عشرة من أصحابه بين يدي معاوية











عشرة من أصحابه بين يدي معاوية



أخرج القندي الحنفي في (أشعة الأنوار في فضل حيدر الکرّار) بسنده: لمّا اجتمع النّاس إلي معاوية بن أبي سفيان کتب إلي زياد بن سميّة، وکان عامله بالکوفة: أوفد علَيَّ أشراف أصحاب عليّ بن أبي طالب ولهم الأمان، وليکونوا عشرة نفر: خمسة من أهل الکوفة وخمسة من أهل البصرة، فلمّا ورد عليه الکتاب بعث إلي حجر بن عديّ، وعديّ بن حاتم الطائي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وهاني بن عروة المرادي، وعامر بن واثلة الکناني - وکان يکنّي بأبي الطفيل - ودعاهم [ أن] تجهّزوا إلي أمير المؤمنين، فقد جعل لکم الأمان وأحبّ رؤيتکم.

وکتب إلي خليفته بالبصرة أن أوْفِدْ إلَيَّ الأحنف بن قيس، وصعصعة بن صوحان، وحارثة بن قدامة السعدي، وخالد بن معمر السدوسي، وشريک بن الأعور، فلمّا قدموا عليه أشخصهم جميعاً إلي معاوية، فلمّا قدموا علي معاوية حجبهم يومهم وليلتهم، وبعث إلي رؤوساء الشام، فلمّا جاءوا وأخذوا مجالسهم قال معاوية لصاحب إذنه:

أدخل علَيَّ حجر بن عديّ، فلمّا دخل وسلّم، قال له معاوية: يابن الأدبر، القبيح المنظر، أنت القاطع منّا الأسباب، والملتمس بحربنا الثواب، والمساعد علينا أبا تراب؟

فقال حجر: صه - يا معاوية - لا تذکر رجلاً کان للَّه خائفاً، ولما يسخطه عائفاً، وبما يرضي اللَّه عارفاً، خميص الضلوع، طويل الرکوع، کثير السجود، ظاهر الخشوع، قليل الهجوع، قائماً بالحدود، طاهر السريرة، محمود السيرة، نافذ البصيرة، ملک أمرنا فکان کبعضنا، لم يبطل حقّاً ولم يظلم أحداً... ثمّ بکي حتّي نشج، ثمّ رفع رأسه، فقال: أمّا توبيخک إيّاي فيما کان من نفسي، فاعلم - يا معاوية - أنّي غير معتذر ا ليک ممّا فعلت، ولا مکترث ممّا صنعت، فاعلن بسرّک وأظهر أمرک. فقال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عنّي، ثمّ قال معاوية لصاحب اذنه: وأدخل علَيَّ عمرو بن الحمق الخزاعي، فلمّا دخل عليه قال له معاوية: يا أبا خزاعة، فارقت الطاعة، وأشهرت علينا سيفک، وأهديت إلينا حيفک، فأطلت الإعراض، وشتمت الأعراض، ودلّاک بغرور جهلک المحذور، فکيف رأيت صنع اللَّه بصاحبک؟

قال الراوي: فبکي عمرو حتّي سقط لوجهه، فرفعه الشرطي، فقال: يا معاوية بأبي اُمّي مَن ذکرت وتَنَقَّصْت، کان - واللَّه - العالم بحکم اللَّه، والمجدّ في طاعة اللَّه، المحدود في غيظ اللَّه، الزاهد في الفانية، الراغب في الباقية، لا يظهر منکراً، ولا يظهر تجبّراً، يعمل بما يرضي اللَّه عنه، إلي أن قال: فقد مزّقنا فقده، وتمنّينا الموت بعده. فقال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عنّي.

وأدخل علَيَّ عدي بن حاتم الطائي، فلمّا دخل عليه قال له معاوية: ما أبقي الدهر من ذکر عليّ بن أبي طالب؟ فقال عديّ: فهل رعي إلّا ذکره؟

قال معاوية: وکيف حبّک له؟ فتنفّس الصعداء وقال: حبّي واللَّه جديد لا يبيد، وقد تمکّن من شِغاف الفؤاد إلي يوم المعاد، وقد امتلأ من حبّه صدري، وفاض في جسدي وفکري.

فقال المأمون: يا أمير المؤمنين، أصبح عديّ بعد صفّين ذليلاً، فبکي عديّ رضي الله عنه وأنشأ يقول:


يجادلني معاوية بن حرب
وليس إلي الّذي يبغي سبيل


يذکّرني أبا الحسن عليّاً
وخطبي في أبي حسن جليل


إلي آخر أشعاره.

فقال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عنّي.

وأدخل علَيَّ عامر بن واثلة - وکان يُکنّي أبا الطفيل - فلمّا دخل عليه رحّب به معاوية، فقال أصحابه: مَن هذا الّذي رحّبت به، يا أمير المؤمنين؟ فقال معاوية: هذا خليل أبي تراب، وفارس أهل العراق وشاعرهم يوم صفّين. فقالوا: ألأم فارس، وأفحش شاعر، ونالوا منه، فغضب أبو الطفيل وقال: أما واللَّه - يا معاوية - ما هؤلاء سبّوني، ولا أدري مَن هم، وإنّما أنت شتمتني، فأخبرني مَن هم؟ وإلّا - وحقّ عليّ - شتمتک، فقال معاوية: هذا عمرو بن العاص، وهذا مروان بن الحکم، وهذا سعيد بن العاص وهذا ابن اُختي.

فقال أبو الطفيل: أمّا عمرو فأنطقته جباية مصر، وأمّا مروان وسعيد فأنطقتهما جباية الحجاز، وأمّا ابن اختک فقد وهبتُه لک.

فقال معاوية: يا أبا الطفيل، ما أبقي الدهر لک من حبّ عليّ عليه السلام؟ قال: واللَّه حبّ اُمّ موسي لموسي، وأشکو إلي اللَّه التقصير، قال: فما أبقي اللَّه لک الدهر من وجدک عليه؟ قال: وجد العجوز المقلاة والشيخ الرؤوف، قال: فما بقي من بغضک لنا؟ قال: بغض آدم لإبليس لعنه اللَّه. فقال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عنّي.

وأدخل علَيَّ هاني بن عروة المرادي، فلمّا دخل قال له معاوية: يا هاني، أأنت المائل مع عليّ بن أبي طالب، والمحارب للمسلمين مع عليّ يوم صفّين؟

فقال له هاني: أنّي لک - يا معاوية - بالشرف الشامخ، والمجد الباذخ، وما کنتم إلّا شطيّة يخطفها العرب، حتّي بعث محمّد صلي الله عليه و آله، فلانَ له العباد في جميع البلاد، وأمّا خروجي عليک - يابن هند - فغير متعذر إليک منه، ولو کنت رأيتک ذلک اليوم لنفذت رمحي بين حضنيک! واللَّه ما أحببناک مذ أبغضناک، ولا بعنا السيوف الّتي بها ضربانک، فقال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عنّي.

وأدخل علَيَّ صعصعة بن صوحان، فلمّا دخل عليه نظر فإذا الرجال عليهم السلاح وقوف، ومعاوية جالس علي سريره، فقال صعصعة: سبحان اللَّه! ولا إله إلّا اللَّه، واللَّه أکبر، يرفع بها صوته، فالتفت معاوية يمنة ويسرة، فلم يرَ شيئاً يفزعه، فقال: يا صعصعة، أظنّک تدري ما اللَّه؟ فقال: بلي، واللَّه - يا معاوية - ربّنا وربّ آبائنا الأوّلين، وإنّه لبالمرصاد من وراء العباد. فقال معاوية: يا صعصعة، ما کنت أحبّ أن تقوم هذا المقام حتّي يصيبک ظفر من أظفاري. قال: وأنا يا - معاوية - لقد أحببت أن لا اُحيّيک بتحيّة الخلافة حتّي تجري مقادير اللَّه فيک. فالتفت معاوية إلي عمرو بن العاص، وقال: أوسع لصعصعة ليجلس إلي جانبک، فقال عمرو: لا واللَّه لا أوسعت له علي ترابيّته.

فقال صعصعة: نعم واللَّه - يا عمرو - إنّي لترابي ومن عبيد أبي تراب، ولکنّک مارج من نار، منها خُلقتَ وإليها تعود، ومنها تبعث إن شاء اللَّه.

فقال معاوية: يا صعصعة، واللَّه إنّي هممتُ أن أحبس عطايا أهل العراق في هذه السنة. فقال صعصعة: واللَّه - يا معاوية - لو رمت ذلک منهم لدهمک مائة ألف أمرد، علي مائة ألف أجرد، وصيّروا بطنک ميادين لخيولهم، وقطّعوک بسيوفهم ورماحهم، قال: فامتلأ معاوية غيظاً، وأطرق طويلاً، ثمّ رفع رأسه، وقال: لقد أکرمنا اللَّه حيث يقول لنبيّه: «وَإِنَّهُ لَذِکْرٌ لَکَ وَلِقَوْمِکَ»[1] ونحن قومه، وقال تعالي: «لإِيلَافِ قُرَيشٍ» - إلي قوله: - «وَآمَنَهُم مِن خَوْفٍ»[2] ونحن قريش، وقال تعالي لنبيّه: «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَکَ الْأَقْرَبِينَ»[3] ونحن عشيرته الأقربون. فقال صعصعة: علي رسلک - يا معاوية - فإنّ اللَّه تعالي يقول: «وَکَذَّبَ بِهِ قَوْمُکَ وَهُوَ الْحَقُّ»[4] وأنتم قومه، وقال تعالي: «وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً»[5] (و أنتم قومه) ولو زدتَ زدناک يا معاوية، فافحمه. قال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عنّي.

وأدخل علَيَّ خالد بن معمر السدوسي، فلمّا دخل قال له معاوية: يا خالد، لقد رأيتک تضرب أهل الشام بسيفک علي فرسک الملهوف؟ فقال خالد - يا معاوية -: واللَّه ما ندمتُ علي ما کان منّي، ولا زلت علي عزيمتي أثني، ومع ذلک إنّي عند نفسي مقصّر، واللَّه المستعان والمدبّر.

فقال له معاوية: ما علمت - يا خالد - ما نذرت عند قومک في قومک؟ قال: لا، فقال: نذرتُ أن اُنذر مقاتلهم، وأسبي نساءهم، ثمّ اُفرّق بين الاُمّهات والأولاد فيبايعون، فقال خالد: وما تدري ما قلتُ في ذلک، قال: لا، قال: فاسمعه منّي، فأنشأ يقول:


يروم ابن هند نذره من نسائنا
ودون الّذي يبغي سيوف قواضب


قال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عنّي.

وأدخل علَيَّ جارية بن قدامة السعدي - وکان قصيراً - فلمّا دخل قال له معاوية: أرکضتَ علينا الخيل يوم صفّين في بني سعد تمنّيهم الفتن، وتحملهم علي قديمات الإحن مع قتلة أمير المؤمنين عثمان، وقاتلت اُمّ المؤمنين عائشة، وما أنت إلّا جارية؟ فقال جارية: إنّ اللَّه فضّل علي اسمک اسمي. قال: وکيف ذلک؟ قال: لأنّ جارية لا تکون إلّا من أحياء العرب، والمعاوية لا تکون إلّا من إناث الکلاب، وأمّا ما ذکرت من أمير المؤمنين عثمان، فأنتم خذلتموه وقتلتموه، والدار عند نازحة، وأمّا اُمّ المؤمنين عائشة فلمّا نظرنا في کتاب اللَّه عزّ وجلّ ولم نجد لها علينا حقّاً يلزمنا إلّا أن تطيع ربّها وتقرّ في بيتها، فلمّا ألقت الجلابيب عن وجهها بطل ما کان لها علينا من حقّ، وأمّا رکضي الخيل عليک يوم صفّين فإنّما ذلک حيث أردت أن تقطع أعناقنا عطشاً فلم ننظر في عاقبة، ولم نخف جائحه، فثنينا الخيل مع أقدم النّاس إسلاماً، وأحسنهم کلاماً، وأعلمهم بکتاب اللَّه وسنّة نبيّه، حين أراد جهادک علي بصيرة، وأنتَ علي الحميّة الجاهليّة، فإن أردت نريک مثل ذلک اليوم، فخيلنا معدّة، ورماحنا محدّة. قال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عنّي.

وأدخل علَيَّ شريکاً الحارثي، فلمّا دخل - وکان دميم المنظر - قال له معاوية: إنّک شريک وما للَّه شريک، وإنّک أعور والصحيح خير من الأعور، وإنّک لابن الأصفر والأبيض خير من الأصفر، وإنّک مخالف والمستقيم خيرٌ من المخالف، وإنّک لدميمٌ والجميل خير من الدميم، فکيف سدت قومک؟

فقال شريک: إنّک لمعاوية، وما معاوية إلّا کلبة عَوَت فاستعوت فاستنبحتها الکلاب، فسمّيت معاوية، وإنّک لابن صخر والسهل خير من الصخر، وابن حرب والسلم خيرٌ من الحرب، وابن اُميّة وما اُميّة إلّا اُمّة صغّرتها العرب، فکيف صرت أمير المؤمنين علينا! فأمر معاوية بإخراجه، وهو يقول:


أيشتمني معاوية بن حرب
وسيفي صارم ومعي لساني


وحولي من بني عمّي رجال
ضراغمة نهشّ إلي الطعان


يعيّر بالدمامة من سفاه
وربّات الجمال من الغواني


قال: ثمّ نهض معاوية من مجلسه ودخل داره، وفي اليوم الثاني دعا بهم فاُحضروا وأکرمهم، وردّهم إلي أهليهم مکرّمين.[6] .







  1. سورة الزخرف: 44.
  2. سورة قريش: 4 - 1.
  3. سورة الشعراء: 214.
  4. سورة الأنعام: 66.
  5. سورة الفرقان: 30.
  6. أشعة الأنوار في فضل حيدر الکرّار: 314، والعاشر سقط من الحديث، وهو الأحنف بن قيس.