نظرة حول الحديث











نظرة حول الحديث



إن نظرنا إلي علم مولانا عليّ بن أبي طالب عليه السلام وجدنا ينبوعاً ومورداً لا ينضب، فهو الّذي يقول علي ملأ من النّاس: «سَلُوني قَبلَ أن تَفقِدُوني»، ومَن ذا الّذي يجترئ من النّاس أن يقول هذا الکلام علي المنبر في اُلوف من الخلق؟ وما يؤمنه أن يسأله سائل عن مسألة لا يکون عنده جوابها فيخجله فيها؟ لا يجترئ علي هذه الدعوي إلّا من يثق بنفسه بأنّ عنده جواب کلّ ما يُسئل عنه، ولديه إحاطة وإلمام بکلّ أطراف العلم وجوانبه.

فهل المسألة مختصّة بعلم من العلوم، أو ناحية من النواحي حتّي يجرؤ أحد علي الکلام دون أن يکون مؤيّداً بتأييد إلهي، وواثقاً من نفسه کلّ الوثوق بأنّه لا يغيب عنه جواب مسألة، مهما دقّت وأشکلت؟ إنّ هذا المقام يقصر العقل عن الإحاطة به.

يُسئل وهو علي المنبر عن المسافة فيما بين المشرق والمغرب، فيجيب بأنّه مسيرة يوم للشمس، وهو جواب مقنع أحسن ما يجاب به هذا السؤال.

ويُسئل عن المسافة بين السماء والأرض، فأجاب عليه السلام قائلاً: «دعوة مستجابة».[1] .

وسئل عمّا بين الحقّ والباطل فيقول: مسافة أربع أصابع، الحقّ أن تقول: رأيت بعيني، والباطل أن تقول: سمعت باُذُني.

ويسئل عن رجلين مع أحدهما خمسة أرغفة، ومع الآخر ثلاثة، فجلس معهما ثالث وأکلوا الأرغفة الثمانية، وطرح إليهما الثالث ثمانية دراهم، وغير ذلک من قضاياه، وهي أدلّ علي أنّه مؤيّد من عند اللَّه تعالي، وأنّه کان واثقاً من نفسه کلّ الوثوق بأنّه لا يغيب عنه جواب مسألة، فيقول: «سلوني قبل أن تفقدوني».

وفي (شرح ابن أبي الحديد) في ذيل الخطبة الثانية والتسعين، قال عليه السلام: «فَاسأَلُوني قَبلَ أنْ تَفْقِدُوني، فَوَالَّذي نَفْسي بِيَدِهِ لا تَسْأَلُونَني عَنْ شَيْ ءٍ فِيما بَيْنَکُمْ وَبَيْنَ السّاعَةِ وَلا عَنْ فِئَةٍ تهدي مائةً وَتُضِلُّ مائةً إِلَّا أَنْبَأْتُکُمْ بِناعِقِها وَقائِدِها وَسائِقِها، ومُناخِ رِکابِها، وَمَحَطّ رِحالِها، وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِها قَتْلاً، وَمَنْ يَمُوتُ مِنهمُ مَوْتاً»، قال: روي ابن عبدالبرّ في (الاستيعاب) عن جماعة من الرواة والمحدّثين، قالوا: لم يقل أحد من الصحابة «سلوني» إلّا عليّ بن أبي طالب عليه السلام... إلي آخره.[2] .

قال العلّامة الخوئي رحمه الله في شرحه علي نهج البلاغة: إنّ أمره للمخاطبين بالمسألة في کلّ موقف ومکان وکلّ وقت وزمان مع عدم تقييد المسؤل عنه بشي ء مخصوص، يدلّ علي غزارة علمه، وأنّه البحر الّذي لا يساحل، والحبر الّذي لا يطاول، وأنّه عالم بجميع العلوم، وفارس ميدانها، وسابق حلباتها، وحائز قصبات رهانها، ومبيّن غوامضها، وصاحب بيانها، والفارس المتقدّم عند إحجام فرسانها، وتأخّر أقرآنها وأنّه فيها کلّها قد بلغ الغاية القصوي، وفضل فيها جميع الوري، فاسمع به وأبصر، فلا تسمع بمثله غيره ولا تري، واهتدِ إلي اعتقاد ذلک بناره فما کلّ نار أضرمت نار قري، ولنِعم ما قيل:


قال أسألوني قبل فقدي وذا
إبانة عن علمه الباهر


لو شئت أخبرت عمّا قد مضي
وما بقي في الزمن الغابر


ويکفي في إيضاح ذلک قوله: «علّمني رسول اللَّه صلي الله عليه و آله من العلم ألف باب، فانفتح لي من کلّ باب ألف باب».

فإذا کان المعلّم المؤدّب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وهو أکمل العالمين، وأعلاهم في درجات العرفان واليقين، والتلميذ المتعلّم أمير المؤمنين عليه السلام، وهو في الفطنة والذکاء أفضل البارعين، فيحقّ له أن يبلغ أقصي غايات الکمال، وينال نهايات معارج العلم والمعرفة، ويتمکّن من قول: «سلوني قبل أن تفقدوني» إلي آخره.[3] .







  1. أقول: هذا الجواب هو عين الواقع؛ لعدم تناهي الأبعاد بصورة ظاهريّة بين السماء والأرض، وأنّ اللَّه تعالي لا يخلو منه مکان وزمان، والمقصود الدعاء في جواب عليّ عليه السلام، الدعوة المستجابة إذ تسري في هذه الأجواء الّتي لا تتناهي إذا استجيبت ورفعت إلي السماء، ولم تمنع عن الصعود في العوالم اللّانهائيّة.
  2. شرح ابن أبي الحديد 46:7.
  3. شرح نهج البلاغة للخوئي 172:11.