تعذيب محبّيه و تشريدهم و قتلهم











تعذيب محبّيه و تشريدهم و قتلهم



6332- شرح نهج البلاغة: روي أنّ أباجعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام قال لبعض أصحابه: يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيّانا وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس! إنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و سلم قُبض وقد أخبر أنّا أولي الناس بالناس، فتمالَأتْ علينا قريش حتي أخرجت الأمر عن معدنه، واحتجّت علي الأنصار بحقّنا وحجّتنا، ثمّ تداولتها قريش واحد بعد واحد، حتي رجعت الينا، فنکثَت بيعتَنا و نصبت الحرب لنا، و لم يزَل صاحب الأمر في صعود کؤود[1] حتي قتل.

فبُويع الحسن ابنه، وعوهد، ثمّ غُدر به، واُسلم، ووثب عليه أهل العراق حتي طُعن بخنجر في جنبه، و نُهبت عسکره، و عولجت[2] خلاليل اُمّهات أولاده، فوادع معاوية، وحقن دمه ودماء أهل بيته وهم قليل حقّ قليل.

[صفحه 362]

ثمّ بايع الحسينَ عليه السلام من أهل العراق عشرون ألفاً، ثمّ غدروا به، وخرجوا عليه وبيعتُه في أعناقهم، وقتلوه، ثمّ لم نزَل- أهلَ البيت- نُستذلّ ونُستضام ونُقصي ونُمتهن ونُحرم ونُقتل ونُخاف ولا نأمن علي دمائنا ودماء أوليائنا. ووجد الکاذبون الجاحدون؛- لکذبهم وجحودهم- موضعاً يتقرّبون به إلي أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في کل بلدة، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المکذوبة، ورووا عنّا ما لم نقُله وما لم نفعله؛ ليُبغّضونا إلي الناس. وکان عظم ذلک وکبره زمن معاوية بعد موت الحسن عليه السلام؛ فقُتلت شيعتنا بکل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل علي الظِّنّة، وکان من يُذکر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن، أو نُهب ماله، أو هُدمت داره، ثمّ لم يزَل البلاء يشتدّ ويزداد إلي زمان عبيداللَّه بن زياد قاتل الحسين عليه السلام.

ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم کلّ قتلة، وأخذهم بکلّ ظِنّة وتهمة، حتي أنّ الرجل ليُقال له: «زنديق» أو «کافر» أحبّ إليه من أن يُقال: «شيعة عليّ»، وحتي صار الرجل الذي يُذکر بالخير- ولعلّه يکون ورعاً صدوقاً- يُحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ولم يخلق اللَّه تعالي شيئاً منها، ولا کانت، ولا وقعت، وهو يحسب أنّها حقّ؛ لکثرة من قد رواها ممّن لم يُعرف بکذب ولا بقلّة ورع.

وروي أبوالحسن عليّ بن محمّد بن أبي سيف المدايني في کتاب الأحداث قال: کتب معاوية نسخة واحدة إلي عمّاله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمّة ممّن روي شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته. فقامت الخطباء في کلّ کورة وعلي کل منبر يلعنون عليّاً، ويبرؤون منه، ويقَعون فيه وفي أهل بيته. وکان أشدّ الناس بلاء حينئذ أهل الکوفة؛ لکثرة من بها من شيعة عليّ عليه السلام، فاستعمل عليهم زياد بن

[صفحه 363]

سميّة، وضمّ إليه البصرة، فکان يتتبّع الشيعة- وهو بهم عارف؛ لأ نّه کان منهم أيّام عليّ عليه السلام- فقتلهم تحت کلّ حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسَملَ[3] العيون، وصلبهم علي جذوع النخل، وطردهم، وشرّدهم عن العراق، فلم يبقَ بها معروف منهم.

وکتب معاوية إلي عمّاله في جميع الآفاق ألّا يجيزوا لأحد من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة، وکتب إليهم: أن انظروا مَن قِبَلکم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم، وقرّبوهم، وأکرموهم، واکتبوا لي بکلّ ما يروي کلّ رجل منهم، واسمه، واسم أبيه وعشيرته. ففعلوا ذلک، حتي أکثروا في فضائل عثمان، ومناقبه؛ لما کان يبعثه إليهم معاوية من الصِّلات والکساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فکثر ذلک في کلّ مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجي ء أحد مردود من الناس عاملاً من عمّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلّا کتب اسمه، وقرّبه، وشفّعه، فلبثوا بذلک حيناً.

ثمّ کتب إلي عمّاله: إنّ الحديث في عثمان قد کثر وفشا في کلّ مصر، وفي کل وجه وناحية، فإذا جاءکم کتابي هذا فادعوا الناس إلي الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين، ولا تترکوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلّا وتأتوني بمناقض له في الصحابة؛ فإنّ هذا أحبّ إليّ، وأقرّ لعيني، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان و فضله.

فقرئت کتبه علي الناس، فرويت أخبار کثيرة- في مناقب الصحابة- مفتعلة

[صفحه 364]

لا حقيقة لها. وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجري، حتي أشادوا بذِکر ذلک علي المنابر، واُلقي إلي معلّمي الکتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلک الکثير الواسع، حتي رووه وتعلّموه کما يتعلّمون القرآن، وحتي علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلک ما شاء اللَّه.

ثمّ کتب إلي عمّاله نسخة واحدة إلي جميع البلدان: انظروا مَن قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه.

وشفع ذلک بنسخة اُخري: من اتّهمتُموه بموالاة هؤلاء القوم فنکِّلوا به، واهدموا داره. فلم يکن البلاء أشدّ ولا أکثر منه بالعراق، ولا سيما بالکوفة، حتي أنّ الرجل من شيعة عليّ عليه السلام ليَأتيه من يثِق به فيدخل بيته فيُلقي إليه سرّه، ويخاف من خادمه ومملوکه، ولا يُحدّثه حتي يأخذ عليه الأيمان الغليظة لَيکتمنّ عليه. فظهر حديث کثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضي علي ذلک الفقهاء والقضاة والولاة.

و کان أعظم الناس في ذلک بليّة القرّاء المراؤون، والمستضعفون الذين يُظهرون الخشوع والنسک، فيفتعلون الأحاديث؛ ليَحظُوا بذلک عند وُلاتِهم، و يقربوا مجالسهم، ويُصيبوا به الأموال والضياع والمنازل. حتي انتقلت تلک الأخبار والأحاديث إلي أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الکذب والبهتان، فقبلوها، ورووها وهم يظنّون أنّها حقّ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها، ولا تديّنوا بها.

فلم يزَل الأمر کذلک حتي مات الحسن بن عليّ عليه السلام، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبقَ أحد من هذا القبيل إلّا و هو خائف علي دمه، أو طريد في الأرض.

ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين عليه السلام، وولي عبدالملک بن مروان فاشتدّ علي

[صفحه 365]

الشيعة، وولّي عليهم الحجّاج بن يوسف، فتقرّب إليه أهل النسک والصلاح والدين ببغض عليّ وموالاة أعدائه، وموالاة من يدّعي من الناس أنهم أيضاً أعداؤه، فأکثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأکثروا من الغضّ[4] من عليّ عليه السلام، وعيبه، والطعن فيه، والشنآن له، حتي أنّ إنساناً وقف للحجّاج- ويقال: إنّه جدّ الأصمعيّ عبدالملک بن قريب- فصاح به: أيّها الأمير إنّ أهلي عقّوني فسمّوني عليّاً، وإنّي فقير بائس، وأنا إلي صلة الأمير محتاج. فتضاحک له الحجاج، وقال: للُطف ما توسّلت به قد ولّيتک موضع کذا.

وقد روي ابن عرفة- المعروف بنفطويه، وهو من أکابر المحدّثين وأعلامهم- في تاريخه ما يناسب هذا الخبر، وقال: إنّ أکثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعلت في أيّام بني اُميّة؛ تقرّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يُرغمون به اُنوف بني هاشم.[5] .



صفحه 362، 363، 364، 365.





  1. عَقَبة کَؤود: شاقّة المصعد، صعبة المرتقي (لسان العرب: 374:3).
  2. المعالَجة: المزاولة والممارسة، وعالجتُ بني اسرائيل: أي مارستُهم فلقيتُ منهم شدّة (مجمع البحرين: 1254:2).
  3. سملُ العين: فقؤها؛ يقال: سُملت عينُه؛ إذا فُقئت بحديدة محماة (لسان العرب: 347:11).
  4. غَضَّ: وَضَع ونقصَ (لسان العرب: 197:7).
  5. شرح نهج البلاغة: 43:11؛ بحارالأنوار: 68:44 وفيه إلي «بقلّة ورع».