كلام في خيبة أعدائه











کلام في خيبة أعدائه



روي ابن أبي الحديد عن شيخه أبي جعفر الإسکافي أنّه قال: لولا ما غلب علي الناس من الجهل وحبّ التقليد؛ لم نحتج إلي نقض ما احتجّت به العثمانيّة، فقد علم الناس کافّة أنّ الدولة والسلطان لأرباب مقالتهم، و عرف کلّ أحدٍ علوّ أقدار شيوخهم و علمائهم و اُمرائهم، و ظهور کلمتهم، و قهر سلطانهم، و ارتفاع التقيّة عنهم، والکرامة والجائزة لمن روي الأخبار والأحاديث في فضل أبي بکر، و ما کان من تأکيد بني اُميّة لذلک، وما ولّده المحدّثون من الأحاديث طلباً لما في أيديهم، فکانوا لا يألون جهداً في طول ما ملکوا أن يُخملوا ذکر عليّ عليه السلام وولده، و يطفئوا نورهم، و يکتموا فضائلهم و مناقبهم و سوابقهم، و يحملوا علي شتمهم وسبّهم و لعنهم علي المنابر.

فلم يزل السيف يقطر من دمائهم، مع قلّة عددهم وکثرة عدوّهم؛ فکانوا بين قتيل وأسير، وشريد وهارب، ومستخفٍ ذليل، وخائف مترقّب، حتي إنّ الفقيه والمحدّث والقاضي والمتکلّم، لَيُتقدّم إليه و يُتوعّد بغاية الإيعاد و أشدّ العقوبة، أن يذکروا شيئاً من فضائلهم، ولا يرخّصوا لأحدٍ أن يُطيف بهم.

[صفحه 388]

وحتي بلغ من تقيّة المحدّث أنّه إذا ذکر حديثاً عن عليّ عليه السلام کَنَي عن ذکره، فقال: قال رجل من قريش؛ و فعل رجل من قريش، و لا يذکر عليّاً عليه السلام، ولا يتفوّه باسمه.

ثمّ رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله، و وجّهوا الحيل والتأويلات نحوها، من خارجيٍّ مارق، و ناصب حَنِق، وثابتٍ مستبهم، و ناشي ءٍ معاند، و منافقٍ مکذّب، و عثمانيٍّ حسود؛ يعترض فيها و يطعن، و معتزلي قد نقض في الکلام، و أبصر علم الاختلاف، و عرف الشُّبَه و مواضع الطعن و ضروب التأويل، قد التمس الحيل في إبطال مناقبه، وتأوّل مشهور فضائله، فمرّة يتأوّلها بما لا يحتمل، ومرّة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقض، و لا يزداد مع ذلک إلّا قوّة ورفعة، و وضوحاً و استنارة.

و قد علمت أنّ معاوية ويزيد ومن کان بعدهما من بني مروان أيّام ملکهم- وذلک نحو ثمانين سنة- لم يدعوا جهداً في حمل الناس علي شتمه ولعنه، وإخفاء فضائله، وستر مناقبه و سوابقه.

روي خالد بن عبداللَّه الواسطي عن حصين بن عبدالرحمن عن هلال بن يساف عن عبداللَّه بن ظالم قال: لمّا بويع لمعاوية أقام المغيرة بن شعبة خطباء يلعنون عليّاً عليه السلام، فقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ألا ترون إلي هذا الرجل الظالم يأمر بلعن رجل من أهل الجنّة؟!.

روي سليمان بن داود عن شعبة عن الحرّ بن الصباح قال: سمعت عبدالرحمن بن الأخنس يقول: شهدت المغيرة بن شعبة خطب، فذکر عليّاً عليه السلام، فنال منه.

روي أبوکريب قال: حدّثنا أبواُسامة قال: حدّثنا صدقة بن المثنّي النخعي

[صفحه 389]

عن رياح بن الحارث، قال: بينما المغيرة بن شعبة بالمسجد الأکبر وعنده ناس، إذ جاءه رجل يقال له: قيس بن علقمة، فاستقبل المغيرة فسبّ عليّاً عليه السلام.

روي محمّد بن سعيد الأصفهاني عن شريک عن محمّد بن إسحاق عن عمرو بن عليّ بن الحسين عن أبيه عليّ بن الحسين عليه السلام، قال: قال لي مروان: ما کان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبکم، قلت: فما بالکم تسبّونه علي المنابر؟ قال: إنّه لا يستقيم لنا الأمر إلّا بذلک!!

روي مالک بن إسماعيل أبوغسّان النهدي عن ابن أبي سيف قال: خطب مروان والحسن عليه السلام جالس، فنال من عليّ عليه السلام، فقال الحسن: ويلک يا مروان! أهذا الذي تشتم شرّ الناس! قال: لا، و لکنّه خير الناس.

وروي أبوغسّان أيضاً قال: قال عمر بن عبدالعزيز: کان أبي يخطب، فلا يزال مستمرّاً في خطبته، حتي إذا صار إلي ذکر عليّ وسبّه تقطّع لسانه، واصفرّ وجهه، و تغيّرت حاله، فقلت له في ذلک فقال: أوَقد فطنت لذلک؟ إنّ هؤلاء لو يعلمون من عليّ ما يعلمه أبوک ما تبعنا منهم رجل.

وروي أبوعثمان قال: حدّثنا أبواليقظان قال: قام رجل من ولد عثمان إلي هشام بن عبدالملک يوم عرفة فقال: إنّ هذا يوم کانت الخلفاء تستحبّ فيه لعن أبي تراب!

وروي عمرو بن القنّاد عن محمّد بن فضيل عن أشعث بن سوّار قال: سبّ عديّ بن أوطاة عليّاً عليه السلام علي المنبر، فبکي الحسن البصري و قال: لقد سُبّ هذا اليوم رجل إنّه لَأخو رسول اللَّه صلي الله عليه و سلم في الدنيا والآخرة.

وروي عديّ بن ثابت عن إسماعيل بن إبراهيم قال: کنت أنا وإبراهيم بن يزيد

[صفحه 390]

جالسين في الجمعة ممّا يلي أبواب کندة، فخرج المغيرة فخطب فحمد اللَّه، ثمّ ذکر ما شاء أن يذکر، ثمّ وقع في عليّ عليه السلام فضرب إبراهيم علي فخذي أو رکبتي ثمّ قال: أقبِل عليَّ فحدِّثني؛ فإنّا لسنا في جمعة؛ ألا تسمع ما يقول هذا؟

وروي عبداللَّه بن عثمان الثقفي قال: حدّثنا ابن أبي سيف قال: قال ابن لعامر بن عبداللَّه بن الزبير لولده: لا تذکر يا بنيّ عليّاً إلّا بخير؛ فإنّ بني اُميّة لعنوه علي منابرهم ثمانين سنة، فلم يزِده اللَّه بذلک إلّا رفعة. إنّ الدنيا لم تبنِ شيئاً قطّ إلّا رجعت علي ما بَنَت فهدمته، وإنّ الدين لم يبنِ شيئاً قطّ وهدمه.

وروي عثمان بن سعيد قال: حدّثنا مطّلب بن زياد عن أبي بکر بن عبداللَّه الأصبهاني قال: کان دعيّ لبني اُميّة يقال له خالد بن عبداللَّه لا يزال يشتم عليّاً عليه السلام، فلمّا کان يوم جمعة و هو يخطب الناس قال: واللَّه إن کان رسول اللَّه لَيستعمله و إنّه ليعلم ما هو، و لکنّه کان خَتَنه،[1] و قد نعس سعيد بن المسيّب ففتح عينيه ثمّ قال: ويحکم! ما قال هذا الخبيث؟ رأيت القبر انصدع و رسول اللَّه صلي الله عليه و سلم يقول: کذبت يا عدوّ اللَّه.

وروي القنّاد قال: حدّثنا أسباط بن نصر الهمداني عن السدّي قال: بينما أنا بالمدينة عند أحجار الزيت،[2] إذ أقبل راکب علي بعير، فوقف فسبّ عليّاً عليه السلام، فخفّ به الناس ينظرون إليه، فبينما هو کذلک، إذ أقبل سعد بن أبي وقّاص فقال: اللهمّ إن کان سبّ عبداً لک صالحاً فأرِ المسلمين خزيه، فما لبث أن نفر به بعيره، فسقط فاندقّت عنقه.

[صفحه 391]

وروي عثمان بن أبي شيبة عن عبداللَّه بن موسي عن فُطْر بن خليفة عن أبي عبداللَّه الجدلي قال: دخلت علي اُمّ سلمة رحمها اللَّه، فقالت لي: أيُسبّ رسول اللَّه صلي الله عليه و سلم فيکم وأنتم أحياء؟ قلت: وأنّي يکون هذا؟ قالت: أليس يُسبّ عليّ عليه السلام ومن يُحبّه؟

وروي العبّاس بن بَکّار الضبّي قال: حدّثني أبوبکر الهذلي عن الزهري قال: قال ابن عبّاس لمعاوية: ألا تکفّ عن شتم هذا الرجل؟ قال: ما کنت لأفعل حتي يربو عليه الصغير ويهرم فيه الکبير، فلمّا وُلّي عمر بن عبدالعزيز کفّ عن شتمه، فقال الناس: ترک السُّنّة.

قال: و قد روي عن ابن مسعود- إمّا موقوفاً عليه أو مرفوعاً-: کيف أنتم إذا شملتکم فتنة يربو عليها الصغير، ويهرم فيها الکبير، يجري عليها الناس فيتّخذونها سنّة، فإذا غُيِّر منها شي ء قيل: غُيّرت السُّنّة؟

قال أبوجعفر: وقد تعلمون أنّ بعض الملوک ربّما أحدثوا قولاً أو ديناً لهويً، فيحملون الناس علي ذلک حتي لا يعرفوا غيره، کنحو ما أخذ الناس الحجّاج بن يوسف بقراءة عثمان، و ترک قراءة ابن مسعود واُبيّ بن کعب، و توعّد علي ذلک بدون ما صنع هو وجبابرة بني اُميّة، وطغاة مروان بولد عليّ عليه السلام و شيعته، و إنّما کان سلطانه نحو عشرين سنة، فما مات الحجّاج حتي اجتمع أهل العراق علي قراءة عثمان، و نشأ أبناؤهم و لا يعرفون غيرها؛ لإمساک الآباء عنها، و کفّ المعلّمين عن تعليمها حتي لو قُرئت عليهم قراءة عبداللَّه واُبيّ ما عرفوها، و لظنّوا بتأليفها الاستکراه والاستهجان؛ لإلف العادة و طول الجهالة؛ لأنّه إذا استولت علي الرعيّة الغلبة، وطالت عليهم أيّام التسلّط، وشاعت فيهم المخافة، وشملتهم التقيّة، اتّفقوا علي التخاذل والتساکت، فلا تزال الأيّام تأخذ من بصائرهم، و تنقص من

[صفحه 392]

ضمائرهم، و تنقض من مرائرهم،[3] حتي تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنّة التي کانوا يعرفونها.

و لقد کان الحجّاج و مَن ولّاه کعبد الملک والوليد و من کان قبلهما وبعدهما من فراعنة بني اُميّة علي إخفاء محاسن عليّ عليه السلام و فضائله و فضائل ولده و شيعته و إسقاط أقدارهم؛ أحرص منهم علي إسقاط قراءة عبداللَّه و اُبيّ؛ لأنّ تلک القراءات لا تکون سبباً لزوال ملکهم و فساد أمرهم و انکشاف حالهم، و في اشتهار فضل عليّ عليه السلام وولده و إظهار محاسنهم بوارهم، و تسليط حکم الکتاب المنبوذ عليهم، فحرصوا واجتهدوا في إخفاء فضائله، و حملوا الناس علي کتمانها وسترها، و أبي اللَّه أن يزيد أمره وأمر ولده إلّا استنارة و إشراقاً، و حبّهم إلّا شَغفاً و شدّة، و ذکرهم إلّا انتشاراً و کثرة، و حجّتهم إلّا وضوحاً و قوّة، و فضلهم إلّا ظهوراً، و شأنهم إلّا علوّاً، و أقدارهم إلّا إعظاماً، حتي أصبحوا بإهانتهم إيّاهم أعزّاء، و بإماتتهم ذکرهم أحياء، و ما أرادوا به و بهم من الشرّ تحوّل خيراً.

فانتهي إلينا من ذکر فضائله و خصائصه و مزاياه و سوابقه، ما لم يتقدّمه السابقون، و لا ساواه فيه القاصدون، و لا يلحقه الطالبون، و لولا أنّها کانت کالقبلة المنصوبة في الشهرة، وکالسنن المحفوظة في الکثرة؛ لم يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد إذا کان الأمر کما وصفناه.[4] .

[صفحه 393]



صفحه 388، 389، 390، 391، 392، 393.





  1. الختن: زوج البنت (انظر النهاية: 10:2).
  2. أحْجار الزَّيْت: موضع بالمدينة، وهو موضع صلاة الاستسقاء (معجم البلدان: 109:1).
  3. المرائر: الحبال المفتولة علي أکثر من طاق (النهاية: 317:4) وهو کناية عن الضعف وعدم الاستحکام.
  4. شرح نهج البلاغة: 219:13.