المدخل











المدخل



الحبّ عنوان قيّم ومتأ لّق في سماء الثقافة الإسلاميّة. وقد أکّدت التعاليم الدينيّة علي المحبّة أيّما تأکيد. وجاءت جملة «هل الدين الّا الحب؟» لتبلغ بالحبّ مکانة عليّة. ولکن ما معني الحبّ؟ ومن الذي ينبغي حبّه؟ هذا السؤال وما شابهه من الأسئلة الاُخري أجابت عنها التعاليم الدينيّة علي نحو مستفيض، ولکن لا مجال لذکره في هذا المدخل.[1] .

بيد أنّنا نؤکّد هنا علي أنّ حبّ الجمال وحبّ الوجوه الطافحة بالصلاح والکرامة والمروءة أمر فطريّ، ولا يتسنّي القول بأنّ من يبقي علي فطرته النقيّة ولا تتدنّس توجّهاته السليمة بلوث الانحراف؛ لا يميل- تلقائيّاً- إلي حبّ کلّ ما هو جميل و نبيل و کريم، و لا تتوق نفسه إلي المعالي و المکارم.

لقد أوصي رسول اللَّه صلي الله عليه و سلم بحبّ عليّ عليه السلام واعتبر محبّة «آل اللَّه» من الإيمان. وهل کلّ هذا إلّا استلهام للواقع، وإرشاد إلي الحقّ والحقيقة، وإلي کلّ ما ينبثق

[صفحه 180]

من ذات الإنسان؟! إنّ عليّاً زاخر بکلّ معاني الجمال، وينبوع دافق يفيض بالفضائل والمکارم وجميع المحامد. وما هذا الواقع الصادق إلّا تجسيد لتلک الحقيقة السامية التي بعثت السرور في نفوس الناس کلّهم بشتّي نحلهم ومشاربهم ومذاهبهم، سواء کانوا من الأصدقاء أم من الأعداء.[2] .

وهل «آل اللَّه» أحد سواهم... بيد أنّ المجال لايتّسع هنا للإطناب في القول فيهم. ولکن نظراً إلي أهمّية الموضوع، ونفاسة المطلب يبدو من غير اللائق طيّ صفحة الحديث بدون الإشارة إلي غيض من هذا الفيض. وهکذا رأينا أنّ من الأجدر بنا أن نتحدّث بإيجاز عن لزوم حبّ عليّ عليه السلام وآل اللَّه في ضوء آية من آيات الکتاب الکريم، ثمّ نبحث باقتضاب في السرّ الکامن وراء التأکيد البالغ علي حبّ عليّ وآل عليّ في ضوء آية کريمة، ثمّ نلخّص الکلام في ضوء معطيات الأحاديث النبويّة، وفي أعقاب ذلک ندعو القارئ إلي التأمّل في الأحاديث.

لقد أمر الباري سبحانه وتعالي رسوله الکريم في سورة الشوري- التي يترکّز محور موضوعاتها علي الوحي وأبعاد رسالة الرسول صلي الله عليه و سلم- بأن يقول للناس:

«قُل لَّآ أَسْئَلُکُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي».[3] .

ياللعجب! لقد أتي القرآن الکريم علي ذکر شعار کلّ الأنبياء؛ وأکّد أنّهم جميعاً کانوا يقولون: «وَ مَآ أَسْئَلُکُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَي رَبِّ الْعَلَمِينَ»[4] ولکنّ الرسول صلي الله عليه و سلم أمر أن يُعلِن للناس بأنّ أجر رسالتي موّدة أقاربي. ولو وُضعت هذه

[صفحه 181]

الآية الکريمة إلي جانب الآيات الاُخري التي تناولت هذا الموضوع، لاتّضحت لنا حقيقة محتواها.

فقد جاء في آية اُخري: «قُلْ مَا سَأَلْتُکُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَکُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَي اللَّهِ»،[5] وجاء في آية اُخري: «قُل لَّآ أَسْئَلُکُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِکْرَي لِلْعَلَمِينَ».[6] وهذا يفيد بأنّ ما اُريد من الاُمّة إنّما يصبّ في صالحها، وإلّا فالکتاب الإلهي «ذکرٌ» للناس کافّة ولا أجر عليه.

وجاء في آية اُخري: «قُلْ مَآ أَسْئَلُکُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَي رَبِّهِ ي سَبِيلاً»[7] وهو يفيد بأنّ لهذا الأجر علاقة مباشرة بالدعوة وقبولها، ومعناه أنّ اختيار الناس للأمر الذي أعرضه عليهم هو بمثابة الأجر بالنسبة لي، وليس هناک من أجر بعده.

وهکذا يتّضح لنا من هنا، ومن خلال الاستنارة بمفاد الآيات الاُخر بأنّ هذه المودّة تعود أيضاً إلي تلبية الدعوة، والآية دالّة علي أنّ هذا الطلب تعود فائدته عليکم. أي هناک نفي قاطع للأجر تارة، وتأکيد علي أنّ الأجر علي من يريد أن يتّخذ إلي ربّه سبيلاً تارة اُخري، ويأتي التصريح في ختام المطاف بأنَّ الأجر الذي يطلبه منهم تعود منفعته عليهم، وفي النهاية إنّ أجري «مودّة أقاربي».

إذاً يتّصف «أجري» بالخصائص التالية:

1- إنّ منفعته لا تعود عليَّ أبداً.

[صفحه 182]

2- إنّ منفعته تعود عليکم بأکملها.

3- إنّه ممّا يمهّد لکم السبيل إلي اللَّه.

وهکذا يتّضح بأنَّ «الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي»، امتداد لنهج الرسالة، واستمرار لخطّ الرسول صلي الله عليه و سلم.

لقد بيّن رسول اللَّه صلي الله عليه و سلم هذا المعني، وکشف عن مصداقه علي طريق إبلاغ الأهداف العامّة للدين. وعلي هذا المنوال فقد حدّد في ضوئه مستقبل زعامة الاُمّة الإسلاميّة، وصرّح لمن سأله عمّن يکون اُولئک القربي، قائلاً: «عليّ وفاطمة وابناهما».

ويتجلّي لنا من ذلک بأنّ تفسير الرسول صلي الله عليه و سلم لهذه الآية يأتي في السياق العامّ لإبلاغ الرسالة، والتأکيد علي امتداد طريق الرسالة، مع الحرص علي إنارة طريق الغد أمام الاُمّة الإسلاميّة.

إنّ الروايات الکثيرة التي تحدّثت عن مودّة آل محمد صلي الله عليه و سلم، وأوجبت محبّتهم واعتبرت الموت علي محبّتهم شهادة في سبيل اللَّه، وعداوتهم نفاقاً، وبغض عليّ عليه السلام نفاقاً، إنّما جاءت لإيجاد تيّار يسير في خطّهم، والوقاية من ظهور مناهض لهم، ومُعادٍ- مآلاً- لتعاليم الدين ومعارف القرآن. ومع أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و سلم کان يري امتداد نهجه متجسّداً في «آل اللَّه»، فقد ألقي عب ء حمل رسالته علي کاهل أبرز مصداق ل «آل اللَّه» وهو عليّ عليه السلام، معتبراً أيّة مواجهة له مواجهة للرسول؛ أي لايسوغ لمن کانت لديه فطرة سليمة وإيمان راسخ، ويعرف الحقّ ويسير عليه، أن يبغض عليّاً عليه السلام. أليس هو الرجل المعروف بکلّ معاني الجمال وحميد الخصال ومکارم الأخلاق والصفات؟ وهل توجد فطرة سليمة لا تحبّ الجمال وتأبي التغنّي بالملاحم في سبيل معاني الجمال؟! وهل يمکن أن يکون

[صفحه 183]

الإنسان علي الحقّ ولا يحبّ المثال الذي يتجسّد فيه الحقّ بعينه؟!... «فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَلُ».[8] .

کيف يتواءم ارتداء ثياب الإيمان الجميلة، وإيکال القلب إلي اللَّه، مع عدم حبّ علي عليه السلام بما يمثّله من ذوبان في اللَّه، وتجسيد لأسمي معاني حبّ اللَّه وعبادته، وما يعکسه من أعلي درجات الإيمان؟ وهذا ما يحيط اللثام عن سرّ قوله عليه السلام:

«لو ضربتُ خيشوم المؤمن بسيفي هذا علي أن يُبغضني ما أبغضني، ولو صَبَبتُ الدنيا بِجَمّاتِها علي المنافق علي أن يحبّني ما أحبّني، وذلک انه قُضي فانقضي علي لسان النبيّ الاُمّي صلي الله عليه و سلم أنّه قال: يا عليّ، لا يبغضک مؤمن ولا يُحبّک منافق».[9] .

وهنا مکمن السرّ الذي غرس حبَّ عليّ عليه السلام في قلوب مؤمنين صالحين طاهرين راسخ إيمانهم، ونقيّة قلوبهم، وجعل حبّه ثابتاً بين ثنايا أرواحهم ولايزول حتي في أقسي وأمرّ ظروف الحياة. فسطّروا بأقدام ثابتة أروع الملاحم، وخلّدوا بدافق دمائهم معاني العزّة والمقاومة والإيمان بالحقّ وحبّ الحقّ علي ناصية التاريخ، من أمثال حُجر، ورشيد، وميثم، وعمرو بن الحمق وغيرهم

[صفحه 185]



صفحه 180، 181، 182، 183، 185.





  1. راجع کتاب «المحبّة في القرآن والسنّة».
  2. راجع: القسم التاسع.
  3. الشوري: 23.
  4. الشعراء: 180 ،164 ،145 ،127 ،109.
  5. سبأ: 47.
  6. الانعام: 90.
  7. الفرقان: 57.
  8. يونس: 32.
  9. راجع: خصائص محبّيه:الإيمان.