلل دعت إلي الإعراض عنها»[5] .

کان الکلام إلي الآن يدور حول أسباب الثورة علي عثمان. بَيد أنّ النکتة

[صفحه 282]

الأکثر أهمّية هي دراسة ماهيّة الأفراد والفصائل المشارکة في الثورة.

من الواضح أنّ الذين شارکوا في تلک الواقعة لم يکونوا کلّهم علي هدف واحد، وکان لبعضهم غايات اُخري تختلف عن غايات الآخرين. ولکن يمکن علي العموم تلخيص العوامل المشترکة بينهم بما يلي:



صفحه 279، 280، 281، 282.





  1. مروج الذهب: 350:2.
  2. الأحقاف: 15.
  3. البقرة: 233.
  4. تاريخ اليعقوبي: 173:2.
  5. تاريخ الطبري: 365:4، الکامل في التاريخ: 286:2 نحوه.