التدبير النبوي











التدبير النبوي



وتوضيحاً لما جري نقول:

لقد حج النبي صلي الله عليه وآله، في تلک السنة، فاجتمع إليه مئة وعشرون ألفاً، أو تسعون ألفاً، أو سبعون ألفاً.. ليحجوا معه، وقيل غير ذلک..[1] .

وکان معظم هؤلاء الناس قد أسلموا، أو أرسلوا وفوداً إلي المدينة ليعلموه بإسلامهم بعد فتح مکة أي في سنة تسع ـ سنة الوفود ـ وسنة عشر، وأما المسلمون من عدا هؤلاء، وأهل المدينة أنفسهم، فکانوا قلة قليلة جداً، حتي إن النبي صلي الله عليه وآله، قال لهم في سنة ست: «اکتبوا لي کل من تلفظ بالإسلام» فکتب له حذيفة ألفاً وخمس مئة رجل..[2] .

وفي رواية أخري: «ونحن ما بين الست مئة إلي السبع مئة»..[3] ولا شک أن فيهم صحيح الإيمان، وفيهم المدخول والمنافق قال تعالي: {وَمِمَّنْ حَوْلَکُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَي النِّفَاقِ}[4] .

ومن الواضح: أن الذين تلفظوا بالإسلام کانوا منتشرين في المدينة وحولها، وفي الحبشة أيضاً، وفي غير ذلک من المناطق.

وقد فرض الإسلام وجوده، وهيبته تلک السنين التي کانت زاخرة بالتحديات، وسمع به القاصي والداني..

وکان المهاجرون في المدينة، فريقان:

أحدهما: الأنصار، وهم أهل المدينة أنفسهم.

والآخر: القرشيون المهاجرون من مکة ـ بصورة عامة ـ.

[صفحه 74]

وکان المهاجرون يدبرون لإبعاد أمر الخلافة بعد رسول الله صلي الله عليه وآله عن الإمام علي عليه السلام، وقد تعاهدوا وتعاقدوا علي ذلک..

وکان المراقب لتصرفاتهم في مختلف الموارد يدرک مدي انحرافهم عن الإمام علي عليه السلام، وأنهم تکتل واضح المرامي والأهداف، ظاهر التباين والاختلاف، لا مجال لأن يفکر بالإنصياع للتوجيهات النبوية، ولا حتي للقرارات الإلهية فيما يرتبط بالإمام علي عليه السلام، في مختلف الظروف والأحوال..

وقد حج منهم مع رسول الله بضع عشرات، قد لا يصلون إلي المئات.. ولکن ثقلهم الحقيقي کان في مکة، التي أظهرت في السنة الثامنة من الهجرة، الاستسلام للإسلام، بالإضافة إلي ما حولها من البلاد والعباد، الذين يخضعون لنفوذها، ويلتقون في مصالحهم معها..

ولأجل ذلک وجد المهاجرون الطامحون، في قريش، وفي مکة وما والاها، عضداً قوياً، وسنداً لهم، شجعهم علي مواجهة رسول الله صلي الله عليه وآله، بهذه الحدة والشدة التي سلفت الإشارة إليها..

وبعد أن فعلوا فعلتهم الشنيعة تلک، وظنوا أنهم قد ربحوا معرکتهم ضد رسول الله صلي الله عليه وآله، بمنعهم إياه من الإعلان علي الحجيج تنصيب علي في مقام الإمامة.

کان التخطيط النبوي الحکيم يقضي، بأن يخرج النبي صلي الله عليه وآله من مکة فور انتهاء مراسم الحج مباشرة، ومن دون تفويت ساعة، بل دقيقة واحدة من الوقت، فنفر في اليوم الثالث عشر من مني بعد الزوال..[5] وبعد أن طاف بالبيت خرج من مکة..[6] .

لأن أي تعلل، أو تأخر، سوف يکون معناه أن يخرج أشتات من الناس إلي بلادهم ولا يتمکن النبي صلي الله عليه وآله، من إيصال ما يريد إيصاله إليهم.

وقد قطع صلي الله عليه وآله المسافة ما بين مکة والجحفة، حيث يوجد غدير خم، وهي عشرات الکيلومترات، ـ فقطعها ـ في أربعة أيام فقط، ثم نصب علياً هناک إماماً للأمة، وبايعه حتي أشد الناس اعتراضاً علي رسول الله، ولم يجرؤا علي التفوه ببنت شفة إلا همساً..

لأنهم وجدوا أنفسهم أفراداً قليلين، لا يتجاوزون بضع عشرات من الناس بين عشرات الألوف، فإن حماتهم، وهم مکة وما ولاها، قد بقيت وراء ظهورهم، وأما اليمن، فقد أسلمت طائفة من أهلها قبل أيام يسيرة علي يد الإمام علي عليه السلام، الذي لحق برسول الله صلي الله عليه وآله في مکة.. مع بعض من أسلم علي يديه..

ظهور الأحقاد والمصارحة المرة:

[صفحه 75]

وقد تقدمت کلمات أمير المؤمنين [عليه الصلاة والسلام] التي صرح فيها بأن العرب کرهت أمر محمد [صلي الله عليه وآله]، وحسدته علي ما آتاه الله من فضله، واستطالت أيامه، حتي قذفت زوجته، ونفرت به ناقته.

ولولا أن قريشاً جعلت اسمه ذريعة للرياسة، وسلماً إلي العز والإمرة، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً.

وعلي هذا، فإن من الطبيعي جداً: بعد أن جري ما جري منهم معه [صلي الله عليه وآله] في مني وعرفات وبعد أن تأکد لديهم إصرار النبي [صلي الله عليه وآله] علي جعل الأمر في أهل بيته، ولعلي [عليه السلام] علي وجه الخصوص، أن يظهر الحقد والبغض علي وجوههم، وفي حرکاتهم وتصرفاتهم، وعلي مجمل مواقفهم. وصاروا يعاملون رسول الله [صلي الله عليه وآله] معاملة غريبة، وبصورة بعيدة حتي عن روح المجاملة الظاهرية.

وقد واجههم رسول الله [صلي الله عليه وآله] بهذه الحقيقة، وصارحهم بها، في تلک اللحظات بالذات. ويتضح ذلک من النص المتقدم في الفصل السابق والذي يقول:

[صفحه 76]

عن جابر بن عبدالله: أن رسول الله [صلي الله عليه وآله] نزل بخم فتنحي الناس عنه، ونزل معه علي بن أبي طالب، فشق علي النبي تأخر الناس، فأمر علياً، فجمعهم، فلما اجتمعوا قام فيهم متوسداً [يد] علي بن أبي طالب، فحمد الله، وأثني عليه.. ثم قال:

«أيها الناس، إنه قد کَرِهْتُ تخلفکم عني، حتي خُيِّلَ إلي: أنه ليس شجرة أبغض إليکم من شجرة تليني»[7] .

وروي ابن حبـان بسند صحيح علي شرط البخاري ـ کما رواه آخرون بأسانيد بعضها صحيح أيضاً:

إنه حين رجوع رسول الله [صلي الله عليه وآله] من مکة، ـ حتي إذا بلغ الکديد أو [قدير]، جعل ناس من أصحابه يستأذنون، فجعل [صلي الله عليه وآله] يأذن لهم.

فقال رسول الله [صلي الله عليه وآله]:

«ما بال شق الشجرة التي تلي رسول الله أبغض إليکم من الشق الآخر؟».

قال: فلم نر من القوم إلا باکياً.

قال: يقول أبو بکر: «إن الذي يستأذنک بعد هذا لسفيه في نفسي الخ..»[8] .

[صفحه 77]



صفحه 74، 75، 76، 77.





  1. راجع السيرة النبوية لأحمد دحلان باب حجة الوداع.
  2. الإحتجاج ج1 ص200 والبحار ج28 ص202 والصراط المستقيم ج2 ص82 عن کتاب أبطال الاختيار، بسنده عن أبان بن عثمان، عن الإمام الصادق عليه السلام.
  3. راجع ذلک في کتاب: السوق في ظل الدولة الإسلامية ص68.
  4. الآية 101 من سورة التوبة.
  5. السيرة الحلبية ط سنة 1391 هـ ج3 ص306.
  6. المصدر السابق ج3 ص307.
  7. راجع: مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص 25 والعمدة لابن البطريق ص 107 والغدير ج 1 ص 22 عنه وعن الثعلبي في تفسيره، کما في ضياء العالمين.
  8. الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ج1، ص 444 ومسند أحمد ج4، ص 16 ومسند الطيالسي ص 182 ومجمع الزوائد ج10، ص 408 وقال: رواه الطبراني، والبزاز بأسانيد رجال بعضها عند الطبراني والبزاز رجال الصحيح، وکشف الأستار عن مسند البزار ج4، ص 206 وقال في هامش [الإحسان]: إنه في الطبراني برقم: 4556 و4559 و4557 و4558 و4560.