تذكير ضروري: الورع والتقوي











تذکير ضروري: الورع والتقوي



وقد يدور بخلد بعض الناس السؤال التالي: إنه کيف يمکن أن نصدق أن يقدم عشرات الألوف من الصحابة علي مخالفة ما رسمه النبي [صلي الله عليه وآله] لهم في أمر الخلافة والإمامة. وهم أصحابه الذين رباهم علي الورع والتقوي، وقد مدحهم الله عز وجل في کتابه العزيز، وذکر فضلهم، وهم الذين ضحوا في سبيل هذا الدين، وجاهدوا فيه بأمواله وأنفسهم!!

ونقول في الجواب:

إن ما يذکرونه حول الصحابة أمر مبالغ فيه. وذلک لأن

[صفحه 88]

الصحابة الذين حجوا مع النبي [صلي الله عليه وآله] قبيل وفاته، وإن کانوا يعدون بعشرات الألوف.

ولکن لم يکن هؤلاء جميعاً من سکان المدينة، ولا عاشوا مع النبي [صلي الله عليه وآله] فترات طويلة، تسمح له بتربيتهم وتزکيتهم، وتعليمهم وتعريفهم علي أحکام الإسلام، ومفاهيمه.

بل کان أکثرهم من بلاد أخري بعيدة عن المدينة أو قريبة منها وقد فازوا برؤية النبي [صلي الله عليه وآله] هذه المرة، وقد يکون بعضهم قد رآه قبلها أو بعدها بصورة عابرة أيضاً، وقد لا يکون رآه.

ولعل معظمهم ـ بل ذلک هو المؤکد ـ قد أسلم بعد فتح مکة، وفي عام الوفود، سنة تسع من الهجرة: فلم يعرف من الإسلام إلا اسمه، ومن الدين إلا رسمه، مما هو في حدود بعض الطقوس الظاهرية والقليلة.

وقد تفرق هؤلاء بعد واقعة الغدير مباشرة، وذهب کل منهم إلي أهله وبلاده.

ولم يبق مع رسول الله بعد حادثة الغدير، الا أقل القليل، ربما بضعة مئات من الناس، ممن کان يسکن المدينة.

[صفحه 89]

وربما کان فيهم العديد من الخدم والعبيد، والأتباع، بالإضافة إلي المنافقين والذين مردوا علي النفاق، ممن أخبر الله عن وجودهم، وأنهم کانوا ممن حولهم الأعراب ومن أهل المدينة، ولم يکن رسول الله [صلي الله عليه وآله] يعلمهم بصورة تفصيلية، وکان الله سبحانه هو الذي يعلمهم..[1] .

قال تعالي: {وَمِمَّنْ حَوْلَکُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَي النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}[2] .

هذا إلي جانب فئات من الناس، من أهل المدينة نفسها، کانوا لا يملکون درجة کافية من الوعي للدين، وأحکامه ومفاهيمه، وسياساته، بل کانوا مشغولين بزراعاتهم، وبأنفسهم، وملذاتهم، وتجاراتهم، فإذا رأوا تجارة أو لهواً، انفضوا إليها، وترکوا النبي [صلي الله عليه وآله] قائماً.

وقد تعرض کثير من الناس منهم لتهديدات النبي [صلي الله عليه وآله] بحرق بيوتهم، لأنهم کانوا يقاطعون صلاة الجماعة التي کان يقيمها رسول الله [صلي الله عليه وآله] بالذات، کما أنه قد کان ثمة جماعة اتخذت لنفسها مسجداً تجتمع فيه، وترکت الحضور في جماعة المسلمين، وهو ما عرف بمسجد الضرار، وقد هدمه [صلي الله عليه وآله]، کما هو معروف.

وتکون النتيجة هي أن من کان في ساحة الصراع والعمل السياسي في المدينة، هم أهل الطموحات، وأصحاب النفوذ من قريش،

[صفحه 90]

صاحبة الطول والحول في المنطقة العربية بأسرها. بالإضافة إلي أفراد معدودين من غير قريش أيضاً.

فکان هؤلاء هم الذين يدبرون الأمور، ويوجهونها بالإتجاه الذي يصب في مصلحتهم، ويؤکد هيمنتهم، ويحرکون الجماهير بأساليب متنوعة، اتقنوا الاستفادة منها بما لديهم من خبرات سياسية طويلة.

فکانوا يستفيدون من نقاط الضعف الکثيرة لدي السذَّج والبسطاء، أو لدي غيرهم ممن لم يستحکم الإيمان في قلوبهم بعد، ممن کانت تسيِّرهم الروح القبلية، وتهيمن علي عقلياتهم وروحياتهم المفاهيم والرواسب الجاهلية.

وکان أولئک الذين وترهم الإسلام ـ أو قضي علي الإمتيازات التي لا يستحقونها، وقد استأثروا بها لأنفسهم ظلماً وعلوا ـ کانوا ـ يسارعون إلي الاستجابة إلي أي عمل يتوافق مع أحقادهم، وينسجم مع مشاعرهم وأحاسيسهم الثائرة ضد کل ما هو حق وخير، ودين وإسلام.

وهذا هو ما عبر عنه رسول الله [صلي الله عليه وآله] حينما ذکر: أن تأخيره إبلاغ أمر الإمامة بسبب أنه کان يخشي قومه، لأنهم قريبو عهد بجاهلية، بغيضة ومقيتة، لا يزال کثيرون منهم يعيشون بعض مفاهيمها، وتهيمن عليهم بعض أعرافها.

[صفحه 91]

وهکذا يتضح:

أن الأخيار الواعين من الصحابة، کانوا قلة قليلة. وحتي لو کثر عددهم، فإن الآخرين هم الذين کانوا يقودون التيار، بما تهيأ لهم من عوامل وظروف، في المدينة التي کانت بمثابة قرية صغيرة، لا يصل عدد سکانها إلي بضعة ألوف من الناس، قد عرفنا بعض حالاتهم، فکان أن تمکنوا من صرف أمر الخلافة بعد رسول الله [صلي الله عليه وآله] عن أصحابها الشرعيين، إلي غيرهم، حسبما هو مذکور ومسطور في کتب الحديث والتاريخ.



صفحه 88، 89، 90، 91.





  1. الظاهر: أنه لا يعلمهم في مقام الظاهر، وفقاً لوسائل العلم العادية، أما بعلم الشاهدية، فإنه کان صلي الله عليه وآله يري أعمال الخلائق...
  2. الآية 101 من سورة التوبة.