سياسة الفضائح











سياسة الفضائح



ولکن ذلک لم يکن ليمنعهم من ادعاء التوبة عما صدر، والندم علي ما بدر منهم، وادعاء أن النبي صلي الله عليه وآله قد رضي عليهم وسامحهم، وأنه قد استجدت أمور دعت النبي إلي العدول عن ذلک کله، وأنه صرف النظر عن تولي الإمام علي عليه السلام للأمور بعده.. لأنه رأي أن العرب لن ترضي بهذا الأمر، لأن علياً عليه السلام قد وترها، وقتل رجالها.. أو لغير ذلک من أسباب..

1ـ فکانت قضية تجهيز جيش أسامة، وظهور عدم انصياعهم لأوامر النبي صلي الله عليه وآله في المسير مع ذلک الجيش، حتي إنه صلي الله عليه وآله قد لعن من تخلف عن جيش أسامة..

کانت هذه القضية هي الدليل الآخر علي أنهم لا يزالون علي سياساتهم تجاه النبي صلي الله عليه وآله، وأنهم لا يزالون بصدد عصيان أوامره، رغم شدة غضبه صلي الله عليه وآله، منهم، ولعنه لهم..

وقد يعتذرون عن ذلک بأن حبهم للنبي صلي الله عليه وآله، وخوفهم من أن يحدث له أمر في غيبتهم، هو الذي دعاهم إلي هذا العصيان، فليس هو عصيان عن سوء نية، بل هو يدل علي أنهم في غاية درجات الحسن والصلاح..

ثم إنهم قد يقولون للناس ـ وقد قالوا ذلک بالفعل ـ: إن لعن النبي لهم هو من أسباب زيادة درجات الصلاح فيهم، حيث رروا عنه صلي الله عليه وآله زوراً وبهتاناً، أنه قال:

[صفحه 83]

«والله إني بشر، أرضي وأغضب، کما يغضب البشر، اللهم من سببته، أو لعنته، فاجعل ذلک زکاة له ورحمة»..[1] .

2ـ فجاءت قضية صلاة أبي بکر بالناس، في مرض موته صلي الله عليه وآله، وعزل النبي صلي الله عليه وآله له عنها، لتفسد عليهم أي ادعاء لأن يکون أهلاً لما هو أدني من مقام إمامة الأمة، وخلافة النبوة، فإن عدم أهليته حتي للإمامة في الصلاة، فضلاً عن التي لا تحتاج إلا إلي تصحيح القراءة والعدالة، يکشف عن عدم صلاحيته لمقام الإمامة الذي يحتاج إلي العلم، وإلي العدالة، وإلي الشجاعة، وإلي غير ذلک من صفات..

ولکن قد يعتذرون عن ذلک بالتشکيک في اشتراط العدالة، ويروون عن النبي صلي الله عليه وآله زوراً وبهتاناً أيضاً أنه قال: «صلوا خلف کل بر وفاجر».. ثم يفتي فقهاؤهم بذلک، أو يدّعون أن النبي هو الذي صلي خلف أبي بکر، کما صلي ـ بزعمهم الفاسد ورأيهم الکاسد ـ خلف عمرو بن العاص.. ويدّعون.. ويدّعون..

3ـ فجاءت قضية کتابة النبي صلي الله عليه وآله الکتاب الذي لن يضلوا بعده أبداً، لتظهر کيف أنهم لا يتورعون حتي عن اتهام النبي صلي الله عليه وآله في عقله، حتي ليقول قائلهم: «إن النبي ليهجر»!! أو قال کلمة معناها: «غلبه الوجع».

وکان القائل لذلک هو عمر بن الخطاب بالذات.

رغم أنه صلي الله عليه وآله ما قال لهم: أريد أن أعين الخليفة بعدي، بل قال: «أکتب لکم کتاباً لن تضلوا بعدي أبداً».. فواجهوه بهذا الأمر العظيم، فکيف لو زاد علي ذلک ما هو أوضح وأصرح؟!

ألا يحتمل أن يبادروا حتي إلي قتله؟!

[صفحه 84]

ثم إنهم قد يعتذرون عن ذلک أيضاً بأن عمر بن الخطاب قد ندم وتاب، وقد يدعون أنه اعتذر إلي النبي صلي الله عليه وآله وأنه صلي الله عليه وآله قد صفح عنه وسامحه.

بل لقد قالوا: إن ما صنعه عمر، من منع النبي صلي الله عليه وآله من کتب الکتاب کان هو الأصح والأصلح، وأنه لو کتب ذلک الکتاب لاختلف المسلمون، ولکانت المصيبة أعظم.

4ـ فجاء ما جري علي السيدة الزهراء عليه السلام ليؤکد إصرارهم علي مناوأة النبي صلي الله عليه وآله في أهدافه، وعلي أنهم لا يتورعون حتي عن الاعتداء علي البنت الوحيدة لرسول الله صلي الله عليه وآله.. إلي حد إسقاط الجنين وکسر الضلع، والضرب إلي حد التسبب باستشهادها.. وذلک بعد أن جمعوا الألوف من المقاتلين خصوصاً من قبيلة بني أسلم. التي کانت تعيش بالقرب من المدينة أعرابيتها، وقد قال تعالي: {وَمِمَّنْ حَوْلَکُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ}[2] .

وقد يقولون للناس أيضاً: لعن الله الشيطان لقد کانت ساعة غضب وعجلة، ولم نکن نحب أن نسيء إلي بنت رسول الله صلي الله عليه وآله.. وقد ندمنا أعظم الندم علي ما صدر وبدر منا ـ رغم أن لنا، أسوة برسول الله صلي الله عليه وآله، فإنه إذا کان النبي قد بدر منه حين الغضب ما لا يناسب مقامه، فکيف يمکن تنزيه غيره صلي الله عليه وآله عن مثل ذلک..

وهذا معناه: أن ما صدر منهم لا يعني بالضرورة أنهم لا يصلحون لمقام الإمامة والخلافة، خصوصاً وأن ما صدر منهم تجاه السيدة الزهراء إنما کان في ساعات حرجة، فيه الکثير من الانفعال والتوتر، وقد کانوا ـ بزعمهم ـ يسعون فيها إلي حفظ الإسلام، قبل انتشار الأمر، وفساد التدبير..

5ـ فجاءت قضية فدک لتبين أن هؤلاء غير صادقين فيما يدعونه، وأنهم يفقدون أدني المواصفات لمقام خلافة النبوة فهم:

غير مأمونين علي دماء الناس، کما أظهره فعلهم بالسيدة الزهراء عليه السلام.

[صفحه 85]

وغير مأمونين علي أعراضهم کما أوضحه هتکهم لحرمة بيتها وهي التي تقول: خير للمرأة أن لا تري رجلاً ولا يراها رجل.

وغير مأمونين علي أموال الناس کما أوضحه ما صنعوه في فدک..

فإذا کانوا لا يحفظون أموال ودماء وعرض رسول الله، فهل يحفظون دماء وأعراض وأموال الضعفاء من الناس العاديين؟!

وإذا کانوا يجهلون حکم الإرث، فقد علمتهم إياه السيدة الزهراء عليها السلام.

وبعد التعليم، والتذکير فإن الإصرار يدل علي فقدانهم لأدني درجات الأمانة والعدل.

فهل يمکنهم بعد ذلک کله ادعاء أنهم يريدون إقامة العدل، وحفظ الدماء، والأعراض، والأموال، وتعليم الناس دينهم، وتربيتهم، وبث فضائل الأخلاق فيهم، وغير ذلک..

وعلي کل حال، فإن النتيجة هي أن هؤلاء القوم قد أصروا علي صرف هذا الأمر عن الإمام علي عليه السلام، ونکثوا بيعته، وأجبروا الناس علي البيعة لهم..

[صفحه 86]

وقد توسلوا للوصول إلي أهدافهم بقوة السلاح، حيث جهزوا ألوفاً من المقاتلين من قبيلة بني أسلم، وعرضوا علي الناس البيعة وأهانوهم، من أجل ذلک، وسحبوهم إلي البيعة من بيوتهم، سحباً وحملوهم عليها قهراً، وجبراً، کما صرحت به النصوص التاريخية.

بل إنهم صاروا يبحثون عن الناس في بيوتهم، ويخرجونهم منها بالقوة، وکان هناک من يدلهم علي البيوت التي اختبأ فيها أفراد لا يريدون البيعة لأبي بکر..

وبعد، فإنه إن کان هناک أفراد يحبون نصرة الإمام علي عليه السلام، فکيف يصلون إليه، بعد أن تضايقت سکک المدينة ببني أسلم؟! وأخذوا عليهم أقطار الأرض، وآفاق السماء؟!!

وقد کان ذلک بعد وفاة النبي [صلي الله عليه وآله]، وإحساسهم بالأمن، وبالقوة.

{فَمَن نَّکَثَ فَإِنَّمَا يَنکُثُ عَلَي نَفْسِهِ}[3] .

{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا کَانُوا يَفْتَرُونَ}[4] .

[صفحه 87]



صفحه 83، 84، 85، 86، 87.





  1. راجع: الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج 6 ص 70.
  2. الآية 101 من سورة التوبة.
  3. الآية 10 من سورة الفتح.
  4. الآية 13 من سورة العنکبوت.